ماذا نتعلم من فتح مكة؟

نشر بتاريخ: خميس, 16/06/2016 - 12:00ص

فتح مكة المكرمة لم يكن وليد لحظته أو من باب الحظ والصدفة بل كان نتاج الدعوة الحاكمة والموعظة الحسنة التي دعا بها النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ونتاج تضحية وفداء وصمود وثبات وجهاد وكفاح طول واحد وعشرين عام منذ اليوم الثاني من البعثة ونزول القرآن الكريم على قلب الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم والدعوة إلى التوحيد ونبذ الشرك وعبادة رب العبيد سبحانه سرًّا وجهرًا وما عانى صلى الله عليه وىله وسلم هو وأهل بيته وأصحابه من الأذى والحصار بشتى أشكاله وأنواعه حتى أذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه بالهجرة إلى الحبشة ثم إلى المدينة ثم نجى الله تعالى نبيه محمدًا من مؤتمر الشر وتحالف الغدر والعدوان الذي عقد في دار الندوة والذي سطر هذا الحدث الكبير القرآن الكريم في صفحاته إذ يقول الله سبحانه  ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِين﴾[الأنفال:30] نجى الله رسوله محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم ونصره وسماه الله نصرًا وذكر أصحابه وأتباعه بهذا النصر في غزوة تبوك بقوله ﴿إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيم﴾[التوبة:40] ومرورًا بالأحداث والسير النبوية من معارك وغزوات وبناء المجتمع الإسلامي وبناء الصرح العلمي والعبادي والقيادي المسجد النبوي وتوحيد الأمة من خلال المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار وتحقيق النظام والعدل، وكتابة الوثيقة والعهود مع يهود المدينة التي دلت على مدى العدالة التي اتسم بها ديننا الإسلامي مع الديانات الأخرى وما تلاها من مراحل الدفاع وصولًا إلى توجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة لأداء العمرة وتوجه الكثيرون من المهاجرين والأنصار معه فأحرم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وساق معه الهدي معلناً أنه ما خرج إلا زائراً للبيت العتيق فيأمن الناس حتى إذا أشرف على الحديبية نزل بأقصاها على حفيرة قليلة الماء وهناك اعترضت قريش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان صلح الحديبية.

وكان من بنود الصلح أنه من أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه فتواثبت خزاعة فقالوا: (نحن في عقد محمد وعهده) وتواثبت بنو بكر فقالواك (نحن في عقد قريش وعهدهم) وأطلق القرآن الكريم اسم الفتح على هذا الصلح وذلك في قوله تعالى: ﴿لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا﴾[الفتح:27] وبعد عودة المسلمين من الحديبية فتحت خيبر وبعث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم السرايا من أصحابه إلى مختلف قبائل الأعراب المنتشرة في الجزيرة العربية لتبليغ الدعوة الإسلامية وفي الفترة نفسها بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم كتبًا إلى مختلف ملوك ورؤساء العالم يدعوهم فيها إلى الإسلام ونبذ ما هم عليه من الأديان الباطلة وفي تمام العام خرج الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قاصدًا مكة ومعه أهل الحديبية ومن انضاف إليهم وتحقق وعد الله سبحانه، ثم حدثت غزوة مؤتة دخل شهر رمضان من السنة الثامنة للهجرة وفيه قتل أناس من بني بكر مع نفر من قريش عشرين رجلًا من خزاعة التي كانت في حلف وعهد المسلمين فقدمت خزاعة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأخبرته بما أصابها فقام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهو يجر رداءه قائلًا: ((لا نصرت إن لم أنصر بني كعب، مما أنصر منه نفسي)) وندمت قريش على ما بدر منها، وحاولت تجديد الهدنة وتمديدها ولكن فشلت مساعيها، وتجهز رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد أخفى أمره، وقال: ((اللهم خذ على أبصار قريش فلا يروني إلا بغتة)) حتى إذا وصل إلى ظهران -مكان بين مكة والمدينة- توافدت إليه القبائل: أسلم وغفار ومزينة وجهينة وغيرهم فبلغ عدد المسلمين عشرة آلاف، فرتب الرسول دخول مكة ووزع الرايات على القبائل وقسم الجيش كتائب وكان صلى الله عليه وآله وسلم في كتيبة المهاجرين والأنصار لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد فكان جيش الفتح رهيباً وعظيماً جثت قريش على ركبتيها لهول الموقف وعظمه، واستسلمت وأقرت أنه محمد رسول الله قد جاءها فيما لا قبل لها به، فأسدل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثوب الأمن على قريش وهي التي أخرجته وآذته وعذبت أصحابه وصادرت حقوقهم وأموالهم؛ من دخل المسجد فهو آمن؛ ومن أغلق عليه بابه فهو آمن؛ ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن؛ آمن من القتل والأسر والتعذيب والرق، وحين بلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن سعد بن عبادة قال لأبي سفيان عندما رآه في مضيق الوادي: (اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة)) فلم يرضَ عليه الصلاة والسلام وعلى آله بقوله هذا وقال: ((بل اليوم يوم الرحمة)) وقال لعلي بن أبي طالب عليه السلام: ((أدركه فخذ الراية منه وكن أنت الذي تدخل بها)).

ودخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة من أعلاها، روى ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما انتهى إلى ذي طوى وقف على راحلته معتجرًا (متعممًا) بشقة برد حبرة وأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليضع رأسه تواضعًا لله حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح حتى إن عثنونه  ليكاد يمس واسطة الرحل.

وكان يقرأ سورة الفتح وهو على ناقته، ودخل مكة متجهًا نحو البيت وحوله ثلاثمائة وستون صنمًا، فجعل يطعنها الواحدة تلو الأخرى بعود في يده وهو يقول: ((جاء الحق وزهق الباطل، جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد)).

وأمر صلى الله عليه وآله وسلم عثمان بن طلحة (وهو من حجبة الكعبة) أنه يأتيه بالمفتاح، فجاءه به ففتح البيت وأمر بالأصنام التي كانت في جوف البيت فأخرجت وأخرجت صور لإبراهيم وإسماعيل في أيديهما الأزلام فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((قاتلهم الله لقد علموا ما استقسما بها قط)) ثم دخل البيت فكبر في نواحي البيت وخرج فدعا عثمان بن طلحة فدفع إليه المفتاح وقال له: ((خذها خالدة مخلدة إني لم أدفعها إليكم ولكن الله دفعها إليكم ولا ينزعها منكم إلا ظالم)).

وأمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بلالًا فصعد فوق ظهر الكعبة فأذن للصلاة.

قال ابن إسحاق: أمسك النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعضادتي باب الكعبة وقد اجتمع الناس من حوله ما يعملون ماذا يفعل بهم فخطب فيهم قائلًا: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج.. يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس من آدم، وآدم من تراب، وتلا قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ ...﴾[الحُجُرات:13]  ثم قال: ((يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيرًا أخ كريم وابن أخ كريم، فقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء)) ثم إن الناس اجتمعوا بمكة لمبايعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على السمع والطاعة لله ورسوله فلم فرغ من بيعة الرجال بايع النساء .

من فتح مكة المكرمة نتعلم

  • أن المستحق للتضحية بالمال والنفس والأهل والأرض هو الدين هو الإسلام.
  • أن الفتح الأكبر لم يتحقق إلا بالجهاد والاستشهاد، وكل ذلك لم يذهب بددًا ولم ترق الدماء هدرًا بل كان ذلك ثمن الفتح والنصر، تؤدَى أقساطًا وتلك هي سنة الله في أرضه ﴿إِن تَنصُرُوا اللهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُم﴾[محمد:7] وفي هذه النقطة يدرك أهل اليمن أهل الإيمان والحكمة أن الفتح قريب والنصر قادم بإذن الله، فهم يؤدون ثمن نصرهم أقساطًا من التضحية والفداء والبذل والعطاء والجهاد في سبيل الله والدعاء والضراعة ببابه عزوجل وصمودهم وثباتهم وصبرهم ومصابرتهم ومرابطتهم في جبهات العزة والكرامة.

إن إعداد العدة والتأهب لأي طارئ لدفع المعتدي ولرد الغازي واتخاذ الخطط والاستراتيجيات وإحكام تحقيق الأهداف - من مقومات النصر والصمود، إن الالتزام بالمواثيق والعهود والجنوح إلى السلم والصلح فيه الخير الخفي الذي يظهر ولو بعد حين، وأن الأمة يجب أن تهتم بالدعوة إلى الله سبحانه استغلال  الفرص المناسبة إلى الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.

  • نتعلم أن هذا الدين هو دين الرحمة الذي ينسجم مع روح الإنسانية (بل اليوم يوم المرحمة) المرحمة بمن . بمن آذى، وعذب، واضطهد، وحاصر، وقتل، وأسر، وصادر الحقوق والأموال حين أصبح مكبلًا ضعيف القوى قليل الحيلة؛ لأن الدين ليس دين الانتقام ولا دين القتل والسحل كما يصوره خوارج العصر ومرتزقة أعداء الإسلام.

نتعلم أن الدين الذي جاء به محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دين يحفظ الحقوق ويؤدي الأمانات إلى أهلها، دين يكرم الإنسان، وإن الإنسان الذي اعتنق الإسلام إسلام القرآن والرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا إسلام داعش والقاعدة، اعتناقًا قويًّا- مكرم عند الله وعند خلقه، فبلال العبد الحبشي الذي اعتنق الإسلام ولم ينفك عنه وصبر عليه تحت التعذيب وهو يصدح بأحد أحد، ويوم فتح مكة يعتلي الكعبة ويصدح الله أكبر... الله أكبر، رفعه الإسلام وأعزه.

يجب أن يتعلم كل قائد ومسؤول وحاكم ومعلم من رسول الله الرحمة والتواضع والعبودية لله سبحانه وأن يتعلم آداب النصر التي تحلى بها أكرم خلق الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم. 

الدلالات: