تعتبر سورة براءة «التوبة» من أواخر ما أنزل من القرآن الكريم حيث نزلت في ظرف هام وقد اتسعت رقعة الإسلام ودخل فيه الغث والسمين والطابور الخامس ، كما أن هذه السور نزلت وقد برز على السطح عدة مخاطر تتهدد كيان الإسلام ومسيرة الإسلام فأتت هذه السورة لبيان مخاطر هؤلاء الأعداء وكيفية معالجتها، إضافة إلى ذلك فإن لهذه السورة خصوصيتها فهي تسمى بالتوبة وبراءة والفاضحة والكاشفة ، كما أنها من بين سور القرآن الكريم لم تفتح بالبسملة لأنها نزلت بمثابة إنذار أخير..
هذه السورة شديدة اللهجة تحمل في ثناياها الغضب الإلهي على أعداء الإسلام من المشركين وأهل الكتاب والمنافقين والذين كانوا يتربصون بالإسلام الدوائر وكان الوعي عند البعض من المسلمين ضعيفاً إزاء هؤلاء الأعداء ومخاطرهم حيث كان الكثير يحسن الظن، ويستهين بقدر ما يمثله الأعداء من مؤامرة ومخاطر ..
كما أن من خصوصيات هذه السورة أن يتم إبلاغها على مسامع الناس في أكبر تجمع بشري في حينه في أشرف زمان ومكان ، وأن يخصص بتبليغها شخصية مهمة هي الثانية بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ألا وهو الإمام علي عليه السلام بعد أن كان كلف بها أبو بكر الصديق..
إن المتأمل لمضامين هذه السورة يجد أنها قد قدمت الحلول لأهم مشاكل الأمة الكبرى ووضعت البلسم على الجرح وقدمت الضمانات لعدم انحراف مسيرة الإسلام ولعدم خفوت نوره وتقلص رقعته وتراجع دوره إذا ما أخذ بهذه الإضاءات الإلهية والتوجيهات الربانية مأخذ الجد و العمل والاهتمام، كما يجد المؤمن فيها تأكيد مصداق أن القرآن كتاب الله وأنه من عند القائل سبحانه (والله أعلم بأعدائكم) حيث فضح مؤامراتهم ومخططاتهم وكشف خباياهم وأسرارهم..
إن المسلم الواعي الغيور الذي يقطر قلبه أسى على واقع الأمة المرير والمهزوم عندما يبحث عن الأسباب التي أوصلت الأمة إلى هذا المستوى من الضعف والشتات والتيهان سيجد أن السبب الرئيس هو ترك الأمة للعمل بتوجيهات القرآن الكريم هذه السورة التي تناولت العلاقات الخارجية للأمة بغيرها من الأمم والعلاقات الداخلية لبعض المحسوبين على هذه الأمة كطائفة المنافقين والتي احتلت الجزء الأكبر من مساحة موضوعات هذه السورة الكريمة، وهنا نشير إلى بعض الفوائد من هذه السورة:
- إعلانها وقراءتها في موسم الحج الأكبر دليل على أن الحج مؤتمر إسلامي وسياسي يتم فيه مناقشة قضايا الأمة المصيرية، وكانت السورة بمثابة البيان الختامي وهذا مع الأسف ما تم إفراغ مواسم الحج هذه الأيام منه..
- الحج هو المظهر الكبير للوحدة الإسلامية حيث تتجلى هذه الوحدة في الحركة والسكون والملبس والنسك والصلاة وغيرها وبما أن الحج كذلك وهدفه الكبير الوحدة الإسلامية فإن هذه الوحدة لن تدوم طويلاً إذ لم تتحصن الأمة بمعرفة عدوها الحقيقي الذي ذكرته هذه السورة وشنت عليه حرباً إعلامية ضروساً وهم ثلاثي الشر المشركون واليهود والمنافقون ، وإذا لم تتخذ الأمة من هؤلاء مواقف حازمة فإنها لن تصل إلى الوحدة الإسلامية ، فما بالكم إذا والتهم وربطت معهم علاقات مودة وتعاون وصداقة مجالها كما هو حاصل اليوم ولذلك قلنا إن سورة التوبة هي سورة المرحلة التي نعايشها وهي المخرج إذا ما تم تفعيل العمل بها كطوق نجاة من الوضع الراهن..
- جاءت سورة التوبة في أعقاب غزوة تبوك لتتحدث عن فريضة الجهاد حيث ظهر على السطح بكثرة جموع من المنافقين تستروا بالإسلام ولم يسقط قناعهم لا أمام الصلاة ولا الصيام ولا الحج وإنما سقط ويسقط قناعهم وانكشف وينكشف زيفهم دائماً وأبداً عند منعطف الجهاد والقتال في سبيل الله، عندها تأتي الأعذار والتبريرات والعلل والأسباب والدواعي والشواغل ولذلك فإن هذه السورة جاءت لتقول للمسلمين إن الإسلام وقد وضح الطريق في السلم والحرب فالطريق في السلم واضح والطريق في مواجهة العدوان هو الجهاد ولن تقوم للإسلام قائمة إلا بفريضة الجهاد في وقته وحينه، ولذلك فإن أكبر الحلول لما تعانيه الأمة اليوم من هيمنة الاستكبار العالمي والغزو العالمي هو الجهاد مع الوعي وهو ما تذكره هذه السورة بتأكيد لا نظير له..
- إن الوحدة الإسلامية التي ننشدها اليوم لا يعيقها غير الموالاة لليهود والنصارى الذين يرون في وحدتنا خطراً حقيقياً عليهم يريدون أن يحولوا بيننا وبينه، ولذلك فالمنافقون هم الذين ضربوا الأمة من الداخل كآل سعود وهم من يمزق شمل الأمة ويضعفه ويقوي علاقاته مع أعداء الأمة وهذا الأمر تحدثت عنه سورة براءة بوضوح..
- إن البراءة عندما قال الله سبحانه أنها منه ومن رسوله ، حيث قال {براءة من الله ورسوله} فإن معنى ذلك أن المؤمنين ينبغي أن يكونوا هكذا في نفس الخط ؛ لأن البراءة هي تعكس وعياً ويقظة أمام العدو ومخططاته ومشاريعه كما أنها تمثل حالة صحية للمجتمع المسلم وتمثل وعياً سياسياً ودينياً أمام أكبر أعداء الأمة وتمثل قطعاً للطريق للحيلولة دون المزيد من العملاء المنافقين، كما أنها موقف ضروري لابد للمسلم من اتخاذه ، ومن هنا كان الشعار والصرخة التي أطلقها الشهيد القائد حسين بدر الدين الحوثي كتجسيد وتطبيق مبدئي مناسب لما تمليه وتفرضه هذه السورة المباركة التي يصح أن نعتبرها مستنداً لهذا الموقف الحكيم الذي يمثل جبهة مقاومة لمشاريع أعداء الأمة..
- لقد تحدثت سورة التوبة عن الجهاد في سبيل الله كأفضل عمل وأصدق برهان على الإيمان بالله سبحانه عندما قال سبحانه { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} بل لقد وضحت هذه السورة أن فريضة الجهاد هي الفريضة التي لا يكمل الإسلام بدونها ولا يمكن أن يترك المسلم حتى يفوز في الامتحان إلا بها { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} وأعظم من ذلك لقد طلبت السورة بأن يكون حب الله ورسوله وحب الجهاد أعظم من حب الأهل والمال والعشيرة والولد والتجارة وإلا فإن الإنسان من الفاسقين كما قال سبحانه { قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}
وبناء على ذلك فقد طالبت السورة بالنفير العام للجهاد في سبيل الله وتوعد الله فيها من تثاقل ضعفاء الإيمان والمنافقين { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ {التوبة/38} إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} إلى قوله { انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ }
وحقيقة لقد كان الجهاد ولا يزال هو العلامة الفارقة بين المؤمن والمنافق مهما كانت الأعذار الواهية والضعيفة، ولذلك فقد تبنت هذه السورة حرباً شعواء على المنافقين المتعذرين بما لا يوجد مثله في غيرها من سور القرآن حتى سميت بالفاضحة..
- إن أكثر ما ابتليت به الأمة اليوم هي مؤامرات مجتمع المنافقين وللأسف فلم تظهر هذه المؤامرات إلا لكثرة المنافقين وقلة الصادقين ولأن هؤلاء المنافقين قد أصبحوا أهل الحل والعقد والأمر والنهي وبيدهم زمام الحرب والسلم في كثير من دول الإسلام حتى ظن الكثير أن ما يقوم به هؤلاء الحكام المنافقون وعلماؤهم هو الدين، فإذا ما قام الصادقون بالجهاد في سبيل الله وحمل الدين كان الكثير من قاصري الوعي من المسلمين هم من يقف في وجههم وإنا لله وإنا إليه راجعون..
وهنا تكمن أهمية سورة التوبة اليوم فلنجعلها مصباحاً وحكماً بين أهل الحق وبين المنافقين فلو أجراها علماء المسلمين -على سبيل المثال- على حكام آل سعود ومشايخ الخليج وغيرهم الكثير لوجدوهم كما قال سبحانه في المنافقين {هم للكفر يؤمئذ أقرب منهم للإيمان} لكنهم جعلوا سورة التوبة وغيرها للتنافس في الألحان والحفظ والترتيل واعتمدوا في مواقفهم من حكامهم على الأحاديث الضعيفة التي تصادم القرآن ويناقض بعضها بعضاً..
وفي الختام أدعو القارئ الكريم إلى أن يرجع البصر كرتين إلى مفردات وآيات وموضوعات هذه السورة المباركة ليجد الجواب الشافي والضالة المنشودة والبلسم النافع ، فما قلناه ليس إلا توصيفاً بسيطاً وإلا فلا مثل كلام الله سبحانه..
وسيجد المتدبر لهذه السورة المباركة أنها سورة المرحلة توضح لنا ماذا نفعل أمام العدوان يقول سبحانه { الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} وتعالج حالة ضعفاء الإيمان والمنافقين الذين جبنوا عن القتال وتعللوا بالعلل الواهية والأعذار القبيحة فتركوا الجهاد والدفاع عن الدين والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان، وما أكثرهم اليوم وما أحوجهم ؛ لأن يقرأوا مواقف أسلافهم من المنافقين المخذولين الذين تركوا الجهاد المقدس في سبيل الله سبحانه، بل إنهم { لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} هؤلاء يريدون فقط المال والسلاح والغنيمة { فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} وهم أيضاً يتعذرون قائلين { شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا} { وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ} ومع ذلك { وَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} وكيف يكونون من المؤمنين وهم لم يجاهدوا لا بأموالهم ولا بأنفسهم، بل إنهم { الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ولذلك كان حكم الله عليهم قاسياً وموجعاً لعظيم خطرهم على الإسلام والأمة فقال سبحانه : { وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ * وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} وقال سبحانه عنهم { وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُن مَّعَ الْقَاعِدِينَ* رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ {التوبة/87} لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}..
نوّر الله قلوبنا بذكره وكلامه وجعله حجة لنا ورحمة وهدى وبشرى إن ربي لسميع الدعاء