الحسين بن علي الفخي عليه السلام

نشر بتاريخ: أربعاء, 10/10/2018 - 8:21م

جاء الإسلام بالقسط والعدالة وأمر بتحقيق ذلك في واقع الحياة البشرية فقال سبحانه: ﴿إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى﴾ بل جعلت الغاية من إرسال الرسل هي أن يقوم الناس بالقسط فقال سبحانه: ﴿لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط﴾ فالغاية إذن هي قيام الناس بواجب العدالة والقسط، فإذا تخلى الناس عن هذا الواجب فقد حرموا أنفسهم من روح الدين وجوهر الرسالات السماوية وما شرعت الشرائع كلها من لدن آدم إلى نبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ إلا لأجل هذا الواجب الكبير والهدف الخطير قال سبحانه مبيناً لعباده: ﴿شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه﴾ فقد لخصت لنا هذه الآية الكريمة خلاصة ما وصى الله به أولوا العزم من الرسل ألا وهي (إقامة الدين وعدم التفرق فيه) فمن جعل هذه الغاية أمامه وسعى بجهده إلى تطبيقها فقد فاز، لأنه اقتدى بالأنبياء على مر العصور، ولهذا نرى بين كل فترة وأخرى من فترات التأريخ الإسلامي إماماً من أئمة أهل البيت عليهم السلام يبذل مهجته ويرخص نفسه في سبيل إقامة دين الله سبحانه قائمين في وجوه الظالمين حاملين لواء المستضعفين غير مبالين في سبيل ذلك بأن تسفك دمائهم أو تهدر أموالهم، يذكرون الناس بقول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ: «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر» وذلك ليقينهم بعظيم الغاية وسلامة الطريق ووضوح المنهج.

ومن هؤلاء الأئمة العظام الذي خلدوا مسيرة عطائهم في صفحات التأريخ وكانت أيامهم وثوراتهم لمعات بيضاء تشع في سواد الزمن الحالك وتبين للمنصف أن الدين الإسلامي لم ولن يكون أفيون الشعوب بل مصدر شرارة للأحرار ومنطق عزٍ للثوار، من هؤلاء الأئمة الإمام الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب سلام الله عليهم أجمعين.

ولد سلام الله عليه سنة 128هـ تقريباً لأن المصادر التأريخية تقول أنه استشهد سنة 169هـ وعمره إحدى وأربعون سنة.

والداه:

عرف والدا الحسين (الفخي) بأنهما الزوج الصالح لورعهما  وزهدهما وفضلهما في العبادة، فأبوه هو علي بن الحسين (المثلث) يعرف (علي العابد) ويعرف أيضاً بـ(علي الخير) و(علي الأغر) وهذه الألقاب التي اشتهر بها لم تأت من فراغ فقد ذكرت لنا المصادر التأريخية نبذة من عبادة (علي العابد) فمن ذلك أنه عندما تزوج بزينب بنت عبدالله (الكامل) بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب (ابنة عمه) وهي أم الحسين الفخي، عندما زفت إليه قال لها زوجها (علي العباد) ليلة العرس: (هل لك أن نصلي هذه الليلة شكراً لله إذ جمع بيننا؟ قالت: أفعل، فباتا كذلك فلما دنا طلوع الفجر، قال لها هل لك في الصوم هذا اليوم شكراً لله إذ جمع بيننا، فصاما يومهما، فأقبلت الليلة الثانية فباتا يصليان ثم صاما ثانياً حتى أقاما سنة كاملة حتى قام إليه عمه عبدالله بن الحسن (الكامل): (لِـمَ رغبت عن سنة جدك أقسمت عليك إلا ما تركت هذا الأمر).

بعد سنة من العبادة رزقت زينب بن عبدالله بابنها الحسين ونشأ الحسين عليه السلام على السداد وصرف الرشاد جامعاً بين العلم والعمل صاحب كمال ومجد وقد جاءت فيه آثار عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ رواها أبو الفرج الأصفهاني في كتابه الشهير (مقاتل الطالبيين) منها ما روي أنه انتهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ إلى موضع فخ فصلى بأصحابه صلاة الجنائز فقال: «يقتل هاهنا رجل من أهل بيتي في عصابة من المؤمنين ينزل عليهم بأكفان وحنوط من الجنة تساق أرواحهم إلى الجنة قبل أجسادهم».

وفي رواية أخرى أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ مر بفخ فصلى ركعة فلما صلى الثانية بكى وهو في الصلاة فبكى الناس لبكائه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ فقال: «ما يبكيكم –وذلك بعد انصرافه- فقالوا: رأيناك تبكي فبكينا، فقال: نزل عليَّ جبريل لما صليت الركعة الأولى فقال: يا محمد إن رجلاً من ذريتك يقتل في هذا المكان وأجر الشهيد معه أجر الشهيدين».

* وفي بداية عمر الإمام الفخي انهارت الدولة الأموية بسبب كثرة المظالم وقامت دولة بني العباس، وتشابهت الدولتان في مظاهر الحكم وقمع الناس بل إن بني العباس كانوا أشد في ظلمهم لأهل البيت عليهم السلام فأول ما صنع أبو جعفر الملقب بالمنصور أن أمر بطلب محمد (النفس الزكية) بن عبدالله (الكامل) وأخيه إبراهيم بن عبدالله وهما خالا الحسين الفخي فلم يعثر عليهما فأمر أبو جعفر بالقبض على عبدالله بن الحسن الكامل وجمع كبير من صالحي آل بيته (بني الحسن) فكان من جملة المقبوض عليهم (علي العابد) والد الحسين (صاحب فخ) وأمر بسجنهم في سجن (ابن هبيرة) في بغداد وهو سرداب تحت الأرض لا يعلم ليله من نهاره، وفي هذا السجن حصلت قصص وبطولات قل نضيرها وملاحم لم يسمع التأريخ بمثلها وقد تصدر مواقف البطولة فيه (علي العابد) و(عبدالله الكامل) ففي مرة من المرات قال عبدالله بن الحسن الكامل لعلي العابد: (يابن أخي لو دعوت على أبي جعفر –وكان علي العابد مستجاب الدعوة- فسكت علي العابد طويلاً ثم قال: يا عم إن لنا في الجنة درجة لم نكن لنبلغها إلا بهذه البلية أو بما هو أعظم منها، وإن لأبي جعفر في النار موضعاً لم يكن ليبلغه حتى يبلغ منا مثل هذه الليلة أو أعظم منها فإن تشأ أن تصبر فما أوشك فيما أصبنا أن نموت فنستريح من هذا الغم كأن لم يكن منه شيء، وإن تشأ أن ندعوا ربنا أن يخرجك من هذا الغم ويقصر بأبي جعفر عن غايته التي له في النار فعلنا، قال: لا بل أصبر) وقد كانوا في هذا المحبس لا يعرفون أوقات الصلاة إلا بأوراد (علي العابد) التي كان قد اعتاد عليها، فلا ينتهي من ورده إلا بدخول وقت الصلاة الأخرى وعندما دخل ذلك المحبس قال: (اللهم إن كان هذا من سخطٍ منك علينا فاشدد حتى ترضى).

وروى أبو الفرج الأصفهاني أيضاً أنهم عندما سجنوا وقيدوا بدأت أجسادهم تضعف فكانوا يستطيعون إخراج أقدامهم من حلق القيود فإذا خافوا الحراس أعادوها، وكان علي العابد لا يفعل ذلك، فكلمه عمه عبدالله بن الحسن الكامل في ذلك فقال (علي العابد): (لا والله لا أخلعه أبداً حتى أجتمع أنا وأبو جعفر عند الله فيسأله لِـمَ قيدني به).

وفعلاً فارق علي بن الحسن  (العابد) الحياة وهو ساجد وقدماه مقيدتان شاهدتا على مظلومية كبيرة تحملها أهل البيت عليهم السلام.

* وصلت أنباء السجن ووفاة المسجونين تحت التعذيب إلى المدينة المنورة وإلى مسامع زينب بنت عبدالله زوجة علي العابد وابنة عبدالله بن الحسن الكامل وأم الحسين (صاحب فخ) كانت تندبهم وتبكي حتى يغشى عليها ولا تذكر أبا جعفر بسوء تحرجاً من ذلك وكراهة لأن تشفى نفسها بما يؤثمها ولا تزيد على أن تقول: (يا فاطر السماوات والأرض يا عالم الغيب والشهادة الحاكم بين عباده أحكم بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الحاكمين).

وفي هذا الجو المليئ بالتضحيات والبطولة والمآسي نشأ الإمام الحسين محباً لمكارم الأخلاق عاشقاً للقيم التي سار عليها السابقون من أهل البيت عليهم السلام.

كرمه عليه السلام:

أجمعت المصادر التأريخية التي بين أيدينا أن الإمام الحسين بن علي الفخي كان أعظم الناس في صفة الكرم حتى قيل أنه قد اشتهر من الكرم والجود مالم يشتهر به عربي ولا عجمي، وله في ذلك حكايا يطول ذكرها ولكن سنذكر بعضها، فقد روي عن الحسن بن هذيل يقول بعت لحسين بن علي (صاحب فخ) حائطاً بأربعين ألف دينار فنثرها على بابه فما دخل إلى أهله منها حبة، كان يعطيني كفاً كفاً فأذهب به إلى فقراء المدينة.

وذكر أنه في ذات مرة قال له الحسين الفخي: اقترض لي أربعة آلاف درهم فذهبت إلى صديق لي فأعطاني ألفين وقال لي: إذا كان غدٍ فتعال أعطيك ألفين، فجئت فوضعتها تحت حصير كان يصلي عليه فلما كان من الغد أخذت الألفين الأخيرين ثم جئت أطلب الذي وضعته تحت الحصير فلم أجده فقلت له يابن رسول الله ما فعل الألفان، قال: لا تسأل عنهما، فأعدت فقال: تبعني رجل أصفر من أهل المدينة فقلت ألك حاجة؟ فقال: لا، ولكني أحببت أن أصل جناحك فأعطيته إياها.

وفي رواية أخرى أنه اُشتري لحسين بن علي صاحب فخ ثوبان فكسا أبا حمزة -وكان يخدمه- ثوباً منها وارتدى هو بثوب، فأتاه سائل وهو ذاهب إلى المسجد فسأله فقال أعطه يا أبا حمزة ثوبك، قال فقلت له أمشي بغير رداء، فلم يزل بي حتى أعطيته ثم مشى السائل معه حتى إذا أتى منزله نزع ردائه وقال: ائتزر برداء أبي حمزة وارتد بهذا فتبعته فاشتريت الثوبين منه بدينارين وأتيته بهما فقال بكم اشترتيهما، قلت: بدينارين فأرسل إلى السائل يدعوه، فقلت له: امرأتي طالق إن رددتهما عليه، فحين حلفت تركه.

كان الحسين عليه السلام يستدين من التجار وغيرهم ليعطي للفقراء والمساكين حتى لم يعد أحد يقبل أن يقرضه واجتمع عليه غرمائه –يضيقون عليه في قضائهم أموالهم- فقال لهم: إلحقوني إلى باب المهدي، وفعلاً ارتحل الحسين وغرمائه إلى عاصمة الخلافة العباسية ودخل على المهدي العباس فاستغرب الخليفة من قدومه وأظهر تعظيمه وقال له: ما جاء بك يابن العم، فقال الحسين: ما جئتك وورائي من يعطيني درهماً، فقال له: هلا كتبت إلينا، قال الحسين: أحببت أن أحدث بك عهداً فأمر له المهدي بعشرين ألف درهم، فخرج وطرح ذلك في دار ببغداد فجاء غرمائه فكان يقول للواحد كم لك علينا، فيقول: كذا وكذا، فيزن له ثم يدخل يده في تلك الدراهم فيقول هذه صلة منا لك، فلم يزل حتى لم يبق من ذلك المال شيء.

وفي رواية تبين لنا نظرة الإمام للمال عن الحسن بن هذيل قال: كنت أصحب الحسين بن علي صاحب فخ فقدم إلى بغداد فباع ضيعة له بتسعة آلاف دينار فخرجنا فنزلنا سوق أسد فبسط لنا على باب الخان (الفندق)، فأتى رجل  معه سلة فقال له: مر الغلام يأخذ مني هذه السلة فقال له: ما أنت، قال: أنا أضع الطعام الطيب، فإذا نزل هذه القرية رجل من أهل المروءة أهديته إليه، قال: يا غلام خذ السلة منه وعد إلينا لتأخذ سلتك، قال: ثم أقبل علينا رجل عليه ثياب رثة فقال أعطوني مما رزقكم الله، فقال لي الحسين: ادفع إليه السلة، وقال: خذ ما فيها ورد الإناء، ثم أقبل عليَّ وقال: إذا رد السائل السلة فادفع إليه خمسين ديناراً، وإذا جاء صاحب السلة فادفع إليه مائة دينار، فقلت إبقاءً مني عليه: جعلت فداك بعت عيناً لك لتقضي ديناً عليك فسألك سائل فأعطيته طعاماً هو مقنع له فلم ترضى حتى أمرت له بخمسين ديناراً، وجاءك رجل بطعام لعله يقدر فيه ديناراً أو دينارين فأمرت له بمائة دينار.

فقال الإمام: يا حسن إن لنا رباً يعرف الحسنات إذا جاء السائل فادفع له مائة دينار وإذا جاء صاحب السلة فادفع إليه مائتي دينار، والذي نفسي بيده إني لأخاف أن لا يقبل مني لأن الذهب والفضة والتراب عندي بمنزلة واحدة.

وفي رواية أخرى أنه لما عوتب على كثرة إنفاقه قال: والله إني لأخشى أن لا يقبل مني، فقيل له: لماذا، قال: لأن الله سبحانه يقول: ﴿لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون﴾ وإن الذهب والفضة والتراب عندي سواء.

هذا العطاء للناس والاهتمام بالفقراء يدل على نفسية تخلصت من كل قيود الدنيا وانفتحت على الآخرة بكل آفاقها فلم يعد يرى في تلك الأموال من ذهب وفضة أي ميزة فمثلها في عينه مثل التراب والحصى.

 

التحرك السياسي:

رأى الإمام أحوال عصره فوجد ظلم بني العباس قد ملأ كل شيء وأن ميزان الحقوق قد صار مائلاً بشدة فالأمة تشقى لكي يسعد الخليفة وتجمع المال والخراج لكي يبعثرها الخليفة على الندماء والمغنيين والجواري والشراب بلا رقيب أو حسيب ولا وجود لقانون يحتكم إليه الجميع إلا أهواء الخليفة ورغباته فبدأ الإمام الحسين الفخي يتواصل مع المؤمنين الذين يأتون لزيارة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ في المدينة ويسمع منهم ثم يسمعون منه رؤيته للخروج بالأمة من هذا المنحدر السحيق، وكان هذا التواصل بالناس يؤرق ولاة بني العباس لأنه ينغص عليهم ماهم فيه من لذة وشراب وعندما تولى الخلافة موسى بن محمد الملقب بالهادي وكان ظالماً غشوماً قال المنصور بالله عليه السلام: وكان أي- موسى الهادي- جباراً عنيداً  فضاً غليظاً غيوراً حسوداً قل من يسلم لسطوته من جلسائه إلا من عرف غرضه وتوخى مراده وقد كان رام عقد الولاية لولده العباس وخلع أخيه هارون من العهد ولولده خمس سنين ولا يحسن قضاء الحاجة فضلاً عن ولاية الأمة، وليس العجب منهم فهم يحاولون الملك العجب من علماء الدين يشهدون لهم بالزور وهم منهمكون في الفجور. انتهى.

وكان موسى الهادي شديد السطوة على أهل البيت فولى على المدينة عمر بن عبدالعزيز من ولد عمر بن الخطاب فكان هذا العمري يسيئ معاملة أهل البيت ويأمرهم أن يحضروا عنده صباحاً ومساءً لكي يستعرض من غاب منهم ومن حضر وجعل بعضهم كفيلاً للبعض فإذا غاب أحدهم أخذ به كفيله، وفي مرة من المرات ادعى على الحسن بن محمد أنه وجده على الشراب وأدخل معه غيره لكي لا يتهم فيه واستمر الحال على هذا شهوراً وفي يوم غاب الحسن بن محمد بن عبدالله الكامل فطالب العمري الحسين الفخي ويحيى بن عبدالله بإحضار الحسن وأغلظ القول على الحسين الفخي وأقسم العمري على الحسين لأن لم تأتن به لأجلدنك ألف سوط مت أو حييت وطال الكلام بينهما فنهض يحيى بن عبدالله يقسم بكل يمين أنه سيأتيه الليلة به فخلى العمري سبيلهم فخرجوا إلى منطقة اسمها (سويقة) للمشورة وقد كان الحسين يريد الأناة لأن دعاته قد انتشروا في الآفاق وقد بايعه ثلاثون ألف من أهل البصائر ولكن العمري أعجلهم بمضايقته إلى القيام والخروج.

 

الثورة:

اجتمع فضلاء بني هاشم وبايعو للحسين بن علي الفخي اجتمع من فضلائهم خمسة وعشرون رجلاً واجتمع إليه من مواليهم وشيعتهم تمام سبعين رجلاً فبايعوا الحسين بن علي الفخي وخرجوا إلى المسجد فلما أحس العمري والي المدينة بالأمر دهش وتلجلج لسانه من الفزع فقال أغلقوا البغلة واطعموني ماء جبتي قال الراوي فأولاده إلى اليوم يعرفون ببني جبتي، ثم ولى هارباً إلى خارج المدينة ودخل الحسين وشيعته المسجد وأذن بحي على خير العمل وصلى بهم صلاة الفجر وبعد الصلاة صعد إلى المنبر فحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ ثم قال: أيها الناس إنكم تطلبون أثر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ في الحجر والعود وهذا -ومدّ يده- من لحمه ودمه ثم نزل عليه السلام وبايعه بعض من حضر الصلاة وبعض أعرض عنه وكان يقول عليه السلام عند مبايعته: أبايعكم على كتاب الله وسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ وعلى أن يطاع الله ولا يعصى وأدعوكم إلى الرضى من آل محمد وعلى أن نعمل فيكم بكتاب الله وسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ والعدل في الرعية والقسم بالسوية وعلى أن تقيموا معنا  تجاهدوا عدونا فإن نحن وفينا لكم وفيتم لنا وإن نحن لم نف لكم فلا بيعة لنا عليكم.

وعند انتشار خبر خروجه عليه السلام كان على مسلحة المدينة (أي قوم ذو سلاح)، خالد البربري في خمسمائة فارس وألف راجل فأقبل بمن معه من العساكر إلى المسجد وهو يرعد ويزبد ويقول للحسن: قتلني الله إن لم أقتلك فانقض عليه يحيى وإدريس ابنا عبدالله كأنهم الليوث الضواري فضربه يحيى على هامته فشق رأسه وحملوا على أصحابه فانهزموا وصفت المدينة للحسين بن علي ومكث بها ثلاثة عشر يوماً ثم توجه إلى مكة لأنه كان واعد أنصاره اللقاء في الموسم فلما تناهى الخبر إلى الخليفة العباسي جند الجنود ورتب الجيوش وأرسل إلى كبار قادة بني العباس حتى قيل أن الجيوش التي أرسلها الخليفة لقتال الحسين الفخي بلغت خمسة جيوش فلما وصل الحسين ومن معه إلى قرب مكة وجد أن الجيوش العباسية قد سبقته وقطعت عليه الطريق إلى مكة فنزل بمنطقة يقال لها (فخ) ومعه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً عدة أهل بدر.

وفي المقابل وصل تعداد الجيش العباسي أربعون ألف فيه من قادة بني العباس عيسى بن موسى وجعفر ومحمد ابنا سليمان والعباس بن محمد ومبارك التركي وابن يقطين.

روى أبو العرجاء الجمال قال: لما صرنا إلى بستان بن عام نزل عيسى بن موسى فقال: إذهب إلى عسكر الحسين حتى تراه وتخبرني بكل ما رأيت قال فمضيت فدرت فما رأيت خللاً ولا فلا ولا رأيت إلا مصلياً أو مبتهلاً أو ناضراً في مصحف أو متقلداً سيفاً قال: فجئته وقلت: ما أظن القوم إلا منصورين فقال: فكيف يابن الفاعلة فأخبرته فضرب يداً على يد فبكي حتى ظننت أنه ينصرف ثم قال هم والله أكرم خلق الله على الله وأحق بما في أيدينا منا ولكن الملك عقيم ولو أن صاحب هذا القبر –يعني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ – نازعنا الملك ضربنا خيشومه بالسيف ثم صاح: يا غلام أضرب طبلك وسار لقتالهم.

 

خطبة الحسين:

وفي يوم التروية من سنة 169هـ والحسين هو وأصحابه محرمون عبأ الحسين أصحابه وقام فيهم خطيباً فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا أخوتي ويا شيعة جدي وشيعة أبي ومحبي جدي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ فقد تبين لكم ظلم هؤلاء القوم وفسقهم وفجورهم وعداوتهم لله ولرسوله وسيرتهم في أمة محمد وارتكابهم المحارم وتعطيلهم الحدود وشربهم الخمور وارتكابهم الشرور وهتكهم الستور إلى أن قال: فكيف لا يغضب أولوا النهى أم كيف يسيغ الطعام  لأهل البر والتقوى وقد درس الكتاب فأول على غير تأويله وغنى به على المعازف فحرف عن تنزيله فلم يبق من الإسلام إلا اسمه ولا من القرآن إلا رسمه، فلو أن مؤمناً تقطعت نفسه قطعاً أما كان ذلك لله رضى بل كان بذلك عندي جديراً، أخرجوا بنا إلى الله وأصطبروا فوالله إن الراحة منهم ومن المقام معهم في دارهم لراحة، والجهاد عليكم فريضة فقاتلوهم فالله قد فرض عليكم جهادهم وصبروا أنفسكم فإن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص وكونوا ممن أحب الله والدار الآخرة وباين أعداءه وآثر لقاءه عصمنا الله وإياكم.

بهذه الكلمات المباركة أشعل الحسين شعلة الحماس الإيماني في صدور المؤمنين.

فلما تصاف الفريقان أرادا العباسيون خديعة الحسين بأن عرضوا عليه الأمان فخرج قائد من قواد بني العباس وهو محمد بن سليمان بن علي وكانت أمه من بني الحسن فنادى بالإمام الحسين فلقيه الحسين فقال له محمد يا خال ما أشخصني إلى هذا البلد إلا الشفقة عليك والظن بك ورجاءً أن يحقن الله دمك فقال له الحسين ما أعرفني بما تحاول من خديعتي من ديني ودنياي إليك عني، فقال له محمد: يا خال لا تفعل أقبل نصيحتي ولا تعرض نفسك للهلكة وإن معي كتاباً قد أخذته لك من ابن عمك الخليفة موسى الهادي بأمانك وجعل إليَّ أن أعرض عليك كل ما أحببت فصر إلى أي بلد شئت وسم ما شئت من الأموال والقطائع والضياع، فقال له الحسين: أتظن أني إنما خرجت في طلب الدنيا التي تعظموها أو للرغبة فيما تعرضون علي من أموال المسلمين ليس ذلك كما تظن إنما خرجت غضباً لله ونصرة لدينه وطلباً للشهادة وأن يجعل الله مقامي هذا حجة على الأمة واقتديت في ذلك بأسلافي الماضين المجاهدين، لا حاجة لي في شيء مما عرضت عليَّ وأنا نافذ فيما خرجت له وماضٍ على بصيرتي حتى ألحق بربي.

ثم رجع الحسين إلى أصحابه وتهيأ الجميع للقتال فأمر الحسين عليه السلام رجلاً من أصحابه على بعير فصاح: يا معشر المسودة هذا حسين بن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ يدعوكم إلى كتاب الله وسنة رسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ فهل أنتم سامعون، قال الراوي: فرموه حتى ردوه إلى أصحابه.

ثم التفت الحسين إلى أصحابه واعظاً لهم ومبيناً لهم نتائج الثورة في كلتا الحالتين، فقال: (يا أهل القرآن والله إن خصلتين أدناهما الجنة لشريفتان وإن يبقيكم الله ويظفركم لنعملن بكتاب الله وسنة نبيه ولتشعبن الأرملة وليعيشن اليتيم ولنعزن من أعزه كتاب الله وأولياءه، ولنذلن من أذله الحق والحكم من أعدائه، وإن تكن الخصلة الأخرى فأنتم تبعاً لسلفكم الصالح تقدمون عليهم وأنتم داعون إليهم رسول الله وحمزة وعلي وجعفر والحسن والحسين وزيد بن علي ويحيى بن زيد وعبدالله بن الحسن ومحمد وإبراهيم ابنا عبدالله فمن أي الخطتين تجزعون فوالله إن لم أجد غيري لحاكمتهم إلى الله حتى ألحق سَلَفِي).

ثم إلتحم الصفان والتقى الفريقان وجعل الحسين يقاتل والجبل خلفه لكي لا يؤتى من خلفه وعندما رأى العباسيون شدة بأس الحسين وأصحابه انهزموا عنهم فتبعهم أصحاب الحسين وانفصلوا عن ذلك الجبل فالتف عليهم  محمد بن سليمان-أحد قادة بني العباس- في جند عظيم من خلفهم فطحنهم وقتل أكثرهم وجعل جنود بني العباس ينادون الحسين عليه السلام: لك الأمان يا حسين، لك الأمان، فأجابهم الحسين الأمان أريد –أي من الله سبحانه ومن عذابه-.

قال بعض من حضر المعركة شهدت الحسين بن علي ونحن في أشد القتال وقد تنحى ودفن شيئاً فلما انقضت الحال وكنت فيمن سلم ذهبت إلى ذلك الموضع لعلي أجد الدفين فوجدتها قطعة من جبينه.

ثم إن رجلاً من بني الحارث طعن الحسين طعنة عظيمة وقد كان أصيب قبل ذلك بإصابات كثيرة فجعل يقاتل والدم يسيل من جسده الشريف فقال له أحد اصحابه: لو تنحيت لما قد صار فيك، فقال الإمام: رويت عن جدي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ أنه قال: «إن الله يبغض العبد المؤمن يستأسر إلا من جراح مثخنة».

وبعد ذلك رماه رجل يدعى حماد التركي بنشابة فسقط شهيداً سلام الله عليه وقتل معه الكثير من أهل بيته وجميعهم محرمون بالحج، وأسر بعضهم، وقد مثل بنوا العباس بالجثث ورفعوا رأس الحسين وأصحابه على الرماح وطافوا بها البلدان في مشهد يذكر بحادثة كربلاء، وأما من أسر من اصحاب الحسين فقد قتل كثير منهم في الأسر أمثال الحسن بن محمد أصابت عينه نشابة فجعل يقاتل والنشابة في عينه، فقال له محمد بن سليمان: يا بن الخال اتقى الله في نفسك ولك الأمان، فقال: والله ما لكم أمان، ثم قال: أقبل منكم فأخذوه أسيراً فبصر به العباس بن محمد فصاح بابنه قتلك الله إن لم تقتله، ابعد تسع جراحات ينتظر هذا، فقال موسى بن عيسى: إي والله عاجلوه، فقتلوه سلام الله عليه.

وأما يحيى بن عبدالله فقد ارتمى جريحاً بين القتلى وقد أصابت درعه سبعون نشابه حتى صار كالقنفذ، فلما كان من الليل تسلل هو وأخوه إلى بين الحجيج.

وأما موسى بن عبدالله والقاسم بن محمد بن عبدالله فقد أسرا وأحضرا إلى الخليفة العباسي موسى الهادي فقال للقاسم: والله لأقتلنك يابن الفاعلة قتلةً ما قتلها أحدٌ قبلي أحداً قبلك، قال القاسم عليه السلام: الفاعلة هي الصناجة التي اشتريت بأموال المسلمين، إياي تهدد بالقتل الذي لم يسبقك إليه ظالم فلأصبرن لك صبراً ما صبره أحد قبلي طلباً لمرضاة الله وجميل ثوابه، قالوا: فأمر موسى لعنه بالمناشير فأحضرت ثم أقام على كل عضو منه منشاراً فنشروا وجهه صفيحة واحدة بحيث لا يموت ثم نشروا عضواً عضوا، قالوا: فما تأوه صلوات الله عليه ولا تحرك حتى جردوا عظامه عن لحمه وهو حي، فقال له الملعون موسى: كيف رأيت يا ابن الفاعلة؟ قال له القاسم عليه السلام: يا مسكين لو رأيت ما أرى من الذي أكرمني الله به في دار المقامة وما أعد لك من العذاب في دار الهوان لرأيت حسرة دائمة، وتبينت النقمة العاجلة، وخرجت نفس القاسم مع آخر كلامه.

وبعد مقتل الحسين بن علي عليه السلام وأصحابه انتقم الله من الخليفة العباسي فقد هلك بعد الحسين بفترة وجيزة فلم تكن مدة خلافته إلا سنة وبضعة أشهر.

وأما محمد بن سليمان فقد روي أنه لما حضرته الوفاة جعلوا يلقنونه الشهادة فلم يفصح بها لسانه إلا أنه يقول:

ألا ليت أمي لم تلدني ولم أكن     شهدت حسيناً يوم فخ ولا الحسن
 

وقد روى الإمام المنصور بالله في كتابه (الشافي) أن الجيش الذي شارك في قتل الحسين الفخي وأصحابه اسودت وجوههم قاطبة وكانوا يعرفون من بين الناس فيقال: هذا من الجيش الذين قتلوا الفخي.

كانت هذه الحادثة الأليمة نكبة في تأريخ الأمة الإسلامية فأن تسكت الأمة عن قتل أحرارها الذين خرجوا لأجلها فهذا انحراف خطير وصلت إليه الأمة، ولولا مداهنة علماء السوء للخلفاء لما وصلوا إلى هذه الحالة ولما وصلت الأمة إلى ما وصلت إليه من ذل وهوان، ولما استطاع أعداء الأمة اليوم السيطرة على مقدرات الأمة والانحدار بها نحو الهاوية، نتيجة ثقافة الخنوع والاستسلام للطغاة على مر الأزمان.