الشهيد القائد.. نقطة الدم الساخنة

نشر بتاريخ: أحد, 23/04/2017 - 6:02م

الواقع المظلم

أرخى الليل سدوله, وأطبق الظلام, وغط الناس في سبات عميق.

تبددت الآمال, واندست الرؤوس في الرمال, وضاقت السبل, وقلت الحيل, وكثر النزاع والشقاق, وساد الاختلاف وحدث الافتراق.

تاهت أمة القرآن, وضاعت الثقة بالله سبحانه, فعلت راية الطغيان, وحل الذل والهوان.

انتشرت ثقافة الخنوع والاستسلام, بل أصبحت هي الحكمة, فصار المؤمن الواعي غريبا في بلد الإيمان والحكمة! حتى لقد ترسخ لدينا أن قدر أهل الحق أن يكونوا مستضعفين خاملين مغمورين, بل إن من علامات إيمان المرء, ومن دلائل حب الله له أن يصب عليه البلاء صباً! فيظل غرضا للأسقام, ومرمىً لسهام الفقر والحرمان!.

وحينما نرى الباطل يسود, والظالمين يتحكمون في رقاب الأمة, والأحرار يرسفون في القيود, نقول: هذا هو قدرنا, ودائما أهل الباطل هم الأقوياء! ومن هنا فلا حول لنا ولا قوة, وهل يتصور أن باستطاعة أحد أن يفكر في التحرر وهو يحمل هذه الثقافة, وتسيطر عليه هذه المشاعر؟!.

 الاختيار الصحيح

في كل لحظة يجد الإنسان نفسه على مفترق طرق, بعضها ينتهي إلى الجنة وبعضها ينتهي إلى النار, والاختيار- عادة- صعب, وليس كل الناس يختارون طريق الجنة, بل الطلائع فقط..

كان الشهيد القائد يطل على ذلك الواقع المظلم, ويرقب الأحداث عن كثب, فيعتصر قلبه ألما, فيرجع إلى القرآن الكريم يقلب صفحاته, ويتدبر آياته, فيمتلئ قلبه أملا, وهكذا فتح عينا على القرآن وعينا على الأحداث, حتى اتضحت له الرؤية, وتجلت له الحقيقة, فحمل راية القرآن, ومضى على هديه القويم, وصراطه المستقيم, وانطلق بهمة عالية, وعزيمة قوية, ونظرة ثاقبة, وبصيرة نافذة, وعلم غزير, ووعي كبير, فاتقدت في قلبه شعلة الهدى, وجرت على لسانه ينابيع الحكمة, تبعث الأرواح في النفوس البائسة, وتبث الأمل في القلوب المنكسرة, وترسم الأفق لمستقبل واعد.

وهبت الطلائع المؤمنة من كل مدينة وريف, وتتجمع هنالك كما تتجمع قزع الخريف, وصار مجلسه مهوى الأفئدة, ترتشف من نبع القرآن ومعينه الصافي ما غسل دنس القلوب, وطهرها من علائق الأوزار والذنوب, وفي كل يوم يرتفع مقياس الوعي والبصيرة, وتستنير الفئة المؤمنة بهدي القرآن.

ويتبرعم الأمل في النفوس ليرسم في الأفق علامات صحوة لأمة الحق, وتعالى هتاف الحرية يشق الأرجاء مؤذنا بولادة عصر جديد.

وعلى وقع صرخات المكبرين كانت تهتز عروش الظالمين, وترتعد فرائص المستكبرين, إنه هدير الأنصار ينبعث من بين ركام اليأس وأوحال الخنوع الذي ران على القلوب ردحا من الزمن.

 وتهاوت الأستار

طلع النهار, وتهاوت الأستار, وكشفت الأسرار, وامتاز الأخيار من الأشرار, ووقف حزب الله في مواجهة مكشوفة مع حزب الشيطان.{ فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ * } فتجمعت جحافل الضلال من قوى الارتزاق, وحشو النفاق, وشذاذ الآفاق, حتى ضاقت بهم الآفاق, وقامت الحرب على ساقها, واستبسل المؤمنون, وعزموا على ملاقاة الحتوف, فواجهوا الزحوف, وثبتوا ثبات الجبال الرواسي, وسطروا أروع الملاحم, رغم قلة العدة والعديد { هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} تساقطت كل أقنعة الزيف, وتعرت الموقف, ولم يبقى مع الحسين إلا من أبى أن يشرب من النهر.

كثر القتل واستشرى الذبح, وغصت الآفاق بالدماء, وتحولت الساحة إلى كربلاء من جديد, وحينها أوى الشهيد القائد مع الفتية إلى الكهف مرددين: { رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا}وصب الطغاة حمم نيرانهم وحقدهم على ذلك الكهف والذي تتواجد فيه أسرة الحسين وأطفاله ومن تبقى من أصحابه وجلهم جرحى.

الوداع الأخير

وبجهد جهيد يقف الحسين على قدميه, ويمسح دماءه, ويتحامل على جراحه, ويخرج إلى القوم ناصحا مرشدا يذكرهم عاقبة إجرامهم, وحقيقة مآلهم, ولكن كان قد طبع على قلوبهم, فواجهوا كل ذلك بعنجهية عجيبة وكبرياء وغطرسة كبيرة, لقد مسخ القوم إلى حقد ثائر, وجاهلية رعناء, وضغينة قاتلة, فكانت الفاجعة الكبرى والمصيبة العظمى, حيث صب المجرمون عليه من نيرانهم ما يكفي لإبادة المئات من الناس! فاختار الله له ولأصحابه الشهادة خاتمة, والجنة موئلا, وبوأهم من سفر التاريخ وسيرته صفحة مشرقة وضاءة لا تبلى مدى الزمن.

العرس الكبير

رفعت أطناب مخيم العرس الكبير, وزغردت العصافير على الأغصان تشدوا بألحانها العذبة, مرددة أناشيد الشهادة, وحومت ملائكة الرحمن في الأرجاء, وتزخرفت الجنان, وابتسمت الحور الحسان, وانطلق الموكب الملائكي المهيب, إلى مقر ضيافة الله { فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ}  {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}

بالطبع لم تكن هناك وسائل إعلام لتنقل لنا تفاصيل المشهد, ولكن الشهيد كان يردد: { أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}! ولأن الشهادة هي من تكشف عن نفسها, فهي تفرض وجودها على الناس, لأنها تملأ فراغا كبيرا في نفوسهم!! ولذلك نراهم اليوم وعلى وقع قطرات دم الشهيد يهرعون ركبانا وحفاة يبحثون عن الشهيد في ساحات الوغى.

   دروس لا تنسى:

  • إن الأهم من قصة المعركة هو: قصة رجالها , والأهم من قصة رجالها: قصة أخلاقهم, فهم قاتلوا بأخلاق الأنبياء بينما قاتل العدو بطريقة الوحوش.
  • لن نكون أوفياء للشهيد إلا بعد أن نفهم القضية التي ضحى من أجلها ونواصل المسير.
  •  الشهادة هي العطاء الذي لا ينضب, ونقطة الدم الساخنة التي ستظل تنزف بالكبرياء والكرامة.
  • الشهيد القائد قام بدور بارز في تكوين عصره, وترك بصماته على مرحلة دقيقة في تاريخ الأمة, ولا تزال هذه البصمات تتسع وتتفاعل.
  •  من لا يفهم الشهادة لا يفهم الحياة.
  •  الشهيد القائد علمنا كيف نموت, لأن من لا يعرف كيف ينتهي لا يعرف حتما كيف يبتدئ.
  •  الشهيد القائد خلف تراثا ضخما, سطره بدمائه, ومن لا يقرأ تراثه فلن يعرفه .
  • سيظل دم الشهيد يُشرق كلّ صباح على القلوب، كما تشرق الشمس كلّ نهار على ذرّات التراب.

وأخيراً.. ستبقى هذه الذكرى على مرّ التاريخ: شعلة في أيدي الثائرين, وناراً تلفح وجوه الظالمين, وشوكة في ضمائر المتقاعسين.

ختاماً.. نقول: إن ما تشهده بلادنا اليوم من عدوان ظالم هو امتداد لتك المعركة, والصامدون بوجه العدوان هم رفاق الشهيد القائد, فالشهيد ليس جسدا يرقد تحت أنقاض القبة المدمرة بمران, بل هو روح تحلق هناك: في سماء ميدي, وذباب, ونهم, ونجران, وعسير.. وكل الجبهات.

إذاً.. قضية الجنة ليست معقدة, لحظات من التفكير الصحيح, وشيء من الإرادة كفيل بأن يوصلك إلى الجنة. فيا رب لا تحرمنا مرافقة الشهداء في الجنة, بحق محمد وآله الطاهرين.

الدلالات: