حنين الوداع

نشر بتاريخ: سبت, 05/05/2018 - 11:24ص

 

الحمدلله رب العالمين على ما أعطى والحمد لله على ما أخذ ، لا شك أن رحيل سيدي ومولاي العلامة الحجة والقدوة الحسنة الزاهد حمود بن عباس المؤيد مثّل فاجعة كبرى بالنسبة لنا ولكل المحبين والعارفين له إلا إن في الله عزاء لمن تعزى، وفي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أسوة لمن تأسى، فقد قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم (الأجر على قدر المصيبة، فمن أصيب بمصيبةٍ فليذكر مصيبته بي؛ فإنكم لن تصابوا بمثلي)

ولقد كان السيد حمود بن عباس المؤيد نموذجاً عظيماً وعالماً ربانياً تمثلت فيه خصائص (وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ ۖ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا * وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا ) إلى آخر الآيات التي أنزلها الله تعالى واصفاً بها عباده الذين أضافهم إليه ومدحهم وأثنى عليهم والذين وعدهم بقوله (أُولَٰئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا )

لقد كانت سيرته نسخة متطابقة مع سير الأنبياء والأولياء في الزهد والتواضع والعمل الصالح والإخلاص والتفاني والصبر والإيثار والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتنزه عن أوساخ الدنيا وقاذوراتها والارتباط الوثيق بالله سبحانه وتعالى والإكثار من ذكر الله.

ولقد كان كل من اقترب منه يحس بالروحانية ومشاعر الإيمان إذ كان منه صدق تلك المعاني بكل ما تعنيه الكلمة لكل من صل إليه والتقى به وعاش في محيطه.

لقد كان رحمة من الله مهداة في زماننا هذا وكان عطاء ومنحة إلهية عشناها ولمسناها وذقناها واستفدنا منها واستفاد منه كثير من الناس ، ولقد كان كما قال القائل:

وإذا سخر الإله سعيداً             لأناس فإنهم سعداء.

لقد كان له الإسهام الكبير في الحفاظ على الهوية الإسلامية الصحيحة في اليمن عامة وصنعاء خاصة بجهده الذاتي دون أن يعينه أحد، ولقد كان له الفضل الأكبر في هذا الجانب في حضوره المستمر في أواسط الناس تعليماً وإرشاداً ونصحاً وخطابة وإصلاحاً بين الناس وساعياً فاعلاً في قضاء حوائجهم ولقد أسهم كثيراً بالبركة التي حباه الله بها والفضل العظيم التي أعطاه الله في بناء المساجد والسدود والمدارس وتحصين كثير من الشباب وتخرج على يديه الكثير من العلماء الأفاضل الذين اقتبسوا من نوره وروحانيته الشيء الكثير ومن هؤلاء العلماء من قضى نحبه ومنهم من ينتظر.

لقد مثل بسيرته سلوك الصالحين الأخيار من الأنبياء والأولياء وأئمة أهل البيت عليهم السلام ، ولقد كان له الإسهام الأكبر في بقاء محبة أهل البيت (ع) في قلوب الناس، وغرس معاني وقيم الدين من خلال محاضراته وإرشاداته وإبرازه القدوة الحسنة التي كان يمثلها رضوان الله عليه.

ولقد دأب كثيراً في دعم الحركة العلمية في الجامع الكبير المقدس بصنعاء وفروعه في كثير من المحافظات، وكان يولي هذا المسألة جلّ اهتمامه رغم قلة ذات اليد وشحة المصادر، لقد أوقف جلّ ماله في سبيل الله، ووهب البقية وخرج من الدنيا كما أعلم وهو لايملك شيئاً إلا ثيابه وبيته القديم، هذا إن بقي على ذلك وإلا كما علمت فقد انسلخ من الدنيا تماماً، وكل من التقى به يتعلق به لتواضعه ودماثة أخلاقه وروحانيته التي كانت تغطي الفضاء من حوله ، ولقد أجمع على فضله الموالف والمخالف وشهد بفضله العلماء من كل المذاهب الإسلامية واحترمته كل الأحزاب والتنظيمات السياسية على مستوى اليمن ، وكان محل تقدير واحترام الجميع ، وكان يشكل مظلة ومرجعاً للجميع في كثير من المسائل والقضايا ، ولقد كان السعيد من هؤلاء مذاهب كانت أوأحزاباً من يحضى بالقرب منه ويلتقط الصور معه؛ لِيُشْعِرَ الآخرين بأنه معه وفي صفه وأنه يبارك أعماله بغض النظر عن صوابية هذا الهدف من عدمه إلا أنه يعطينا صورة ناصعة عن شخصية هذا الرجل الهمام وجلالة قدره.

إننا نشعر بفقده بوحشة كبيرة؛ لأنا كنا نحس مع وجوده رغم مرضه واطراحه على فراش المرض في الأشهر الأخيرة من عمره، نشعر بطمأنينة وسكينة وأمان رغم بشاعة العدوان السعودي الإماراتي الأمريكي ومن تحالف معهم وإذا كان الإمام علي عليه السلام قد قال في حق رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : ( كَانَ فِي الأرْضِ أَمَانَانِ مِنْ عَذَابِ اللهِ سُبْحَانَهُ، وَقَدْ رُفِعَ أَحَدُهُمَا، فَدُونَكُمُ الاْخَرَ فَتَمَسَّكُوا بِهِ: أَمَّا الاَْمَانُ الَّذِي رُفِعَ فَهُوَ رَسُولُ اللهُ(صلى الله عليه وآله). وَأَمَّا الأمَانُ الْبَاقِي فَالاْسْتِغْفَارْ، قَالَ اللهُ عزّوجلّ: (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)

فإننا نحس بنفس الشعور مع غياب ورحيل السيد العلامة حمود بن عباس المؤيد كيف وقد جاء في الحديث الشريف عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم : (لولا أطفال رضع ومشائخ ركع لصب عليكم العذاب صباً ثم رضكم رضاً)

كان رحمه الله تعالى كثيراً ما يحمل نفسه على الصبر والتجلد في هذه الحياة الدنيا بترديد آيات الذكر الحكيم ، في هذا المجال ، وكثيراً ما كان يعلم الطلبة صغاراً وكباراً ومحبيه ومريديه الأبيات الشعرية التي تعزز هذا الجانب مثل قول القائل

إنَّ للَّهِ عِبَاداً فُطَنَا            طلّقُوا الدُّنْيَا وَخَافُوا الفِتَنَا   
                                  نظروا فيها فلما علموا          أنها ليست لحيٍّ وطنا                                 

جعَلُوهَا لُجَّة ً وَاتَّخَذوا          صالحَ الأعمالِ فيها سفنا  

 

وقول القائل:

ملوك الأرض حكام الرعايا           ونحن عبيد خلاق البرايا

أدمنا عيشنا بجريش ملح             إذا أكلوا الثرائب والقلايا

    وإن سكنوا قصوراً عاليات           سكنا في المساجد والزوايا    

وإن لبسوا ثياباً معلمات                 فخرنا بالمرقع والعبايا

  غدا ً يتبين السادات منا                وينظر أينا أوفى عطايا    

 

وقول الإمام يحيى بن زيد

يا ابن زيد أليس قد قال زيد        من أحب الحياة عاش ذليلاً

كن كزيد فأنت مهجة زيد         واتّخذ في الجنان ظلاً ظليلاً.

 

وكان كثيراً ما يردد

برحمة ربي نجا من نجا     وحاز الأمان يوم الفزع

(يا باغي الخيرأقبل ويا باغي الشر أقصر)

وقول القائل

ما ملأ الراحة (الكف) من طلب الراحة،  وإنما الراحة في ترك الراحة

لقد كان قليل النوم كثير القيام، كثير الذكر، كثير الصلاة، كثير الصدقات، كثير الوعظ والإرشاد، كثير الخير، عديم الشر، الخير منه مأمول والشر منه مأمون.

لقد كان مفتاح خير مغلاق شر كما قال النبي: إن من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر، فطوبى لمن جعله مفتاحاً..

لقد شكّل بحضوره في كثير من المحطات توازناً بين كثير من التيارات الموجودة على الساحة اليمنية، وكان همزة وصل ولسان صدق وعامل إصلاح بين الناس جميعاً ، ولم يتغير أو يتبدل عن قيمه ومبادئه وأخلاقه طيلة عمره، ولقد عرفنا كثيراً من العلماء الذين تغيرت بهم الحال وابتعدوا كثيراً عن شاطئ السلامة من اليمين إلى اليسار ومن اليسار إلى اليمين نتيجة التقلبات والأحداث والمتغيرات التي عاشتها الساحة اليمنية طيلة فترة عمره إلا أنه بقي ذلك الشخص الذي لم يتغير ولم يتبدل على المنهج القويم والصراط المستقيم، وما باع دينه لأحد بعرض من الدنيا حتى وإن لزته الظروف وألجأته المضايق.

ولقد وفقه الله وأعانه وثبته وأيده ونصره، وأحبه وألقى محبته في قلوب المؤمنين وغير المؤمنين مصداقاً لقول الله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا)

وكما قال الله في حق موسى عليه السلام (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي)

لقد أحبه القريب والبعيد والموالي والمعادي ولقد كان الحضور المشرّف في تشييع جثمانه الطاهر إلى مثواه الأخير أكبر دليل على هذا الأمر ، إننا بحق لن نستطيع أن نفي بحق هذا السيد الجليل مهما تكلمنا ومهما كتبنا، لقد كانت حياته حافلة بالطهر والعفاف والزهد والتواضع والصدق والأمانة والكرم والجود والعلم والوعظ والإرشاد والتعليم والإصلاح والعطف والحنان والروحانية التي قلّ أن نجد لها نظيراً في هذا الزمان علماً بأن هناك الكثير من القصص والقضايا التي عشناها معه والتي لايتسع المقام لذكرها والتي عكست كل تلك المعاني السامية في تصرفاته وسلوكه وإنك إن سألت أحداً عن حمود بن عباس المؤيد سيجيبك بقوله العالم الزاهد العابد زين العابدين في هذا الزمان، ولقد كان يرجو من الله حسن الخاتمة ويردد دائماً (فيا رازقي جد لي بحسن الخواتم) ولقد ختم له بالخير بعد مائة عام ونيف حيث حافظ على ذكر الله في أحلك الظروف، وشدة المرض، وسكرات الموت، يثبت الله الذين آمنوا (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ).

 نسأل الله تعالى له الرحمة والمغفرة والرضوان وأن يتقبله بأحسن قبول، وأن يسكنه الفردوس الأعلى وأن يجمع بيننا وبينهم في مستقر رحمته ودار كرامته وأن يوفقنا لما وفقه وأن يعيننا على ما أعانه عليه من البر والتقوى ومن العمل لما يحب ويرضى وأن يخلفه علينا بأحسن خلافة..