أدب المقاومة في الفكر الإسلامي

نشر بتاريخ: سبت, 07/03/2015 - 12:28م

منذ البواكير الأولى لتاريخ البشرية والإنسان يسعى لمقاومة ما من شأنه أن يهدد وجوده بالفناء أو يتسلل إلى حرم معتقداته وقناعاته ليشونه معالمها أو يطمس ملامحها، وتنوعت سبل المقاومة تلك وتعددت آلياتها وأساليب ليجد الإنسان نفسه في بعض مراحل التاريخ وجهاً لوجه أمام الآخر في معركة وجودية تبدأ بالكلمة والحوار وتنتهي بالصدام وما يكتنز به من ويلات ودمار واستئصال لوجود الإنسان وفكره ومعتقده.

تلك كانت طبيعة الحياة في مجتمعات البشر، وهي طبيعة جسدت بأبعادها الدلالية صور الصراع القديم الجديد فيما بين الحق والباطل أو لنقل فيما بين القوى المستبدة الباغية وبين الفئات المستضعفة المسحوقة التي تسعى دائماً إلى إثبات وجودها وتحقيق حضورها الفاعل والدفاع عن حقها في الحياة وحقها في ممارسة معتقداتها وطقوسها بحرية تامة.

لقد استحالت فلسفة الصراع إلى عقيدة راسخة في الوجدان الجمعي لنبي البشر، وثقافة تتوارثها الأجيال عن أسلافها جيلاً بعد جيل، وهي ثقافة استمدت رؤاها من فطرة الإنسان المجبولة على حب الحرية والتطلع إلى حياة كريمة تسودها العدالة والمساواة.

وإذا كانت العصبية والنزعة الفردية إلى السيطرة والتملك قد أسهمتا في انحراف مفهوم المقاومة عن مسارها الصحيح المتمثل في الدفاع عن العرض والمال والنفس لتتحول إلى وسيلة من وسائل الإقصاء للآخر، فإن المعاناة الإنسانية التي سطرها التاريخ على صفحاته لأيام العرب ووقائعها تمثل نتيجة طبيعية لذلك الانحراف عن مسار الثورة الحقيقية في بعدها الإيجابي. وهكذا انقلبت المقاومة على أهدافها الإنسانية السامية والتي كانت تتمثل في مقاومة الاستبداد والظلم والانتصار للأعراض عندما تدنسها المطامع الأنانية الوحشية ونجدة الملهوف والمظلوم والدفاع عن القيم والمعتقدات، لتتحول إلى نوع من السلب والنهب والتدمير، وهذا ما نجده في قول القائل:

ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه
 

 

يُهدَّم ومن لا يظلم الناس يظلم
 

 

  وعندما جاء الإسلام استطاع أن يقدم ثقافة إنسانية مغايرة في الشكل والمضمون لنمط الثقافة السائدة في العصر الذي سبقه، فمنظومة القيم التي جاء بها الإسلام وخلدها قرآناً يُتْلى.

قد استطاعت أن تهذب أخلاق أتباعها وتربي نفوسهم على العزة والكرامة ورفض الضيم والقهر والاستبداد والوقوف صفاً واحداً في مواجهة الانحرافات التي تهدد كيان الأمة الإسلامية الواحدة بالزوال أو تسعى للنيل من عقيدتها السمجاء، فعقيدة الإسلام قد جاءت لتحرير البشر من قيود العبودية والظلم والامتهان ليدخلوا في عبادة الله الواحد الأحد وينعموا في ظلاله بالسكينة والسعادة والاطمئنان حيث تتحقق لهم الحرية والعدالة والمساواة.

وهكذا كان الإنسان المسلم لا يغضب حين يغضب إلَّا لله، ولا يشهر سيفه حين يشهره إلا للدفاع عن عقيدة الإسلام أو الانتصار لمظلومية الإنسان.

لقد انعكست تلك القيم الإنسانية الجديدة على الحياة الثقافية في واقع المجتمع الإسلامي وتمثلها الشعراء في أشعارهم، واتخذها المجاهدون شعاراً يتمثلونه في ساحة المقاومة والجهاد حتى أصبحت عنواناً لكل حركة جهادية على امتداد التاريخ الإسلامي.

وهذا ما تجده في شعر شعراء صدر الإسلام، حيث يقول حسان بن ثابت شاعر الإسلام الأول في وصف معركة بدر الكبرى مفاخراً بانتصارات الدعوة الإسلامية:

ولقد نلتم ونلنا منكم
 

 

وكذلك الدهر أحياناً دُوَل
 

إذ شددنا شدة صادقة
 

 

فأجأناكم إلى سفح الجبل
 

وعلونا يوم بدر بالتقى
 

 

طاعة الله وتصديق الرسل
 

وتركنا في قريش عورة
 

 

يوم بدر وأحاديث مثل ([1])
 

 

 وهكذا تحددت أهداف المقاومة في الفكر الإسلامي بالدفاع عن دين الله تعالى ونصرة المستضعفين وهذا ما نجده في كل حركات المقاومة الإسلامية التي ظهرت بعد عصر الخلافة الإسلامية وبداية العصر الأموي ابتدأ بثورة الحسين بن علي عليه السلام في كربلاء في العام (61هـ) والتي دافع فيها عن الإسلام ضد انحرافات الدولة الأموية وتسلطها على رقاب المسلمين تحت شعار: (والله إن هي إلا سيرة محمد أو النار).

وقد استطاع الإمام الحسين بن علي عليه السلام أن يترجم أهداف ثورته شعراً ثورياً خلده التاريخ واتخذ منه الثائرون نشيداً للمقاومة في كل زمان ومكان.

وهكذا تجذرت روح المقاومة للظلم والطغيان في التراث الأدبي العربي متشبعة يروح الإسلام وقيمه وتعاليمه التي تدعو إلى مقاومة الفساد ومحاربة الطواغيت حتى قال بعض الشعراء:

عبد الأحجاروطاعة الرحمن
 

 

فرضاً جهاد الجائر الخوَّان
 

كيف النجاة لأمة قد بدلت
 

 

ما جاء في الفرقان والقرآن
 

فالمسرعون إلى فرائض ربهم
 

 

برئوا من الآثام والعدوان
 

والكافرون يحكمه ويفرضه
 

 

كالساجدين لصورة الأوثان ([2])
 

 

 فالموقف هنا قد فرض سلطنة على أصحاب النفوس التي تأبى أن تقف مكتوفة الأيدي وهي تشاهد مظاهر القهر والتسلط.

تحرم الإنسانية من الاستمتاع بحقها في الحياة التي منحها إياها خالقها، وتحول بينها وبين الاستضاءة بأنوار الهداية الإلهية عن طريق تحريفها وتشويه معالمها والانقلاب على منظومتها الإنسانية الخالدة.

من أجل كل ذلك تبلورت فلسفة الثورة واتضحت معالمها في فكر أهل البيت عليهم السلام وشربت بها نفوسهم وتربى عليها أبناؤهم.

وعندما نصل إلى الإمام القاسم الرسي عليه السلام (169-246هـ) حتى نجده يحمل هاجس الثورة ضد قوى الطغيان حيث يقول:

لله در عصابة
 

 

باعوا التظنن باليقين
 

فسمت بهم همم العُلا

 

 

عن صفقة الحظ الغبين
 

فتأثلوا عِزّ التقى
 

 

ونضيرة الفضل المبين
 

 

وعن الدوافع الإنسانية لثورة الإمام القاسم الرسي نجد ذلك البعد الاجتماعي الذي يسعى إلى ترسيخ قيم التعايش والتسامح والتعاون في قوله:

وإني لمعروف بأسوة صاحبي
 

 

ودافع ما يؤذيه بالمال والنفس
 

أحامي عليه إن تغيّر حاله
 

 

وإلّا فلست القاسم العالم الرسي
 

بذلك وصّاني سلالة أحمد
 

 

بحفظي لأصحابي على اليسر والتعس
 

ومن لم يكن يوسي أخاه بنفسه
 

 

فذاك من الإملاق أهل الخنا النكس
 

 

وهذه الروح الثورية ذات الأبعاد الإنسانية قد انعكست في فكر وثقافة نجله الإمام الهادي يحيى بن الحسين بن القاسم الرسي عليه السلام مؤسس الدولة الزيدية الأولى في اليمن.

وعلى نفس المنوال الثوري نسج الإمام المرتضى محمد بن يحيى الهادي (ت310هـ) حيث يقول:

أتعلم يا ركيك بني طريف
 

 

بأني ما دخلت الحجاز
 

وفي أملي البقاء لملك دنيا

 

 

تدوم وما أمنت من المراز
 

ولكني نهضت بثأر ربي
 

 

أذل الظالمين لدى البراز
 

 

ويقول في مكان مصوراً المقاومة الشرسة التي واجه بها الطغاة ثورة الحق وحق الثائرين:

إني امرؤ في الله أبذل مهجتي
 

 

وكذاك كان الغر من أسلافِ
 

قاموا دعاة للإله فنالهم
 

 

ظلم الطغاة بصارم الأسياف
 

 

أما الإمام القاسم العياني (ت393هـ) فقد جسد بلاء الأمة الإسلامية في تخاذلها عن دعوة الحق والانتصار لمظلوميتها وعدم مقاومة الطغاة حيث يقول:

يا أمة جهلت معالم دينها
 

 

وابتاعت الشهوات بالأديان
 

لو قمتم لله حين غضبتم
 

 

دون المراد لفزتم بجنان
 

 

لكنكم لم تغضبوا لحريمه
 

 

وغضبتم لمواكل وأمان
 

من لم ينلها منكم عادى لها
 

 

وأثر حرباً نيط بالخذلان
 

أبذا أتاكم أمره فتبعتم
 

 

أمر الإله فكيف بالبرهان
 

لو كان لي في الحق عنكم مهرب
 

 

لهربت دون تكلف الأحزان
 

 

وهكذا تجسدت روح الثورة والمقاومة في مقاومة الطغيان ومحاربة الفساد والانتصار لمظلومية الإنسان في كل زمان ومكان واستطاع فكر أهل البيت بالموقف والكلمة ليظل فكرهم هو الفكر الإنساني الذي حمل هم الإنسان وانتصر للعقيدة ودافع عن الأوطان في كل زمان ومكان وشواهد التاريخ الإسلامي عند كل طوائف المسلمين خير دليل على ذلك.

 

 

 

 

([1]) عباس المناصرة- مقدمة في نظرية الشعر الإسلامي- مؤسسة الرسالة- بيروت- دار البشير- الأردن- ط/1/1418هـ- 1997م- ص117.

([2]) إبراهيم بن علي الوزير – زيد بن علي جهاد حق دائم- منشورات كتاب- واشنطن – ط/2/1419هـ / 1999م.