أصلُ كلمة تقنين كلمة غير عربية، وهي تعني : صياغة الأحكام في شكل موادَّ قانونيةٍ مرتَّبة مرقَّمة على غرار القوانين الحديثة؛ من مَدَنِية، وجنائية، وتجارية، وعقوبات.
أو هي: صياغة أحكام المعاملات وغيرها من عقود ونظريات في صورة مواد قانونية، يَسهل الرجوع إليها.
والقصد منها هو التسهيل على القضاة في أخذ الأحكام من هذه المواد، خصوصًا عندما حصل ضعف في مستوى القضاة بشكل عام، وإلا فالأصل في القاضي أن يكون مجتهدًا، ينظر في الأحكام دون الرجوع إلى أقوال الغير، لكن حينما نزلت هذه المرتبة وأصبح القاضي مقلداً يأخذ الأحكام من الكتب الفقهيه، ثم نزلت هذه المرتبة فأصبح من العَسير على كثير من القضاة قراءة الكتب الفقهية قراءةً صحيحة، فاقتضى الأمر أن يكون هناك تقنين للشريعة على الوجه المعمول به في الغرب، وهي صياغة مسائل الفقه، سوى العبادات على شكل مواد، يسهل للقاضي الرجوع اليها والحكم بما فيها.
واشتهر بين الباحثين في علم تقنين الشريعة أن أُولى الكتابات فيه هي «المجلة العَدلية» التي أُصدرت في عهد الدولة العثمانية عام 1293 هـ الموافق 1876م مستمدةً في كتابتها من الفقه الحنفي وهي مكونة من ستة عشر كتابا في 1851 مادة.
ثم قام القَاضي عمر حلمي رئيس محكمة التمييز في الدَّولة العثمانية بوضع مؤلف سنة 1307 في تقنين أحكام الوقف في مواد.
وعمل الوزير محمد قدري باشا بمصر تقننًا في فقه المعاملات على المذهب الحنفي في كتابه «مرشد الحيران في معرفة أحوال الإنسان».
وفي الحجازِ عمل الشيخ أحمد بن عبدالله القاري الحنفي المكي مجلة «الأحكام الشَّرعية على مذهب أحمد بن حنبل»، وقد قسَّم الكتاب إلى كتب ثمَّ أبواب وفصول، ولكلِّ كتاب مقدمة فقهية تخصه، وجعلَ كلَّ ذلك في مواد فجاءت هذه المجلة في ألفين وثلاثمائة واثنتين وثمانين (2382) مادة.
كما وضع محمد بن عامر المحامي في بنغازي (ليبيا) سنة 1937 كتاب «ملخص الأحكام الشرعية على المعتمد من مذهب المالكية».
وقام مجمع البحوث الإسلامي بتقنين الشريعة على المذاهب الأربعة، حيث وافق المجمع في جلسته المنعقدة 17/1/1970 بجلستها رقم 62، على تقنين الشريعة الإسلامية وفقا للخطة الواردة من لجنة البحوث الفقهية المنعقدة بتاريخ 11/10/1996 بجلستها رقم 20.
ثم تعددت الدراسات حول تقنين الشريعة، لكن بعضها لا يخلو من دَخَنٍ؛ إذ دخلت فيها القوانين الوضعية التي لا تستند إلى الشَّريعة الإسلامية.
وفي اليمن صدر في دستورها 28/12/1970 المنشور بالجريدة الرَّسمية العدد 7 الصادر في 30/12/1970 (السنة الخامسة)، والتي نصت المادة 3 منه على أن الشَّريعةَ الإسلامية مصدر القوانين جميعا.
كما نصت المادة 152 منه على أنه: يجب تقنين أحكام الشريعة الإسلامية المتعلقة بالمعاملات بما لا يخالف نصاً ولا إجماعاً، ويعين القانون هيئةً شرعيةً فنيةً تتولى ذلك.
ولا أعلم أحداً قام بكتابة كتاب في تقنين الشريعة حسب المادة المنصوصة، ولكن وجد هناك في مجلس الشعب من يقوم على مراقبة القوانين الصادرة بحيث لا تكون مخالفة للشريعة، ويتم تقنينها في لجنة تسمى لجنة التقنين، وكان من بينها شيخنا العلامة محمد علي مرعي، وغيره.
والسؤال هنا لماذا تأخر تقنين الشَّريعة في اليمن مع أنها من أكثر الدول _إن لم تكن الأولى_ في العمل بالشريعة الإسلامية؟
والجواب هو: أن نظام اليمن كان نظام الإمامة؛ والإمامة لا يتولاها إلا من تتوفر فيه شروط الاجتهاد، التي هي أربعة عشر شرطًا، المعروفة في مظانها، وهذا ما دأب عليه الأئمة في اليمن، وكان آخر الأئمة المجتهدين المقتول ظلماً والمعتدى عليه بغيًا، الإمام العادل الناصر لدين الله يحيى بن حميد الدين رحمه الله تعالى، وقد كان إمامًا مجتهداً وله اختيارات فقهية إسلامية بحتة، وكان يلزم بها أتباعه وقضاته في الحكم بها بين الناس، ولهذا فليس في حاجة إلى تقنين لكي يسهل عليه معرفة الأحكام الشرعية وأدلتها فهو إمام عالم مجتهد، يستنبط الأحكام الشرعية من مصادرها الأصلية، وقد أفردت اختياراته نظمًا وشرحًا بقلم العلامة عبدالله عبدالوهاب الشماحي بعنوان «صراط العارفين إلى إدراك اختيارات أمير المؤمنين»، ثم قدمت بعض اختياراته الفقهية التي تفرد بها عن المذهب الهادوي، في السودان في أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه، وهكذا كان نظام من قبله من الأئمة الذين حكموا اليمن.
عود على بدء في من كان لهم السبق في الكتابة حول تقنين الشريعة، إذ كان لليمن السبق في هذا الموضوع على «المجلة العدلية» التي قيل: إنَّها أول من تخصص في هذا الموضوع وكتب فيه، والحقيقة أن التَّقنين بهذا المفهوم كان في اليمن سابق على «المجلة العدلية»، فقد صدر قانون في عهد الدولة القاسمية عام 1161هـ، ثمَّ بنيت عليه إضافات في عام 1234هـ ، ومهما يكن فهذا القانون أو إضافاته المتأخرة كلاهما سابق لـ«لمجلة العدلية» وما أتى بعدها؛ إذ كان صدور العدلية عام 1293هـ ، وذلك سابق، واختص وتميز هذا القانون في تقنين الأمور المستحدثة، ولم يتخصص في تقنين المسائل الموجودة في بطون الكتب فقط، لكنه قنن النوازل الموجودة باجتهادات معاصرة، وفقا للشريعة الإسلامية، وقنن الأمور المستحدثة في السُّوق اليمني بما يتوافق مع الشريعة الإسلامية بناءاً على اجتهادات واضعيه، وهذا مما يزيد هذا القانون قوةً وتنوعاً وتميزاً عن التَّقنين الحاصل في «المجلة العَدلية» أو غيرها، فهي تحصيل حاصل بصيغة جديدة، لكن قانون صنعاء هو ابتكار وإتيان بشيء جديد وتعامل مع أمور عينية، وهو القانون الذي مضى وبقي عليه السوق اليمني إلى يومنا هذا فلا يزال ذلك القانون يعمل به من خلال المسميات والتنظيم للأسواق.. وغيرها.
وقد بلغت (اليمن) في عهد الدولة القاسمية مبلغاً عظيمًا من الثراء والقوة والازدهار، والاستقرار والعلم، والتنظيم حتى وضع هذا القانون قال يحيى بن الحسين القاسم في بهجة الزمن عن هذا القانون (ص89): «ولعلَّ ما عُرف بقانون صنعاء شاهدٌ على اهتمامه بكافة المجالات، فقد استقر في صنعاء ستة أشهر تفقد فيها قانون المدينة، ووضع قانوناً جديداً، زاد فيه على السابق، وأمر بتقسيم مدينة صنعاء، وجعل على كل قسم ثقة من أهلها».
وقال العمري في كتابه «مائة عام من تاريخ اليمن» (230) وفي بداية فترة الاستقرار في أمر المهدي عام 1234هـ 1819م عامل صنعاء القاضي محمد بن علي الحيمي بأن يعيد النَّظر فيما سمي بـ«قانون صنعاء» ففعل وأضاف إليه زيادات ثم أصَبَحَ بعد ذلك قانونًا يُعمل به، وهذا القانون عبارة عن مجموعة من التنظيمات والقواعد والتعاريف والموازين والأسعار المنظمة للحياة التجارية والتموينية والضرائبية، ومختلف أجور العمال والفنيين من بنائين وحدَّادين ونجارين ونحوهم، وهو أيضا يحدد مسئوليات سكان المدينة والمنظمات الشعبية فيما يتعلق بالخلافات، وتقسيم الأحياء، وواجب الحراسة الليلية، أو الدفاع عن المدينة في حالة حدوث شغب أو اعتداء خارجي عليها، والقانون بشكل عام بديع بسيط محكم متناسب مع ظروف زمانه، وكتب بلغة سهلة معظم مصطلحاتها باللهجة الصنعانية الدارجة..... الخ».
وقد مر هذا القانون بمرحلتين مختلفتين كما ذكر فكان الأصل في عهد الامام المتوكل على الله القاسم بن الحسين، وجاء في نص القانون: «هذه صورة القاعدة الموضوعة في القانون الذي وضعه والدنا أمير المؤمنين المتوكل على الله القاسم ... وذلك في عمالة الفقيه أحمد بن يحيى خزندار في مدينة صنعاء المحمية بالله تعالى».
وشرع في تفصل القانون وفي آخره قال: «وبعد وضع هذا المثال المرسوم والقانون المرقوم فليحط علمًا كل من تسمى باسم الإيمان وشملته العناية المهدية بالحياطة والإيمان، أن أمير المؤمنين - بارك الله في عمره- قد هداه إلى ما دل عليه الشرع، وغمر الصَّغير والكبير بضروب من النَّفعِ، فمن قرعت مسمعه قاعدة هذا القانون فلا يحل له أن يتقاعد عن العمل بما فيه طرفة عين.
فرغ من زبر هذا المرسوم بمحروس صنعاء المحمية بالله تعالى شهر ذي القعدة الحرام سنة 1161». وفي ختام القانون قال الإمام: «يعتمد هذا القانون الموضوع لمصالح المسلمين وما اقتضاه اختلاف الأسعار في الزمان عرض على نظرنا الثاقب»، انتهى من نقل العلامة حسين السَّيَاغي.
وفي عام 1234هـ كلف الإمام عبدالله عامل صنعاء في وقته القاضي محمد بن علي الحيمي بتحرير قانون صنعاء.
وكان نص صيغة القانون
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أنزل في كتابه العزيز ﴿يا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لا تأكُلواْ أموالَكُمْ بينَكُمْ بالبَاطِلِ إلاَّ أَن تكونَ تِجَارةً عن تراضٍ﴾ ،وهيهات أين ذاك ممن إذا لاح له الاحتياج إلى ما بيده تزين ورسم وغرر على طالبها وبالغ وتحتم... والصَّلاة والسَّلام على محمد الأمين ... وبعد:
فلما صعدت النفوس في شواهق الأطماع، وكبت عن التَّفقه في الدِّين والاستِماع وغاصت للأرباح في الاتجار، من دون أن تنظر إلى أمواج تلك البِحار وقعدت عن التِّماس النور، وقامت في دياجر الازدياد، ولو بالقول الزور، وباينت آراء العلماء الأعلام، وهجرت أقوال ذوي العقول، من أهل الإسلام، وكادت تطيح في ظلم المهالك... أشرقت شمس التَّرجيح الشَّريف وكمل بدر الرأي العالي المنيف ترجيح مولانا أمير المؤمنين، ورأي مالكنا سيد المسلمين المهدي لدين رب العالمين أيده الله بالنَّصر والتَّمكين وعمر بسطوته شريعة جده سيد المرسلين ... ونظرتُ إلى قوله تعالى: ﴿وما كان لِمُؤْمِنٍ ولا مؤمنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِينًا﴾، فنهضتُ إلى معاودة القانون الإمامي على مقتضى ما قادني إليه إفهامي، وهو القانون الموضوع بترجيح مولانا أمير المؤمنين المتوكل على الله رب العالمين القاسم بن الحسين الحاوي للتَسعير إلا في القُوتَين، المستند إلى قانون المتوكل على الله إسماعيل -رحمه الله- المستحسن له من المجتهدين جيلًا بعد جيل، ونظرتُ فلاح لي شفق الدليل... وقد درست رسومه وخفيت على المطالع خصوصه وعمومه، مثل التَّعبير فيه بالكبير والكبيرين والحرف والحرفين على مناط تلك السِّكة المتوكلية، وقوانين تلك الأمة المنقضية، صرف القرش والفَرانْصِي حرفان، سلكت فيه مسلكًا يفهمه أهل هذا الزمان كون صرف القرش ثمانين بقشة في هذا الأوان، وزدت في آخره ما أعمله وهو محتاج إلى تبيان فقلت وبالله التوفيق ...
وتم تقسيم القانون إلى فصول وهو ما يسمى بالمواد، ويمكن تقسيمه إلى أكثر من اثنتي عشرة مادة.
فكانت (المادة الاولى)
سوق البز
المقصود بالبز هنا: الأقمشة ويتم فيه توصيف البز وسعره وكم طوله، وكيف يباع ومسماه وأنواعه...الخ.
(المادة الثانية) الدلالة وشروطها
والمقصودة بالدلال هنا الوسيط بين البائع والمشتري ، وعين له أجرته سواء كان دلالاً للفضة أو البز أو الحب ودلال البيوت.
(المادة الرابعة) البضاعة التي تصل من الأغراب
والمقصود بالأغراب المستورد من خارج اليمن ويتناول هذا البند من يتقبلها ومن يفحصها وينظر فيها ومن يخزنها ... الخ.
(المادة الخامسة) القشر والسَّليط والسَّمن.
ويتناول في هذه المادة كيفية الوزن والادخار وأين تسوق ... الخ.
(المادة السادسة) كيف ترتيب الأسواق ووضع البضاعة في أماكن معينة لكل نوع مكان مخصوص وسعر معين وترتيب خاص
فسوق للسمن والسليط ، وسوق للقشر (نوع من أنواع البن)، وسوق للتتن الأسود (التنباك)، وسوق للسلب وهو الحبال، وسوق للحبوب ، وسوق للملح، وسوق للزبيب، وسوق للحنا، وسوق للقات، وسوق للعنب والفواكه وما إليهما من الفواكه، وسوق للجزارة، وسوق للحطب، وسوق للبقر والبهائم، وكيفية الصلح في البيع والشراء وسوق للجمال، وسوق للخيال والبغال، وسوق العلف،
(المادة السابعة) أجرة الحمالين والسقايين.
وفصل أجرة حمل كل نوع من أنواع البضاعة والتجارة، فحمل الزيت غير حمل الحطب والمسافة ..... الخ.
(المادة الثامنة) في أصحاب الحرف وأهل الأعمال.
وذكر فيه تفاصيل الصباغين والقصابين والخياطين والسراجين ، والخبازين والقرانين والمداققة ، والعمال في المقاهي والسَّماسرة والحداد، وصانع المغالق الأبواب والمفاتيح والمجيرين وهما صناع المجاري، وأجرة العمار (البناء).
وفصل ما يجب فيهم من شروط وما عليهم من حقوق .
(المادة التاسعة): البيطرة
وشروط البيطري وأجرته وكيف عمله .
(المادة العاشرة) الأحجار والأجور.
فَصَّلَ فيها قيمة الحجر الكبير والصغير، وكم طول وعرض الحجم الصغير والكبير، وأجرة البناء الكبير، والمجاصصه، وهو البناء الماهر، وأجرة من يصلح الحمام.
وقيمة المدر وأنواعها وهي الأشياء التي تصنع من الطين (الخزف)، والتناوير ، والبواري، وهي التي توضع على رأس المداعة، أو الشيشة، وأنواع المدر شغل سياني أو شغل مراني، أو شغل قرية القابل.
وحدد سعر الكبريت والمكانس والأطباق والمناخل، وما يجب على بائعها ومشتريها .
(المادة الحادية عشر): الضمانات
تنص على حارس الشرطة وأنه ضامن ما سرق بالليل بالكسر أو الفلس والآثار الظاهرة بصعود الجدار.
وماذا يجب على الحمامي وهو حارس الحمام.
والمقهوي ماذا يجب عليه من ضمان، والشارعة وهي التي تزين العرائس، وشقاة العمائر (العمال) ماذا يجب عليه نحو العمارة وماذا يضمنون من أدواتها، حمال البضائع كذلك.
(المادة الثانية عشر) : ماذا يجب على مشايخ الأسواق ومشايخهم.
على شيخ السوق تفقد السوق والأسعار والموازين ومعاقبة من يخالف...الخ.
انظر تفاصيل هذه القوانين في رسالة قانون صنعاء بقلم حسين بن أحمد السياغي مجلة معهد المخطوطات العربية المجلد العاشر المجلد الثاني 1384هـ 1964م، ثم ألحق مؤخرا في كتاب صفحات مجهولة من تاريخ صنعاء.
كتبه مستمد العون من الغني