أوقاف الوصايا والترب

نشر بتاريخ: أحد, 13/01/2019 - 9:24م

سعى المسلمون منذ عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعبر مراحل التأريخ وإلى العصر الحديث إلى الإقتداء برسول الله في تثبيت الصدقة الجارية التي لا تنقطع بموت الإنسان ؛ فمن يملك رأس مال أو كانت لديه تجارة رابحة أو يملك عقاراً أو غيرها من الأموال فإنه يفكر بوقف جزء مما وهبه الله كقربة يتقرب بها إلى الله طمعا في ثوابه ورغبة في جنته، أو يوصي بأن جزءاً من ماله وقف لله تعالى بعد وفاته ويشير في وصيته إلى من يقوم بتنفيذ وصيته حتى يثق من خلال الشخص العدل  أن مصرف الوقف سيصير إلى الجهة  المنصوص عليها دون أي تلاعب أو تحايل ..

وقد احتلت الوصية بالوقف مساحة واسعة من مجالات الأوقاف في البلدان الإسلامية وخصوصاً في اليمن ؛ إذ أنها بلغت في اليمن ما يعادل 70% من جملة الأوقاف .. ويعود سر هذه النسبة إلى جهتين :

الأولى : أن أصحابها وجدوا أن الوصية بالوقف تكون من الصدقة الجارية التي تنفعهم عند الله لكونها أشد قربة إليه لأنها خالية من المصلحة الخاصة بخلاف الوقف في الحياة ؛ فقد ينوي الواقف أن يكون المصرف له ولأولاده ويشوبها شيء من المنفعة الخاصة وإن كانت قربة لله..

ولذا يلاحظ أن وصايا الوقف تتجه معظمها في المبرات الخيرية ؛ كقراءة القرآن إلى روح الميت ، أو للفقراء والمساكين وذي القربى والضيف أوعابر سبيل وعميان أو جذمان،أو سبيل ماء ، أو بناء مساجد أو ترميمها ،أ لطلاب العلم أو مساكن للعلماء والمتعلمين ، ولمن افتقر من الذرية بشرط استمراره في طلب العلم ... وغيرها من المبرات .

الثانية : تميزت الوصية بالوقف من جهة أن الموصي يعين في وصيته شخصاً  يثق بأمانته وورعه ليقوم بمهمة التنفيذ والإشراف بما يحقق للموصي الغاية من الوصية .. وهذا فيه نوع من الحفاظ على الوقف من التحايل والتلاعب ،  بخلاف الوصية أثناء الحياة فبمجرد أن يموت الواقف قد تجد من يتلاعب بالوقف أو بمصرفه من خلال التزوير لمقصد الواقف أو التشكيك في صحة الوقف لعدم وجود ما يوثق تفاصيل الوقف في الغالب .. أما الوصية فيكفي أنها تحتفظ بتفاصيل الوقف من حيث النوع والجهة والمصرف ونحوها بما يقلل من النزاعات في المستقبل ؛ وخصوصاً إذا تولى كتابة الوصية وتنفيذها عدل يخاف الله تعالى .. وهذا ماجعل نسبة الوصية بالوقف أكثر من جملة الأوقاف عامة . 

(الوصايا المشهورة في اليمن )

تحتفظ مسودة الجامع الكبير بكثير من الوصايا المتعددة والمتوزعة في أنحاء اليمن ، وتحمل في طياتها تفاصيل دقيقة عن تلك الوصايا من حيث نوع الوصية واسم الموصي والمتولي على الوصية .. وأشهر تلك الوصايا :

- وقف ووصايا محمد بن الحسن .

- وقف ووصايا ابن علوان .

- وقف ووصايا بيت شرف الدين .

- وقف ووصايا المنصور علي - المنصور حسين - المهدي بن عباس - المتوكل أحمد - المهدي عبدالله .

- الوقف الراجحي .

- وقفيات الجامع الكبير .

- وقفيات كثير من المساجد المعروفة .

- وقفيات لفقراء بني هاشم .

أما بالنسبة للوثائق فقد قسمت إلى جهتين :

-الجهة الأولى :  وثائق ومسودات وأحكام في الجامع الكبير ؛ منها : المسودة المطاعية ، والمسودة الأميرية ، والمسودة السنامية .. وغيرها من المسودات التي تسجل كثير من الممتلكات ووقفيتها .

- الجهة الثانية : وصايا وترب ما زالت في أيدي المتولين لنظارة الوقف سابقاً إلى يومنا هذا " كبيت حجر ، وبيت العمري ، وبيت فايع ، وبيت المهدي ، وبيت المنصور ، وبيت المتوكل ، وبيت ابو طالب ، وبيت الطايفي ، وبيت الشبيبي ، وبيت راجح ، وبيت حمزة ، وبيت الجنداري ، وبيت أبو الرجال ، وبيت الجديري ، وبيت الوريث ..."

مع العلم أن هذه الأسر وغيرها ليسوا مالكين ، وإنما هم ممن تولوا نظارة الوصايا ، وبالتالي فما زالت بحوزتهم كثير من مسودات الوصايا ، ولاشك أن تلك المسودات انتقلت إلى أيدي الورثة بعد وفاة المتولين منهم .

 ( الإجراءات السابقة للوصايا )

لم تكن الوصايا الوقفية وليدة الزمن الحاضر بل إنها مرتبطة بزمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ورغم الصراعات السياسية التي كانت تعصف باليمن في حقبها المختلفة إلا أن أئمة أهل البيت "ع" كانوا حريصين على الحفاظ على الأوقاف من المطامع المختلفة في الداخل والخارج لما لها من عائدات كبيرة قد تلهث لها الأفواه ، ويسيل بها اللعاب .. بل إن الأئمة "ع" نصوا في فقه الإمامة أن من واجبات الإمام القائم أو المحتسب هو رعاية الأوقاف والحفاظ عليها ؛ لما في الأوقاف من أهمية كبرى في معالجة كثير من الأمور الاقتصادية على المستوى العام والخاص .. ولذا ققد كانت الإجراءات المتبعة في الأوقاف بشكل عام والوصايا على وجه الخصوص في حكومة أهل البيت "ع" إجمالاً على النحو التالي :

- يتم تعيين "ناظر للوصايا" في كل ناحية ، ولا بد أن يكون من العلماء المتصفين بالورع الشديد والخوف من الله تعالى ، إلى جانب الكفاءة العملية والخبرة الإدارية وإذا وقع الاختيار على من ليس متصفا بالعلم والورع الشديد والخوف من الله ولديه الكفاءة المعتبرة فإن ولي الأمر يجعل رقابة عليه من أهل العلم والورع

- الإشراف العام على تنفيذ الوصية ؛ من خلال الرقابة المشددة على المتولي ، ومعالجة الاختلات ، وفض النزاعات ، ومعاقبة المتلاعبين .. وغالباً ما يكون الإشراف العام من قبل الأئمة أنفسهم ..

ونموذج على الرقابة المشددة والحرص على صرف غلات الوقف في مصارفها الشرعية الإمام العادل أحمد بن الحسين " أبو طير"  إذ يبعث إلى أحد عماله بقوله :  ( ﻭﻣﺎ ﻛﺎﻥ ﻣﻦ ﺃﻭﻗﺎﻑٍ ﻣﺼﺮﻓُﻬﺎ ﺑﻴﺖ اﻟﻤﺎﻝ، ﻛﺎﻥ ﺫﻟﻚ ﻋﻨﺪﻙ ﻣﺤﻔﻮﻇﺎ ﺣﺘﻰ ﻧﻌﻠﻤﻚ ﻛﻴﻔﻴﺔ ﺻﺮﻓﻪ. ﻭﻣﺘﻰ ﻗﺒﻀﺖ ﻫﺬﻩ اﻟﻮاﺟﺒﺎﺕ اﻟﻤﺄﺧﻮﺫﺓ ﻣﻦ اﻟﻨﺎﺱ ﺃﺧﺮﺟﺖ ﺭﺑﻌﻬﺎ ﻭﻣﻴﺰﺗﻪ, ﻭﺃﺣﻄﺖ ﻋﻠﻤﺎ ﺑﻤﺎ ﻓﻲ اﻟﺠﻬﺔ ﻣﻦ اﻷﻳﺘﺎﻡ ﻭاﻟﻀﻌﻔﺎء ﻭاﻟﻔﻘﺮاء ﻭاﻟﻤﺴﻠﻤﻴﻦ ﺃﻫﻞ اﻟﺤﺎﺟﺔ، ﻓﺄﻋﻄﻬﻢ ﻋﻠﻰ ﻗﺪﺭ ﻣﺎ ﻳﺤﺘﻤﻠﻪ ﺣﺎﻟﻬﻢ، ﻓﺈﻥ ﻟﻢ ﺗﺒﻖ ﺷﻴﺌﺎ ﻓﻘﺪ ﺃﺻﺒﺖ ﻓﻲ ﻓﻌﻠﻚ, ﻭﻓﻌﻠﺖ ﻣﺎ ﺃﻣﺮﺕ ﺑﻪ، ﻭﺇﻥ ﺑﻘﻲ ﺷﻲء ﻣﻦ ﺫﻟﻚ، ﺃﻧﻬﻴﺖ ﻋﻠﻤﻪ ﺇﻟﻴﻨﺎ, ﺣﺘﻰ ﻧﺄﻣﺮﻙ ﻓﻴﻪ ﺑﻤﺎ ﻧﻌﺘﻤﺪ ﻋﻠﻴﻪ ﺇﻥ ﺷﺎء اﻟﻠﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ) .

( الإجراءات المتبعة في الوقت الحاضر )

تطورت المسألة بالنسبة للوقت الحاضر ، وأنشأت وزارة خاصة كجهة مسؤولة على الأوقاف والوصايا سميت بوزارة الأوقاف ،..وقد قامت فيما مضى بإنشاء جهة إشرافية على أموال الوقف والوصايا ؛ من خلال ترشيح متولين وناظرين للوصايا من ذوي الكفاءة والنزاهة والأمانة للقيام بالمتابعة والتأجير وجمع الغلول من المستأجرين وإيصالها إلى حساب الأوقاف في البنك المركزي ، وكانت هذه العائدات بمثابة الركيزة الأولى للإقتصاد ، وإعانة الدولة في حل كثير من الكوارث والفقر والمرض ، وتحسين مستوى العلماء والمتعلمين ، وصرفها في مصارفها المعيشية .. لكن وزارة الأوقاف بعد هذه الحقبة  فيما يبدو أنها أهملت قطاع الوصايا بشكل كبير وملموس ، بل حصل أن تم تسريب أوراق الوصايا إلى من يدعون أنهم ورثة .. مما أدى إلى الآتي :

- ضياع كثير من مسودات الوصايا ليتم بيع الأرض الموقوفة على أنها من المال الحر .

- تزوير كثير من مسودات الوصايا من ذوي النفوس المريضة ليتم استغلالها من الناحية الشخصية .

- إدعاء الولاية على الوقف والانتساب للواقف كذباً وزوراً ليتصرف في الأرض على حسب هواه ، وبما يحقق له المصلحة الشخصية .

- كثرة المشاكل والنزاعات على الأراضي والعقارات ، وربما أدى ذلك إلى حدوث قتل بين معظم الأسر المتوارثة ، وقد يؤدي ذلك إلى إرهاق المحاكم وإتعاب القضاء ، وكذلك احتدام الثأر بين القبائل ..

- قيام بعض المتنفذين من كبار المسؤولين بالبسط على كثير من أراضي الوقف وضمها إلى ملكيته ، ومن ثم بيعها أو التصرف يحلو له فيها .. مع أنها من وصايا الوقف الذي لا يجوز بيعها والتصرف فيها إلى بمقتضى الوصية .

- قيام بعض من المسؤولين في نظارة الوصايا بقسمة أموال الوصايا في بعض المحافظات بين بعض الأسر .. وذلك مع علمهم أنها وصايا وقف ولا يجوز بيعها وقسمة عينها بين الورثة .

- قيام بعض المشرفين على أوقاف الوصايا بتحرير أجاير عرصات المباني بمبالغ زهيدة .. بينما هي في الواقع تساوى أكثر من ذلك بكثير .

- قيام السجل العقاري والمحاكم وكذلك الأمناء بتعميد البصائر وفصول القسمة دون البحث عن الأصول ، ويكتفون بالإعلان في الصحف عند التعميد .

- اكتفاء البحث الجنائي بالفحص العابر عن الوثائق ، ثم يصادق على صحتها دون الرجوع إلى الأوقاف والتحري الدقيق في صحتها .

 

( الحلول الممكنة لمعالجة اختلال الوصايا )

بما أن المسؤولية أولا وأخيراً تقع على كاهل وزارة الأوقاف باعتبارها جهة إشرافية ذات ولاية عامة ، كما نصت عليها المادة ( 98) من قانون الوقف الشرعي رقم (23) لعام 1992م :( تقوم وزارة الأوقاف والإرشاد عن ذي الولاية العامة بالإشراف والرقابة والمحاسبة على أوقاف الوصايا المتعلق مصرفها بمصلحة عامة طبقاً لما هو منصوص عليه في هذا القانون ) .

لذلك فإن الواحب عليها أن تعيد النظر في مسألة الوصايا وترتيب أوضاعها بما ينجيها من عذاب الله يوم العرض عليه والوقوف بين  يديه من خلال الآتي :

- توقيف وإلغاء جميع الولايات لأموال الوصايا في جميع المحافظات ، وطلبهم إلى وزارة الأوقاف " قطاع الوصايا" صاحبة الولاية العامة لتجديد الولاية بموجب الوثائق التي تثبت ولا يتهم .

- تقوم وزارة الأوقاف بإصدار تعميم إلى جميع المحاكم والسجلات العقارية بعدم توثيق أو تعميد أي وثيقة أو إجارة أو فصول قسمة إلا بعد الرجوع إلى وزارة الأوقاف .

- التوجيه من وزارة الأوقاف إلى المحاكم بإحالة القضايا من هذا النوع إلى " نيابة الأوقاف" ، وعدم التعامل بدون الوثائق أو تعميد البصائر إلا بموجب حكم الوزارة .

- تقوم الوزارة بإنشاء مركز للمعلومات ، يتم من خلاله حصر وتثبيت جميع أموال الوقف والوصايا ، وإعداد شبكة تربط فروع المحافظات بالوزارة ، وتوحيد مصادر الإفادات ، وتسهيل العمل للموظفين .

- جمع الوثائق المبعثرة لدى الأشخاص الذين تولوا سابقاً ، وتوقفوا عن الإشراف والمتابعة لأموال الوقف والوصايا .

- إعداد أنظمة ثابتة ومتطورة تواكب تطور الحياة والتقسيمات الإدارية الجديدة ( نظام الإشراف - نظام التوريد - نظام الصرف - نظام المراقبة والمحاسبة .... إلخ ) .

- ضبط المزورين واتخاذ كافة الإجراءات القانونية  الصارمة لمن يهدر أموال الوقف والوصايا .

- وضع شروط حازمة فيما يتعلق بإيجارات الوقف والوصايا ، وإصدار قوانين جديدة للأوقاف المستأجرة ، والتشديد على المتحصلين لأموال الوقف العينية والنقدية من قبل المستأجرين .

- إعداد دراسة لإعادة صرفيات غلات الوقف والوصايا وخاصة الأموال التي انعدم مصرفها وتحويلها إلى مصارف مشابهة تساعد على إحياء المساجد والمدارس العلمية ، والمواطن الجهادية والدفاعية ، وإنعاش الفقراء والمساكين وتخفيف معاناتهم .. وغيرها من المبرات الخيرية ..

خاتمة

لا شك أن الأوقاف بما فيها الوصايا والترب مسؤولية عظيمة على عاتق المتولين والمسؤولين ، وفي مقدمتهم وزارة الأوقاف ، والتساهل في شأنها بالتعللات الواهية ؛ من عدم القدرة على ضبطتها إلى ادعاء صعوبتها وتشعاباتها ، إلى الاتهامات المتبادلة في عرقلة أمرها ، إلى صنع الأعذار المترامية حيالها.... إلخ لا تعفيهم من تحمل أعبائها يوم القيامة ؛ وخصوصاً والوعيد في أمرها شديد ، وعاقبتها وخيمة .. ورحم الله من نهض بجناح أو ترك فاستراح ..

والله المستعان .

 

الدلالات: