التعليم بين الحرية والهيمنة الثقافية الغربية

نشر بتاريخ: ثلاثاء, 09/05/2017 - 9:53م

فَطِنَ الغربُ في أوروبا منذ زمن طويل الى أهمية العلم في بناء الشعوب ورقيها فاهتموا به اهتماما كبيرا، وسعوا جاهدين إلى أن يكون التعليم مبنيا على مبدأ التفكير والحوار والتطبيق. وعملوا على إنشاء المعامل والورش و توفير متطلبات التعليم كالوسائل و التي من خلالها يطبق المتعلمون ما فهموه، واستوعبوه، فيتحول ما فهموه من علم نظري مستوعب في الأذهان إلى اختراع وابتكار مشاهد بالعيان.

وبهذا تحركت عجلة التطور العلمي في الغرب و تقدمت حتى وصلوا إلى ما نراه ونلمسه من ثورة علمية تذهل العقول.

ومما لا شك فيه أن الشعوب لا ترقى ولا تنمو إلا بالعلم ولا يكون العلم علما إلا إذا طُبِّقَ في الواقع، و لا ولن يتأتى تطبيقه إلا إذا تم الربط في العملية التعليمية بين النظرية والتطبيق، ولسنا في حاجة إثبات مصداقية ما ذكرنا كون ذلك معلوما للجميع. كما أن في تاريخ البشرية لمن طالع فيه بتمعن شواهد تصدق ما ذكرت.

وفي العصر الحديث دلالة كافية على ذلك؛ فنحن نعيش عصرا بلغ فيه التقدم و التطور العلمي بكل اشكاله وصوره ذروته. و ما يحز في الفؤاد أن هذا التقدم والتطور أتانا من غير المسلمين من يهود ونصارى و وثنيين.

على الرغم من أن ديننا الاسلامي يأمرنا بطلب العلم ويحثنا ويرغبنا فيه، فالقرآن الكريم والسنة المطهرة مليئان بما يرغب في طلب العلم، و يحث عليه.

وفي تاريخنا الاسلامي نماذج علمية تدل على أن المسلمين في وقت من الأوقات قد كان لهم مشاركات علمية تطبيقية أذهلت الغرب، في وقت كانوا فيه غارقين في خلافاتهم الطائفية وخرافاتهم وجهالاتهم، و لا يخفى على الجميع أنهم التمسوا  حين ذاك من المسلمين أن يفيضوا عليهم من علومهم و ابتعثوا طلابهم إلى الشرق لينهلوا من علومهم.

ومنذ فطن الغرب إلى أهمية العلم أولوه جل اهتمامهم وأعدوا له ميزانيات ضخمة وربطوا النظرية بالتطبيق، فأخذوا يطبقون ما تعلموه. و أخذوا يشقون طريقهم الصحيح نحو الثورة الصناعية التي كانت أهم و أعظم نتائج العلم التطبيقي.

و أخذ المسلمون آنذاك يتراجعون علميا بسبب خلافاتهم والحروب فيما بينهم ، فأستغل الغرب ذلك فعملوا على تمزيق الأمة والهيمنة على ثقافتها ومسخ هويتها، و من ثم احتلال أراضيها، و بالفعل كان لهم ذلك ولكن بشكل تدريجي.

و إذا ما راجعنا تاريخ العالم العربي والإسلامي؛ فسنجد أن الاستشراق قد بدأ مبكرا و أنه كان بمثابة الاستطلاع الذي يسبق المعركة إذا صح التعبير. و الذي نؤكد عليه هو أن حملة نابليون إلى مصر هي من نتائج الاستشراق، و تلى تلك الحملة قيام محمد علي باشا بابتعاث أول بعثة علمية كان على رأسها رفاعة رافع الطهطاوي الأزهري إلى باريس الذي رجع منبهرا بالتطور المعماري، وبعادات وتقاليد المجتمع الأوروبي فرجع متأثرا بتلك الثقافات التي هي تخالف ثقافته وهويته الدينية جملة وتفصيلا،  ولكنه عاد منبهرا بها والف كتابه (تلخيص الابريز) الذي تكلم فيه عن باريس. وكان رفاعة وزملاؤه باكورة التجديد و الانفتاح - كما يطلق عليهم - الذين فتحوا الباب للتطور في مصر و منها إلى بقية الدول العربية.

و على الرغم من انتعاش الحركة العلمية و الأدبية في مصر في عهد محمد علي إلا أن ذلك في الواقع مثَّـــلَ بدايةً لهيمنة الغرب على الثقافة الإسلامية و العربية؛ لأنهم كانوا بمثابة الأداة التي مهدت الطريق و عبدتها أمام الغرب لإضعاف المجتمع، و تلى تلك البعثة بعثات أخرى، وعقب ذلك فتح مدارس من قبل محمد علي باشا متعددة الأغراض، و عمل على توظيف الخريجين منها، وفي المقابل كان هناك إهمال للأزهر و العمل على حصر دوره على التعليم الديني،  مما أدى إلى انصراف الكثير عنه بحثا عن الوظيفة، والمال والجاه، وأيضا اعتباره رجعيا.

و في عهد الحاكم الانجليزي كرومر كان المجتمع قد تأقلم مع الوضع، فطرح القس دانلوب خطته على كرومر فاستحسنها الأخير، و عينه مشرفا على الموجهين في السلك التربوي. فشرع دانلوب يمليها على الموجهين و يلزمهم بها. و تتلخص خطته في: (تقديس المكتوب)، فأخذ يقيم تعليماته على أساس تنمية الذاكرة هو الحفظ والمذاكرة، وصارت الميزة التي تميز الطالب الذكي عند العرب هي ميزة الحفظ دون الاهتمام بالتفكير والابداع و الابتكار و الاختراع.

ومنذ ذلك الحين والثقافة العربية تخضع لتلك الخطة وليس هذا في مصر فحسب بل شمل ذلك أغلب البلدان العربية دون استثناء.

فصار التعليم في البلدان العربية قائما في جميع مراحله (الأساسي – الثانوي –والجامعي – والعالي)على التلقين، و الاتباع دون حوار أو نقاش، أو حتى السماح بالتفكير. و عملوا على صرف المجتمع عن الاعتزاز بتاريخه المشرف من خلال قصرهم  القراءة للتاريخ على  القراءة المجردة عن دراسة أسباب النهضة والتطور، واعتبار التاريخ مجرد قصص عن أسرة ما أو ملك تملك في زمن ثم انقضى أمره.

فصار الطالب كالوعاء يعبأ معلومات جامدة يمليها عليه أستاذه، وليس عليه سوى حفظها و الانبهار بها واعتبارها كنزا ثمينا ينبغي عليه الحفاظ عليه، وليس له حق الحوار حولها أو الابتكار. بل صار الاجتهاد من المحرمات. والابتكار من الخيال الذي لا يجوز حتى التفكير فيه.

حتى أصابهم بعض الأساتذة الغرور وصار التلميذ يجاملهم ويتبعهم في كل آرائهم خوفا منهم فقد يؤخرونهم في النتائج إذا ما خالفوهم.

وبهذا صار التعليم في العالم العربي يخضع لهيمنة الثقافة الغربية، من خلال اتخاذ الجانب النظري في التعليم المتمثلة في الحفظ والتكرار منهجا وطريقة متبعة، وغابت فكرة التطوير والابتكار.

وأخذت هذه الهيمنة تكتسح البلدان العربية ابتداء بمصر، و من بعدها بقية الدول بما في ذلك اليمن0حيث إن نظام التعليم في اليمن لا يختلف عن النظام في مصر؛ لأن اليمن استفادت كثيرا من نظام مصر ومناهجها بعد ثورة سبتمبر 1962م.

وظلت المناهج التي تدرس في مدارس اليمن مصرية، لسنوات عدة. وحتى عندما تم تأليف المناهج اليمنية  كان المؤلفون مصريون غالباً وبالطريقة نفسها و ما سعى إليه دانلوب من خلال خطته في مصر هو نفسه ما تم في التعليم في اليمن0فالطريقه هي التلقين، والطالب الممتاز هو الذي يتميز بسرعة الحفظ.

حتى المواد العلمية التي تحتاج إلى معامل و ورش و تطبيق و وسائل تعليمية، صارت تدرس بطريقة نظرية؛ إلا القليل.  وصار القانون في الهندسة والرياضيات والفيزياء يحفظ كالقاعدة النحوية والنص الأدبي.

ويضاف إلى جانب ذلك التنافس بين الجامعات في اليمن بإنشاء المباني والتفنن في هندستها، والإفراط في فتح الكليات العلمية التي تحتاج الى معامل ضخمة وورش عالية الجودة والتقنية.  فتفتح الكليات العلمية في كل جامعة وينفق عليها المليارات فمثلا كلية الطب في جامعه صنعاء، وكلية الطب في جامعة عدن وكلية الطب في حضرموت وفي تعز وفي إب وفي الحديدة وفي ذمار وفي عمران، ومثلها كلية طب الاسنان ومثلها كلية الهندسة و ما شابه.

وإلى جانب ذلك يتم فتح المعاهد الطبية والهندسية وهذه سياسة عشوائية؛ إذ كان الأحرى المداولة بين جامعات المحافظات بحيث يكون للتعليم قيمته و بدلا من إنفاق المليارات في إنشاء المباني فلننفقها في إنشاء المعامل والورش التطبيقية وتوفير الوسائل التعليمية و نكون بذلك قد أعطينا فرصة أمام المحافظات جميعها للتنافس  في مجال التعليم العالي.

و بما أن الجامعات قد أنشئت وافتتحت فيها كليات طب وهندسة وغيرها إلا أن التعليم في أغلبها لا يعدو كونه نظريا وتهيمن عليه خطة دانلوب سواء أشعرنا ألم  لم نشعر؛ إذ أن أغلب الجامعات تفتقر إلى المعامل والورش والوسائل التعليمية المتكاملة ومواكبة الثورة العلمية والصناعية في العالم، بل يغلب على التعليم فيها جانب التلقين و الحفظ وتسلط الأستاذ،  فلا يسمح للطالب بالحوار أو النقاش أو السؤال واذا سأل طالب  أستاذه قامت الدنيا ولم تقعد؛ كون الطالب قطع الفكرة على الأستاذ وقد يؤدي ذلك إلى أن يبقي الطالب في مادته وإذا كان هناك من تطبيق فيكون في بعض الجامعات لمدة شهر في آخر العام أو شهرين،  وهي مدة غير كافية لصقل موهبة الطالب.

و لعلي لا أكون مبالغاً إذا ما قلت إن من المصائب التي أصيب بها التعليم في الوطن العربي عموما وفي اليمن خصوصا؛ هو طلب العلم من أجل الحصول على الشهادة، ومن ثم الحصول على الوظيفة. فصار هم الطالب الأول والأخير هو الحصول على الشهادة لكي يحصل بها على درجة وظيفية، وما إن يتوظف في السلك الحكومي حتى يبدأ بالتحايل على الوظيفة الرسمية ويبحث عن فرصة للعمل الخاص سعيا وراء المال فيتحول ذلك الخريج من عالم في مجاله يفترض عليه أن  يخدم دينه و وطنه إلى متكسب يجري وراء جمع المال، و يستوي في ذلك الطبيب و المهندس و الدكتور الجامعي وغيرهم فصار الطبيب يعمل في المستشفيات الخاصة وعيادته الخاصة أكثر مما يعمل في الوظيفة الرسمية، وهو يستلم راتبا شهريا من المرفق الحكومي، وكذلك المهندس، و الدكتور الجامعي، والضحية في كل تلك الحالات هو الوطن والطالب.

ولعل من أهم النتائج التي حققتها خطة دانلوب هي نزع الوازع الديني لدى هؤلاء وفقدان الضمير الوطني والإنساني فصاروا لا يأبهون بدين ولا وطن، ولا أدل على ذلك من أن أغلب الدكاترة الجامعيين في أغلب الجامعات اليمنية يعملون الآن في دول الخليج وماليزيا، وهم يستلمون مرتبات من الجامعات اليمنية إلى وقت قريب، ومن لم يكن منهم في الخارج فهو الآن مضرب عن العمل في الجامعة الحكومية بحجة انقطاع الراتب، و يداوم في الجامعات الأهلية.

و هذا إن دل على شيء فإنما يدل على انعدام الوازع الديني، و موت الضمير الإنساني، و الحس الوطني.

و إذا ما عدنا إلى الكلام عن المناهج الدراسية في مراحل التعليم في اليمن و على وجه الخصوص التعليم الديني، فإننا سنجد أنه خضع للتعديلات المتكررة، حتى وصل إلى ما هو عليه حاليا، و كل التعديلات غالبا ما كانت تتم بذرائع عدة منها: دعوى الاعتدال و الوسطية، و نبذ التعصب المذهبي، و تطوير التعليم، الأخذ بالصحيح من الآراء اتباعا للسنة الصحيحة المطهرة، و غير ذلك من الذرائع الواهية. و الواقع أن المناهج أعدت من قبل لجنة تبنت مذهبا معينا في الأحكام و العقائد، و تجاهلت المذهبين السائدين المتعايشين في اليمن (الشافعي و الزيدي)، و نتاجا لذلك نشأ فكر جديد في اليمن حمل سمة العداء للمذهبين الشافعي و الزيدي، بل و عمل على تغيير ثقافة المجتمع، متبعا في ذلك أساليب متعددة، و استعان بكثير من العوامل، السياسية، و الجغرافية، و الفكرية، و الاقتصادية.

و ما هي إلا فترة زمنية محددة حتى أصبح التعليم موجها فكريا و فقهيا و سياسيا، و عانى الشعب اليمني جراء ذلك النزاعات الطائفية التي تطورت بعد ذلك إلى حروب طاحنة. و ما يعانيه الشعب من حصار بري و بحري و جوي، و حرب ظالمة دمرت و لا تزال تدمر البنية التحتية فضلا عن قتل الأطفال و النساء و العزل، هو من نتائج و مخرجات تلك المناهج. التي يجب إعادة النظر فيها و العمل على تغييرها و تعديلها.

و قبل الختام هذه دعوة إلى جهة الاختصاص بالعمل على تطوير التعليم و إصلاحه، و ذلك من خلال التالي: -

1- وضع منهج يوحد الأمة و لا يفرقها، مرجعه كتاب الله و السنة النبوية الجامعة غير المفرقة.

2- العمل على تزويد الجامعات بالوسائل و المعامل و الورش التي تتيح للطالب فرصة التطبيق.

3- إتاحة الفرصة للطلاب للتفكير و الابتكار؛ من خلال خلق جو التنافس فيما بينهم، و السماح بالحوار و النقاش المثمر.

4- تعريف الطلاب بتاريخهم و أمجاد أمتهم العربية و الإسلامية، و توضيح أسباب نهضتهم و رقيهم.

5- تنمية الروح الدينية الإسلامية لدى الطلاب المبتعثين إلى الخارج حتى لا يتأثروا بثقافات مخالفة لدينهم و أصالتهم، مذكرين لهم بالمقولة المشهورة عن كرومر: (إن الشباب الذين يتلقون علومهم في انكلترا و أوروبا يفقدون صلتهم الثقافية و الروحية بوطنهم، و لا يستطيعون الانتماء في نفس الوقت إلى البلد الذي منحهم ثقافته فيتأرجحون في الوسط ممزقين).

هكذا يريد لنا أعداؤنا أن نكون فاقدين للهوية، منبوذين، مذبذبين.