عندما رفع بعض قادة الدول العربية الذين عرفوا بتبعيتهم للولايات المتحدة الأمريكية شعار "الأرض مقابل السلام" بعد أن أو عزت إليهم واشنطن بالتحرك نحو إقامة علاقات دبلوماسية مع الكيان الصهيوني تحت مسمى "إحلال السلام في الشرق الأوسط".. عندما رفع أولئك القادة ذلك الشعار رد عليهم القادة الصهاينة الشعار "التطبيع مقابل السلام".. ومع مرور الوقت بدأت كلمة "التطبيع" في الانتشار شيئاً فشيئاً على صعيد التداول الإعلامي والسياسي عند الحديث عن الصراع العربي الصهيوني وبدأت عبارة "الصراع العربي- الصهيوني" تختفي شيئاً فشيئاً لتستبدل بعبارة "الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي" ثم تستبدل كلمة "الصراع" بكلمة "النزاع" .. وهكذا ..
بدأت عملية التلاعب المنظم والممنهج بالمصطلحات والعبارات والشعارات وصولاً إلى ما كانت تخطط له الدوائر الصهيونية وتسعى للوصول إليه وهو فرض "التطبيع" مع كيان الاحتلال الصهيوني على الدول العربية قسراً عبر ما سمي بـ "مبادرات السلام" التي بدأت "بمبادرة السادات" التي تمثلت بقيادة الرئيس المصري الراحل أنور السادات بزيارته الشهيرة للكيان الصهيوني في نوفمبر 1977م وخطابه الشهير أمام برلمان الاحتلال "الكنيست". والحقيقة أن تلك الزيارة لم تكن وليدة اللحظة كما حاولت وسائل الإعلام حينها الإيحاء بذلك ، وإنما جاءت في إطار ما كانت تخطط له الدوائر الصهيونية منذ وقت مبكر..
وكان التطبيع تحت ستار ما سمي بتحقيق السلام في الشرق الأوسط يأتي في مقدمة ما خططت له الدوائر الصهيونية وسعت إلى الوصول إليه عبر الولايات المتحدة الأمريكية.. وقد بدأ التمهيد لزيارة السادات للقدس منذ حرب أكتوبر 1973م وهو ما يبدو بوضوح من خلال الأحداث التي رافقت وتلت تلك الحرب والتي كان من أبرزها:
و كنتيجة للاشتباكات فإن موقفاً جديداً قد نشأ في المنطقة ، ولأنه كان طبيعياً توقع تطورات جديدة في خلال الأيام القليلة القادمة فإننا نود تحديد إطار موقفنا :
- إن هدفنا الأساسي لا يزال كما كان دائماً ، تحقيق سلام في الشرق الأوسط وليس تحقيق تسويات جزئيه .
- إننا لا نعتزم تعميق مدى الاشتباكات أو توسيع مدى المواجهة)
وأعرب السادات في الرسالة عن استعداده للمساهمة في مؤتمر سلام بالأمم المتحدة ( على أي شكل مقبول سواءً كان تحت إشراف السكرتير العام ، أو ممثلي الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن أو أي هيئة أخرى مناسبة ) ..
بعد مرور 15 يوماً على بدء المعارك بعث الرئيس السادات برسالة إلى الرئيس السوري حافظ الأسد شريكه الأساسي في الحرب جاء فيها :
( لقد قاتلنا الإسرائيليين إلى اليوم وكانت إسرائيل لوحدها في الأيام الأربعة الأولى فاستطعنا أن نعري موقفها في الجبهتين ، وباعتراف العدو نفسه فإنه فقد 800 دبابه و200طائره ، لكنني كنت في الجبهة المصرية خلال العشرة الأيام الأخيرة أقاتل الولايات المتحدة أيضاً عن طريق الأسلحة التي ترسلها لإسرائيل ، وأقولها بصراحه :إنني لا أستطيع أن أقاتل الولايات المتحدة أو أتحمل أمام التاريخ المسئولية عن تدمير قواتنا المسلحة للمرة الثانية ، لذلك فإنني أبلغت الاتحاد السوفيتي أنني مستعد لقبول وقف إطلاق النار في المراكز الحالية وعلى أساس الشروط التالية :
إن قلبي ليقطر دماً وأنا أقول هذا لك ، لكني أشعر بأن واجبي يقتضي اتخاذ هذا القرار ، وأنا مستعد لأن أواجه شعبنا في اللحظة المناسبة وأقدم إليه حساباً كاملاً عن هذا القرار)..
وجاء رد الرئيس الأسد على رسالة السادات كما يلي :
( لقد تلقيت رسالتك بأعمق المشاعر ، أخي : أرجوك أن تعيد النظر في الموقف العسكري على الجبهة الشمالية وعلى جانبي القناة إننا لا نرى سبباً للتشاؤم وفي استطاعتنا أن نواصل الكفاح ضد قوات العدو سواء أكانت قواته قد عبرت القناة أو لا تزال تقاتل في شرق القناة وأنا واثق من أننا يمكننا بمواصلة المعركة وتشديدها أن نضمن تدمير تلك الوحدات من قوات العدو التي عبرت القناة.
أخي الرئيس السادات : إن من الضروري بالنسبة إلى الروح المعنوية للقوات المقاتلة التأكيد على أنه رغم أن العدو تمكن نتيجة حادث ما من اختراق جبهتنا ، فإن هذا لا يعني أنه سيكون قادراً على تحقيق النصر ، لقد نجح العدو في التغلغل في الجبهة الشمالية منذ أيام عدة مضت لكن الوقفة التي وقفناها عندئذ وما أعقبها من قتال شديد قد عززا أمالنا بالتفاؤل ، فقد أغلقنا معظم النقط وسيكون في إمكاننا أن نعالج أمر النقط الباقية في مدى الأيام القليلة المقبلة ، إني أعتبر احتفاظ جيوشنا بروح القتال أمراً لا بديل عنه .
أخي العزيز الرئيس : إني واثق أنك تقدر أني وزنت كلماتي بأقصى العناية وبإدراك كامل إلى أننا نواجه الآن أصعب فترة في تاريخنا ، وقد رأيت من الواجب على أن أكشف لك عن تفكيري ، ولا سيما في ما يتعلق بالموقف العسكري على الجبهة الشمالية . و الله معك ...)
( سيدتي رئيسة الوزراء : إننا نعتقد أن إنجازاً كبيراً قد تحقق لكم ولنا ، وهو إنجاز يؤيد الشجاعة القتالية لقواتكم ويصون منجزاتها ، فقد توصل وزير الخارجية ( هنري كيسنجر ) إلى صيغة مشروع قرار لوقف إطلاق النار مع القيادة السوفيتية ، وأنا أعرف أن نصوص هذا المشروع قد وصلت إليكم ، ولكنه من المهم أن ألفت نظرك إلى بعض النقاط الأساسية في مشروع القرار :
أولاً : أن مشروع القرار يترك قواتكم في المواقع التي وصلت إليها .
ثانياً : أنه لا توجد في المشروع على الإطلاق أية إشارة من أي نوع إلى كلمة الانسحاب .
ثالثا : أنه لأول مرة تمكنا من إقناع الاتحاد السوفيتي على موافقته على عقد مفاوضات مباشرة بين الأطراف وبدون أي اشتراطات أو قيود وأن تتم المفاوضات تحت الرعاية الملائمة .
رابعاً : وفي نفس الورق فقد اتفقنا نحن والسوفيت بطريقة شخصية على أن نضع عملية التفاوض تحت رعايتنا المشتركة لتسهيل العملية . ونأمل أن يكون ذلك موضع موافقة بين الأطراف ... )
( إن ألفي مقاتل إسرائيلي سقطوا قتلى حتى الآن ، وبنسبة عدد السكان قياساً على الولايات المتحدة فإن ذلك معناه كما لو أن أمريكا فقدت 200000 قتيل في معركة ..)
وذكر كيسنجر في مذكراته أنه قال لرئيسة الوزراء الصهيونية :
( إننا سوف نتفهم موقفكم إن قمتم بخرق وقف إطلاق النار لعدة ساعات ، وعلى الأقل للمدة التي سوف أقضيها في الجو مسافراً من تل أبيب إلى واشنطن ) ...
لكن ما حدث هو أن القوات الصهيونية واصلت عملياتها القتالية على الجبهة المصرية وخرقت وقف إطلاق النار ليس لعدة ساعات وإنما لعدة أيام ....
( إنه لا يليق بكرامة الصين أن تكون حاضرة في اجتماع يناقش قضية على هذه الدرجة من الأهمية ثم تمتنع عن التصويت ) ... و بعد اللقاء تلقى مندوب الصين الدائم مكالمة هاتفية من بكين تضمنت تعليمات جديدة مؤادها :
( أنه مادام أصدقاؤنا العرب يعتبرون مرور المشروع مسألة حيوية بالنسبة لهم ، ولما كانوا هم الأدرى بمصلحتهم فإن الوفد الصيني يستطيع أن يتغيب عن جلسة مجلس الأمن أصلاً حتى يتجنب التصويت على مشروع قرار لا يعتقد بصوابه ، وحتى لا يعترض على مشروع قرار يعتقد العرب أنه في مصلحتهم ، ومن ناحية ثالثه فإن الغياب عن الجلسة يعفي الوفد الصيني من دور سلبي مُهين ( وهو أن يمتنع عن التصويت رغم حضوره الجلسة ) وفي كل الأحوال فإن غياب الوفد الصيني عن الجلسة في حد ذاته موقف ) ...
( إن الاتحاد السوفيتي يرى أن الوقت قد حان لكي تعمل القوتان الكبيرتان معاً ، وأن يقوم الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة على وجه الاستعجال بإرسال وحدات من قواتهما المسلحة إلى منطقة الصراع ، وتكون مهمة هذه القوات أن تتأكد من تطبيق قرارات مجلس الأمن بتاريخ 22 و 23 أكتوبر وبغرض فرض احترام وقف إطلاق النار وإيقاف كل العمليات العسكرية ...
إنه من الضروري الاستجابة لهذا الطلب بدون تأخير ، وإنني لأقول صراحة أنه إذا لم يكن في مقدوركم التصرف معنا بصورة مشتركه لمواجهة هذا الموقف فإننا سوف نرى ما يمكن عمله منفردين ، وفي كل الأحوال فنحن لا نقبل أن تتصرف إسرائيل بطريقة تعسفية معتمدة على تأييد الولايات المتحدة ) ... و صاحب إرسال هذه الرسالة تحركات عسكرية سوفيتية استرعت انتباه المخابرات المركزية الأمريكية كان من بينها زيادة كبيره في وحدات الأسطول السوفيتي العاملة في البحر الأحمر حيث وصلت هذه الوحدات إلى 85 قطعة بحرية ، كما صدرت أوامر بانضمام 15 قطعة بحرية إليها من الأسطول السوفيتي في المحيط الهندي ، إضافة إلى تحرك وحدات بحريه سوفيتية تصل إلى 12 قطعة بينها قطعتان برمائيتان باتجاه ميناء الإسكندرية المصري ، كما وضعت قوات ألمانيا الشرقية في حالة استعداد ...
ورداً على رسالة ( بريجنيف ) والتحركات التي صاحبتها تم التوجيه بوضع القوات الإستراتيجية الجوية الأمريكية تحت حالة الإنذار ، وإخطار الفرقة 82 الأمريكية المحمولة المتمركزة في ألمانيا الغربية أن تستعد للحركة ، كما تم توجيه حاملة الطائرات ( فرانكلين روزفلت ) أن تتحرك من ميناء نابولي الايطالي وتنضم إلى حاملة الطائرات ( اند بندتس ) في جنوب كريت ، وأن تتحرك حاملة الطائرات ( جون كينيدي ) ووحدات البحرية المرافقة لها من المحيط الهندي إلى البحر الأبيض المتوسط ... و جاءت هذه التحركات العسكرية الأمريكية قبل الرد الرسمي على رسالة ( بريجنيف ) وكادت الأمور تصل إلى حد المواجهة النووية بين القوتين الأعظم على أرض الشرق الأوسط ...
كل هذا لأن الولايات المتحدة كانت تعارض بشده قيام قوات سوفيتية – أمريكية مشتركه بالتوجه إلى المنطقة لمراقبة وقف إطلاق النار وفرض احترام تطبيق قرارات مجلس الأمن ، كما كانت الولايات المتحدة ترفض بشده صدور قرار من مجلس الأمن الدولي بهذا الشأن ولوحت باستخدام حق النقض ( الفيتو ) في حالة اجتماع مجلس الأمن لاتخاذ قرار من هذا النوع ، وذلك لأن واشنطن لا ترغب في أن ترى تواجداً عسكرياً سوفيتياً في المنطقة بل وتعمل جاهدة على إخراج السوفيت منها بصورة كاملة ... و بناءً على ذلك فقد طلبت الولايات المتحدة من الرئيس المصري أنور السادات أن يطلب مجلس الأمن إرسال قوة دولية من الدول غير دائمة العضوية في المجلس لمراقبة تنفيذ قرارات وقف إطلاق النار ورداً على الطلب الأمريكي بعث الرئيس السادات برسالة إلى الرئيس ( نيكسون ) مما جاء فيها :
( إني متفهم للظروف التي عرضتموها فيما يتعلق باستخدام قوة أمريكية – سوفيتية مشتركة ، وقد طلبنا بالفعل من مجلس الأمن سرعة إرسال قوة دولية إلى المنطقة لضمان تنفيذ قرارات مجلس الأمن ، ونحن نأمل أن هذا الوضع سوف يمهد الطريق للإجراءات الأخرى التي جرى التعبير عنها في قرار مجلس الأمن بهدف إقامة سلام عادل في المنطقة ) .
وقد علق وزير الخارجية الأمريكية ( هنري كيسنجر) على هذه الرسالة كما يلي :
ومن خلال رؤية تحليليه سريعه لكل ما سبق يمكن استخلاص ما يلي :
وبناءً على تلك القناعة فإن الهدف الماثل أمام الرئيس السادات في أعقاب حرب أكتوبر تمثل في تعزيز جسور التواصل مع الولايات المتحدة وإقامة علاقات مميزه معها والسعي من خلالها إلى الوصول إلى حل سلمي مع الكيان الصهيوني بأي ثمن .
( لم يعد أمام الاتحاد السوفيتي إلا مسايرة الاقتراح المصري ... إ لخ ) . وعلى الموقفين السابقين الصيني والسوفيتي يمكن قياس المواقف الدولية الداعمة للأمة العربية في صراعها مع الكيان الصهيوني في مختلف المراحل في الماضي والحاضر باعتبار أنه لا يمكن أن تكون هذه الدولة أو تلك من دول العالم ملكية أكثر من الملك إن جاز التعبير ...
ومما يمكن استخلاصه مما سبق أيضاً أن الهدف الماثل أمام الكيان الصهيوني عقب حرب أكتوبر تمثل في ترميم سمعة جيشه الذي قهرته الضربات الموجعة للقوات المصرية والسورية في سيناء والجولان وأخرجت قادة هذا الجيش بصفة خاصة وقادة الكيان الصهيوني بصفة عامة من دائرة الوهم المتمثلة في مقولة ( الجيش الذي لا يقهر ) ... و إلى جانب مهمة ترميم سمعة جيشه فإن الكيان الصهيوني اتجه نحو تحقيق أهدافه التوسعية التي لم يتخل عنها من خلال التسوية والتفاوض المباشر وفقاً للشروط التي يمليها بل ويفرضها بدعم وتأييد ومباركة الولايات المتحدة الأمريكية .. ومن هنا يمكن فهم زيارة السادات للقدس في نوفمبر 1977م والأهداف الحقيقية التي سعت الدوائر الصهيونية إلى تحقيقها من وراءها..
ومن كل هذا يمكن القول أن ما يجري في الوقت الراهن لا يمكن فصله عما جرى حينذاك فالحاضر كما يقال هو الامتداد الطبيعي للماضي..