الشهادة في فكر الامام علي "عليه السلام"

نشر بتاريخ: اثنين, 29/02/2016 - 10:21م

أطلقت الشهادة في اللغة على:-

1- "الحضور على الواقع عند و قوعه". و من ثم يقال: يرى الشاهد ما لا يراه الغائب.

(ﻭﺷﻬﺪﻩ ﻛﺴﻤﻌﻪ ﺷﻬﻮﺩا ﺃﻱ ﺣﻀﺮﻩ، ﻓﻬﻮ ﺷﺎﻫﺪ، ﺟمعه ﺷﻬﻮﺩ، ﺃﻱ ﺣﻀﻮﺭ، ﻭﻫﻮ ﻓﻲ اﻷﺻﻞ ﻣﺼﺪﺭ)، وهذا كما قال تعالى: (مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا) [سورة الكهف : 51] اي لم أحضِرهم عند خلقها حتى يكونوا شهودا عليها، وكما قال تعالى: (أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي) [سورة البقرة : 133] اي أم كنتم حاضرين حين حضر الموت يعقوب عليه السلام

2- وتقال على معنى "أداء و نقل الواقع إلى الغير":

(ﻭﻳﻘﺎﻝ: ﺷﻬﺪ ﻟﺰﻳﺪ ﺑﻜﺬا ﺷﻬﺎﺩﺓ، ﺃﻱ ﺃﺩﻯ ﻣﺎ ﻋﻨﺪﻩ ﻣﻦ اﻟﺸﻬﺎﺩﺓ، ﻓﻬﻮ ﺷﺎﻫﺪ)، فان كان أداء الشهادة بحق و على مقتضى الواقع سميت شهادة حق كما قال تعالى : (َإِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [سورة الزخرف : 86]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ) [سورة النساء],

وان كانت بخلاف الحق والواقع سميت شهادة الزور كما قال تعالى في وصف المؤمنين: (وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) [سورة الفرقان : 72].

والشهادة في القران الكريم اطلقت على المعاني المتقدمة، وأطلقت ايضا على معان أخر منها:

3-"اقامة الحجة و توضيح الحق للناس و دعوتهم اليه"

حتى لا يكون للناس على الله حجة بان يقولوا لم يدعنا أحد إلى الحق ولو دعانا لأجبنا كما قال تعالى:(رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) [سورة النساء : 165]، ثم بعد إقامة الحجة يقومون بأداء الشهادة امام الله يوم القيامة بانهم قد اقاموا الحجة على عباده.

و بهذا المعنى اطلق على الرسل صلوات الله عليهم بأنهم شهداء كما قال تعالى: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ شَهِيدًا) [سورة النساء : 41]. و كما قال تعالى: (إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ رَسُولًا).[سورة المزمل : 15].

و بهذا المعنى ايضا أطلق على الأئمة الهداة الدعاة الى الحق من آل البيت عليهم السلام بأنهم شهداء على الناس كما قال تعالى: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ۚ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ۚ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ۚ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ).[سورة الحج : 78].

و بهذا المعنى أيضا سمى الله الأمة التي تقوم بدورها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ) [سورة آل عمران : 110]، و اطلق عليها انهم شهداء على الناس ووسمهم بالوسطية فقال تعالى: (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) [سورة البقرة : 143].

 

معنى الشهادة في سبيل الله

بعد أن عرفنا معاني الشهادة في اللغة العربية والقرآن الكريم، ينبغي أن نعلم أن لفظ الشهادة في عرف الشرع قد غلب استعماله في من يقتل في سبيل الله لإعلاء كلمة الله و نصرة دينه و إقامة الحق.

و هو ايضا في هذا الموضع مأخوذ من إقامة الحجة والشهادة لله يوم لقائه بالدعوة للناس الى الحق "و قبولهم، أو رفضهم له"

فدم الشهيد الذي سفك في سبيل الله و روحه الطاهرة التي أزهقت في سبيل الدعوة الى الله و نصرة دينه هي أكبر شاهد على أولئك المجرمين الذين حاربوا الله و رسوله و خالفوا الحق و قتلوا الذين يأمرون بالقسط والحق من الناس كما قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) [سورة آل عمران : 21].

فالشهادة في سبيل الله هي بذل الروح والنفس في سبيل الدعوة الى الحق و إقامة الحجة على الناس بما يقطع العذر لهم أمام الله.

و لكن من المهم جدا ان نعلم انه ليس كل من يقتل في المعركة يعتبر شهيدا و يكتب عند الله شهيدا مهما لم يكن قتاله لله في سبيل إقامة الحق والدين ملتزما بالشرع و بالتوجيهات الإلهية في أقواله وأفعاله و جميع سلوكياته؛ اذ كيف يكون شاهدا على من خالف الحق وهو لم يلتزم بالحق في اقواله وأفعاله، فلا يكفي ان يكون الإنسان تحت راية الحق أو مع قيادة محقة أو لأنه يقاتل أهل الباطل في ان يكتب عند الله من الشهداء مهما كانت تصرفاته و أعماله مخالفة للحق ولتعاليم الله سبحانه؛ و لهذا ورد في كثير من الروايات أن أناسا كانوا يقاتلون تحت راية الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله وسلم المشركين فيقتلون، فيقال: يا رسول الله، فلان شهيد، فيقول صلى الله عليه وآله وسلم: (لا؛ إنه في النار في عباءة غلها)، (لا؛ إنه لا يدخل الجنة عاص).

 

الشهادة في فكر ونهج الإمام علي

وأما اذا جئنا الى الشهادة في فكر ونهج الإمام علي عليه السلام فإنا نرى الإمام علي عليه السلام مع ما كان عليه من صفات الفضل وخصال الخير التي تفرد بها؛ فهو :من تربى في حجر الرسول، و نمى تحت اشرافه و رعايته، و هو السابق الى الاسلام؛ و أول من آمن برسول الله صلى الله عليه واله وسلم؛ و هو من قام الإسلام بسيفه كما قال الشاعر:

و بسيفه قامت قناة الدين لو# لا سيفه ما قام منه قناه

وهو عيبة علم المصطفى؛ و باب مدينة علمه؛ و هو أخوه، و وصيه، و خليفته من بعده الى غيرها من الفضائل التي لا تحصى لا تحتويها المجلدات الكبار.

و لكن أمير المؤمنين صلوات الله عليه كان مع ذلك حريصا أشد الحرص على أن لا يفوته مقام الشهادة و درجتها العظيمة فهو من كان يتمناها في كل معركة يخوضها دفاعا عن الإسلام. بل كان يدعو و يبتهل الى ربه أن يوفقه للشهادة.

و لما مضت عدة غزوات ولم يحصل على الشهادة تقدم الى أخيه و قدوته و مثله الأعلى بالطلب أن يتقدم بالدعاء إلى ربه أن يرزقه الشهادة في سبيله.

و لما مرت عدة معارك لم ينل فيها الإمام علي عليه السلام الشهادة أخذ يعاتب حبيبه و يشكو اليه:(يا رسول الله طلبت منك ان تدعو الله لي بالشهادة وأنا أرى إخواني يستشهدون دوني)، فيرد عليه الرسول الأعظم صلى الله عليه واله وسلم: (انها من أمامك يا علي و لكن من يقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين، أما انها ستخضب هذه من هذه -و اشار الى رأسه ولحيته- فكيف صبرك عندها يا علي)، فيجيب الإمام علي بتلك الروحية العظيمة التي باتت تعشق الشهادة في سبيل الله و تعرف قدرها و منزلتها، فتعتبرها وسام شرف و درجة رفيعة، يحمد الله الانسان ان منحه إياها، فيقول الامام علي عليه السلام مجيبا على حبيبه المصطفى: (ليس ذلك من مواطن الصبر يا رسول الله بل هو من مواطن الشكر).

هكذا عاش الامام علي عليه السلام طيلة حياته و هو يحلم بالشهادة في سبيل الله و يبذل حياته للجهاد في سبيل الله، "لا يبالي أوقع على الموت أو وقع الموت عليه"، بل كان كما قال عليه السلام: "والله لابن ابي طالب آنس بالموت من الرضيع بثدي أمه"، و هو القائل عند قتال الخوارج: "والله لانا أشوق الى لقائهم منهم الى ديارهم".

و قد كان من إتمام الفضل و الشرف لأمير المؤمنين عليه السلام أن يرزقه الله الشهادة على يد شر الخلق والخليقة البذرة الشيطانية التي أنتجت منهج التكفير للمسلمين و استباحة دمائهم و أعراضهم، والذين اخبر الرسول الاعظم صلى الله عليه واله وسلم انهم "شر الخلق والخليقة يقتلهم خير الخلق والخليقة"، فكان أمير المؤمنين هو من نال شرف قتل هؤلاء الخوارج المارقين التكفيريين في وقعة النهروان.

و عندما سمعت أم المؤمنين عائشة بقتلهم قالت من قتلهم؟؟ فقيل: علي بن ابي طالب، فقالت: أما إنه لا يمنعني ما بيني و بين علي أن أقول فيه ما سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سمعته يقول فيهم :(هم شر الخلق والخليقة يقتلهم خير الخلق والخليقة).

وهؤلاء الخوارج التكفيريون هم من حدثنا عنهم و عن صفاتهم الرسول الأعظم صلى الله عليه واله وسلم قائلا: "يأتي اناس يحسنون القول و يسيئون الفعل"، "يقرؤون القران لا يتجاوز تراقيهم"، "يحسبونه لهم و هو عليهم"، "تحقرون صلاتكم عند صلاتهم و تلاوتكم عند تلاوتهم"، "يحفون شواربهم و يعفون لحاهم"، "أزرهم إلى أنصاف سوقهم"، "يحاربون اهل الاسلام ويدعون أهل الاوثان"، "طوبى لمن قاتلهم و قتلوه"، "لئن أدركتهم لأقتلنهم قتلة عاد"، "هم شر الخلق والخليقة يقتلهم خير الخلق والخليقة"، "يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية"، "هم كلاب أهل النار".

عندما نستمع الى هذه الاوصاف التي و صف الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم بها هذه الفرقة المارقة الضالة ندرك مدى ضرر و خطر هذا الفكر التكفيري على مستقبل الأمة.

و لهذا فلا يستغرب أن يقوم هؤلاء بالتقرب إلى الله -على زعمهم- بقتل أميرالمؤمنين ويعسوب الدين، و سيد الوصيين، و قائد الغر المحجلين؛ أخي رسول رب العالمين؛ و وصيه، و خليفته من بعده، من يدور مع الحق و الحق يدور معه، من هو مع القران والقران معه، من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتل الرسول على تنزيله، من يقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين.

لا غرابة ان يقوم أشقى الخلق بالتربص لاغتيال هذه الشخصية التي انهد بمقتلها عمود الدين و تهدمت أركان اليقين و أظلمت الأرجاء و اسود الفضاء.

فتربص اللعين لأمير المؤمنين سلام الله عليه و هو خارج لأداء صلاة الفجر في المسجد فضربه بسيف كان قد صقله بألف دينار و سمّه بألف دينار فشق به هامته المنيفة حتى سال الدم على لحيته الشريفة كما أخبر حبيبه المصطفى صلى الله عليه واله وسلم.

و هنا و في هذه اللحظة نال أمير المؤمنين ما كان ينتظره بلهفة و شوق منذ أيام شبابه و لم ينله إلا و قد بلغ الثالثة والستين من عمره و عند ذلك يطلق أمير المؤمنين صرخته التي تدل على مدى ترسخ و تجذر حب الشهادة في قلبه و كيانه قائلا:(فزت ورب الكعبة).

فاز لأنه نال شرف الشهادة في سبيل الله، فاز لأنه سار على النهج القويم الذي يؤهله لأن يكون من الشهداء مع كل ما ناله من الفضل والشرف في مسيرة البذل والعطاء اللامحدود التي قضى عمره بأكمله في سبيلها فصلوات الله عليك يا أمير المؤمنين يوم ولدت و يوم استشهدت و يوم تبعث الى ربك مرضي القول مشكور السعي تحمل لواء الحمد و تقف تسقي المؤمنين على حوض الرسول الأمين و جعلنا الله ممن سار على دربك و اهتدى بهداك و رزقنا الشهادة في سبيله بحق محمد واله و لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم و صلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليما كثيرا.