الروحية الإيمانية حقيقتها وآثارها

نشر بتاريخ: سبت, 10/06/2017 - 10:01م

المتأمل في حياة البشر يجدهم على صورة واحدة متفقين في الشكل والمظهر، ولكنه يجدهم مختلفين في الطباع والنفوس والأفعال، فهم على صفات شتى وطرائق متباينة فبعضهم يكاد يقرب من الملائكة خلقاً وصفاءً والبعض الآخر تتجسد فيهم صفات السباع المتوحشة بل أشد (إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) هذا التباين الذي سجله القرآن الكريم في أكثر من سورة يقول جل وعلا مقسماً ومؤكداً (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى، وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى، وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنثَى، إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) أي مختلف ويقول سبحانه (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيم، ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِين، إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) فهناك من سيبقى في أحسن تقويم، وهناك من سيرد إلى أسفل سافلين، وهناك الأتقى الذي كانت حياته عطاءً وزكاءً، وهناك الأشقى الذي آثر الحياة الدنيا فبخل واستغنى.

هذا التباين الكبير والتناقض الشديد مرده إلى حقيقة جوهرية وصفة أساسية ألا وهي صفة الإيمان هذه الصفة التي إذا حلت وجدان إنسان قلبت تصوره وغيرت نظرته إلى كل شيئ حوله وأحدثت تحولا هائلا في سلوكه وأخلاقه بل وفي أهدافه ومبادئه وانعكست على نفسيته هدوءا واطمئنانا تلك الحقيقة التي كررها القرآن الكريم لعلمه أننا نحتاج إلى التذكير بها دائما فلا تكاد سورة تخلو من ذكرها.

لقد عرض لنا القرآن الكريم قصص بعض أنبياء الله وكيف وصلوا من خلال تأملهم وتفكرهم في خلق الله إلى حقائق الإيمان، وأيضاً كيف عملوا على إيصال تلك الحقائق إلى أقوامهم، فذكر مثلا نبيه إبراهيم كيف عمل على أن يستثير عقول قومه فيسائلهم قائلاً (مَا تَعْبُدُون، قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِين) ثم يكرر سؤاله ليبين لهم حقيقة ماهم عليه من الضلال (قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُون، أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّون، قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُون) وعندما رآهم مصرين على تقليد آبائهم بغير علم أراد أن يبين لهم من هو الذي يجب أن يؤمنوا به ويتوجهوا إليه بالعبادة فقال (أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُون، أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُون، فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِين) ثم وصف هذا الخالق العظيم بقوله (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِين، وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِين، وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِين، وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِين) بهذا البيان الرائع  أبلغ نبي الله حجته وأوضح لهم أن حاجاتهم الأساسية التي يبحثون عنها (الطعام والشراب والدواء) كلها بيد الله وقبل ذلك الهداية التي هي الغاية من الخلق بيد المولى جل وعلا .

وفي مشهد آخر يبين لنا نبي الله نوح بكلام يكشف حجب الغفلة عن قلوب السامعين قائلاً (مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّـهِ وَقَارًا، وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا، أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا، وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا، وَاللهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتًا، ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا).

والإيمان كما عرفه علماء الإسلام قول وعمل واعتقاد،  فالقول هو الإقرار بالشهادتين، والعمل هو الصالحات التي ذكرها القرآن الكريم، والإعتقاد هو ما عبر عنه القرآن بالإيمان

قال الراغب الأصفهاني في تفسيره (الإيمان التصديق بالشيئ ولا يكون التصدق إلا عن علم ولذلك قال تعالى (إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُون) فالإيمان اسم لثلاثة أشياء علم بالشيء وإقراربه وعمل بمقتضاه ) انتهى.

فالإيمان إذا وقر في القلب صدقه العمل كما قال أمير المؤمنين علي عليه السلام فإذا كان عمل الإنسان مختل فذلك بسبب خلل في الإيمان، والعكس كذلك فإذا خلص الإيمان صلح العمل يقول الإمام علي عليه السلام (فبالإيمان يستدل على الصالحات وبالصالحات يستدل على العلم).

والمتأمل في القرآن الكريم يجد أن القرآن قد ربط بين الإيمان والعمل الصالح ربطا لا يمكن معه ان نفك بينهما ولا سبيل الى تفريق كل منهما عن الآخر، فالقرآن لا يذكر الإيمان إلا وأردفه بالعمل الصالح بل لقد حصر القرآن الإيمان على من اتصف بمجموع صفات عملية ومعنوية فقال سبحانه (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُون، الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُون، أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا).

وقال في آية أخرى (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُون).

ولهذا نرى القرآن ينفي صفة الإيمان عن من يعمل عملا غير صالح فقال سبحانه (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا) ومفهومها أنه إذا لم يكن خطأ فليس بمؤمن وكذلك في قوله تعالى (لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ) وقد أكد هذا المعنى بقوله تعالى (وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء).

فالمولى سبحانه جعل من تولي الكفار دلالة واضحة على عدم وجود الإيمان، لأن الإيمان إذا تقرر في النفوس منعها من كل الأفعال القبيحة وحثها على كل الأعمال الصالحة كما حكى سبحانه في بداية سورة المؤمنون .

وقد رتب القرآن الكريم على وجود صفة الإيمان وتحققها عدة نتائج وفوائد يكتسبها الإنسان نذكر بعضها:

 1- الفلاح

الفلاح في الدنيا والآخرة والفوز فيهما أمر أكده القرآن للمؤمنين بكلمة ( قد) التي تفيد تحقق ما بعدها (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُون).

2- الهداية

قال سبحانه (وَمَن يُؤْمِن بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) وقال (فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ).

3- الخلود في الجنة ورضوان الله

قال سبحانه (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيم).

4- ولاية الله

قال جل من قائل (وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِين) وقال (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ) وقال: (وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِين).

5- التوبة والمغفرة

يقول جل وعلا  (وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) ويقول (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى).

6- النصر وتفريج الغم

قال سبحانه (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِين) ويقول سبحانه عن نبيه يونس عليه السلام (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِين) قوله (وَكَذَلِكَ)  أي أنها عادتنا المستمرة  التي لا تنقطع أن ننجي المؤمنين .

ومما يجدر بنا أن نختم مقالنا به هي الآية التي صدرها الله سبحانه بقسم عظيم مبينا علامتين أساسيتين للإيمان فقال (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا) فذكر علامة حسية وأخرى معنوية فالأولى تحكيم شرع الله والإنقياد له والثانية عدم وجود أي حرج في النفس مما قضاه الله ورسوله.