(أفلا يتدبرون القرآن)

نشر بتاريخ: أربعاء, 15/06/2016 - 12:00ص

إن مما ينبغي التنبه له أن الله سبحانه وتعالى لم ينزل القرآن الكريم لمجرد القراءة والتغني به فقط فهذاالكتاب الذي وصفه الله بالحكيم ووصفه بالمجيدووصفه بالكريم ووصفه بالنور ووصفه بالهدى نزل لأعظم وأقدس غاية على الإطلاق وهي إخراج الناس من الظلمات إلى النور حتى يكون هذا الإنسان أرقى مخلوق على وجه هذه الأرض فيظفر بعز الدنيا ونعيم الآخرة وصدق الله القائل ﴿الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيد﴾[إبراهيم:1] وقال سبحانه ﴿قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِين﴾[المائدة:15] فهذا الكتاب المقدس الذي لايأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه أنزله الله ليكون منهج حياة متكامل أنزله الله ليكون متّبَعا فهو الضمانة الأكيدة للحفاظ على البشرية من الإنحراف ولنتأمل معي قوله تعالى ﴿وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون﴾[الأنعام:155]

فإذا أرادت أمة الإسلام أن تلتمس رحمة الله فلا طريق إلى رحمة الله إلا بالرجوع التام والرجوع الصادق إلى هذا الكتاب الهادي إلى كل سبل الخير والعز والفوز بخيرات الدنيا والآخرة فعلى كل مسلم اليوم أن يتعامل مع كتاب الله بمصداقية تامة وأن يمعن النظر وأن يكثر من التدبر والتأمل في كتاب ربه حتى لا يضيع في متاهات الأهواء والآراء الزائغة فيكون ضحية لها فما أجمل قوله تعالى ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَاب﴾[ص:29] فلننظر ونتأمل كيف جعل الله التدبر لكتابه العظيم هو الغاية من إنزاله فهذا الكتاب المجيد ليس مجرد ألفاظ نترنم بها ونتلوها ونحفظها عن ظهر قلب ثم بعد ذلك نكتفي بذلك ظانين بأننا قد حققنا بذلك مراد الله وأن الله قد رضي عنا وأننا قد بلغنا الغاية العظمى كلا وألف كلا فلو كان الهدف من إنزال القرآن هو تلاوته وحفظه فقط دون تدبره ودون العمل بما فيه لكانت  الأمة الإسلامية اليوم  في قمة الأمم لكثرة القنوات الفضائية التي تبث القرآن الكريم ولكثرة إذاعات القرآن الكريم ولكثرة المشائخ الذين يجودون القرآن ويرتلونه ولكثرة المصاحف التي تطبع بأفخرطباعة ورغم ذلك نجد الأمة الإسلاميةاليوم من أذل الأمم على وجه الأرض ومن أكثر الأمم تمزقا وتشتتا والعداوات تنتشر في أوساط المسلمين انتشارا ذريعا إلى درجة أن فلسطين التي هي قلب الأمة العربية لا زالت ترزح تحت الاستعمار الصهيوني البغيض منذ عشرات السنين والمسلمون لا يجيدون إلا الشجب والندب والإستنكار السلبي الخافت الذي لا يسمعه أحد في العالم فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وإذا تأملت كل هذه الكوارث التي أصابت المسلمين في مقتل وجعلتهم لقمة سائغة لأعدائهم وأورثتهم الخزي والذل والهوان علمت علما قاطعا أنه في ابتعادهم عن منهج القرآن وتعاملهم مع القرآن بانتقائية فيأخذون من القرآن ما يروق لهم وما يرونه سهلا لاكلفة فيه ولا مشقة ويتركون من القرآن ما يرونه غير مناسب لهم ـ حسب زعمهم ـ يتركون من القرآن كلما يرون فيه صعوبة وتعبا ويكلف جهدا وهذه هي الطامة الكبرى التي بليت بها أمة الإسلام وهو نفس المرض الذي وقع فيه بني إسرائيل فأذلهم الله وهو ما حكاه الله في سورة البقرة حيث قال تعالى ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُون﴾[البقرة:85] فلنحذر أشد الحذر من الوقوع في نفس المرض الذي وقع فيه بنو إسرائيل وهو أن نعمل ببعض الآيات ونترك بقية  الآيات معطلة دون عمل بها فلنتدارك أنفسنا ولنتدبر القرآن ونعتصم به لنهتدي إلى الصراط المستقيم ولنعمل بكل مافيه دون تردد ولنتدبره امتثالاً لقوله تعالى: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾[محمد:24]

وها هو شهر رمضان قد أظلنا بنفحاته ورحماته وروحانيته هذا الشهر الذي اصطفاه الله لنزول القرآن الكريم حيث أنزله في أقدس ليلة على أقدس قلب في أقدس شهر وصدق الله سبحانه وتعالى حيث قال (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) فمن تأمل هذه الآية الكريمة بعين البصيرة يدرك بما لا يدع مجالا للشك أن الله سبحانه لم ينُزِل كتابه الكريم إلا ليكون المصدر الرئيسي لهداية الناس وتبصيرهم والأخذ بأيديهم إلى الحق والعدل والنور الارتقاء بالبشرية في كل مجالات الحياة في العقيدة والإيمان والأحكام وفي مجالات الحياة السياسية والاجتماعية والإقتصادية و السلوكية فهذا الكتاب هو كتاب الحياة فمن جعله أمامه قاده إلى الجنة ومن جعله خلفه قاده إلى النار فلننتهز فرصة هذا الشهر المبارك الذي كان ينزل فيه جبريل عليه السلام على نبينا محمد صلوات الله عليه وعلى آله الطاهرين ليدارسه القرآن طيلة شهر رمضان فما أحوجنا اليوم كمسلمين نعيش واقعا مريرا أن نلتفت إلى القرآن التفاتة صادقة ما أحوجنا إلى أن نقرأ القرآن بقلوبنا قبل أن نقرأه بألستنا قراءة جوفاء وباردة وشكلية لا تزكي نفوسنا ولا تهذب طباعنا ولا تفتح أبصارنا،

فإذا لم نتأثر بالقرآن كما يجب وكما يريد الله منا فقد نقع فيما حذر منه الحبيب بقوله: (رُبَّ قارئٍ للقرآن والقرآن يلعنه ) فقد يقرأ الناس القرآن في شهر رمضان المبارك وقد يفاخر بعضهم بعضا بأنه ختم المصحف مرتين أو ثلاث أو أربع أو أكثر  وهو لا يفهم من القرآن شيئ ولا يتعامل مع القرآن على أنه كتاب هداية ونور وفرقان بل يتعامل مع القرآن على أنه كتابٌ للقراءةِ فقط ولكسب الحسنات من خلال القراءة العابرة التي لا تحدث فيه أي أثر أو أي تغييروهنا لا تؤتي قراءته للقرآن ثمارها وأثرها حتى لو ختم المصحف مئات المرات وهذا ما عناه النبي صلوات ربي وسلامه عليه بقوله (رب قارئ للقرآن والقرآن يلعنه) وقد يتعجب البعض من هذه القضية وهي أن يقرأ الشخص القرآن الكريم ورغم ذلك القرآن يلعنه ونقول لا غرابة في ذلك والواقع هو خير دليل على ذلك فتأملوا معي  على سبيل المثال ما وقع فيه من يسمونه إمام الحرم المكي أو المدني،

وكذلك كل من لف لفهم ممن يسمون أنفسهم علماء ودعاة وحفاظ فقد أفتى كل هؤلاء بجواز العدوان على أهل اليمن فأين هؤلاء من القرآن وهم يقرأونه ليل نهار ويتباكون به على مرأى من الناس ويرتلونه بأصواتهم في جميع قنواتهم وإذاعاتهم ألم يقرأوا قوله تعالى (أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا) فهؤلاء فعلا يقرأون القرآن لمجرد القراءةوالتغني ولايعني لهم جانب التدبر أي شيئ و هذا لعمري هو الداء العضال الذي حذر منه القرآن في سورة الجمعةحيث قال (﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين﴾[الجمعة:5] فقد شبه الله اليهود الذين لم يعملوا بالتوراة رغم حفظهم لها ورغم قراءتهم لها شبههم بأبشع مثل وهو الحمار الذي يحمل الكتب النافعة  وهو لا يعرف منها شيئا فليس له منها إلا تعب حملها وفي هذا المثل الذي ضربه الله في القرآن تعريض واضح بالمسلمين إذا لم ينتفعوا بأنوار القرآن واكتفوا من القرآن بالتلاوة والتجويد والتغني ولم يجعلوا من القرآن منطلقا لأعمالهم ونشاطاتهم وكل أمورهم وجعلوه مجرد أماني كما جعل اليهود التوراة كذلك وصدق الله سبحانه القائل ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّون﴾[البقرة:78] ومايحكيه القرآن عن اليهود إنما هو للتحذير الشديد لأمة محمد أن تصاب بهذا المرض الخبيث فتتعامل مع القرآن كما تعاملت اليهود مع التوراة فينبغي علينا اليوم وخاصة في مثل هذه الظروف الحرجة  التي تعيشها الأمة الإسلامية أن نكون أكثر تدبرا للقرآن وأكثر عملا به وأكثر اعتزازا به وأن ننظر إلى جميع الأحداث من خلال عدسة القرآن وأن لا ننخدع بأي تحليلات أخرى تجانب مفاهيم القرآن وأن نرفض رفضا باتُّا كل الأفهام الخاطئة لمعاني القرآن التي يستغلها ضعفاء النفوس من علماء السلاطين والملوك الذين يَلِبسون الحق بالباطل ويسوقون العامة سوقا إلى تأييد الظالمين ويبررون للملوك والسلاطين موالاة أعداء الأمة بل أشد من ذلك وأعظم مباركتهم لمحاربة الحق وأهله والوقوف ضد حملة الحق والسعي الحثيث في الإفتاء بقتلهم وتعذيبهم واضطهادهم وكل ذلك يحدث من خلال التفسيرات الخاطئة لآيات القرآن ففي زماننا هذا للأسف الشديد يتعرض القرآن لأبشع عملية تحريف لمعانيه ومفاهيمه ويستغل هذا التحريف لضرب أمة الإسلام من داخلها و تفكيك أواصرها والعمل على تقويض بنيانها وخلخلة صفوفها كل ذلك يحدث تحت عناوين قرآنية ودينية والمستفيد الأول من معركة تحريف معاني القرآن هم أعداء الأمة الإسلامية سواء كانوا في الداخل أو الخارج).

الدلالات: