أنصفوا الناس من أنفسكم قبل فوات الأوان

نشر بتاريخ: سبت, 23/04/2022 - 11:07م
الكاتب: 

أهمية التعامل بالأنصاف

الأنصاف خلق الأنبياء ،وأوصياؤهم ،والأتقياء ،ومحبيهم ، وأعلام الهدى وألياءهم ، والقادة المستقيمين وأنصارهم ، ونجد لهذا الخلق والمبدأ العظيم حضوره البارز في سيرة النبي وحياة أهل البيت الطاهرين.

هذا الخلق العظيم والمهم مغيب في واقع الأمة ، وأصبح التعامل به نادرا ،ولو تعامل المسلمون بهذا الخلق العظيم لصلحت لهم الكثير من الأمور، وصرفت عنهم الكثير من الشرور، وتفادوا الكثير من المشاكل والإحن، ولسادوا ،وعاشوا راحة الضمير، وهدوء البال وسلكوا مسالك الخير ، ووصلوا إلى السعادة والسيادة والريادة بين الأمم ولكانوا مهوى قلوب الحيارى وقبلة آمال العطاشى التواقين للحياة الكريمة ، و المتطلعين للسعادة و الحرية والعدل والعيش الكريم اللائق بكرامة بني آدم في هذه الحياة دار الابتلاء والفرز التي أرسل الله فيها رسله وأنزل كتبه لتنعم البشرية بالهدى وتتنكبوا طريق الشقاء وتسير في خط الله المستقيم وعلى خطى الدعاة إلى هذا الصراط من أنبياء الله و أولياءه المخلصين له والموقنين بآخرته التي ستكون محطة للتناصف والإنصاف بين الظالمين والمظلومين والمستضعفين والمستكبرين وبين الفقراء والأغنياء والأتباع والرؤساء. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " ما من أمير عشرة إلا يؤتى به مغلولاً يوم القيامة حتى يفكه الله بعدله أو يوثقه بجوره.و قَالَ ( عليه السلام ) : إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ فَرَضَ فِي أَمْوَالِ الْأَغْنِيَاءِ أَقْوَاتَ الْفُقَرَاءِ فَمَا جَاعَ فَقِيرٌ إِلَّا بِمَا مُتِّعَ بِهِ غَنِيٌّ وَاللَّهُ تَعَالَى سَائِلُهُمْ عَنْ ذَلِكَ.

رمضان شهر الإنصاف

من أهم الفرص والمحطات الإيمانية والروحانية التي تعزز في نفوس المسلمين خلق الإنصاف محطة شهر الله شهر رمضان الذي تزكوا فيه النفوس وتقبل فيه القلوب إقبالا يختلف عما سواه من الشهور والأيام على الباري سبحانه ، ونجد الإمام زين العابدين في مناجاته الرمضانية المباركة يربي الصائمين والصائمات على خلق الإنصاف في دعاءه الذي كان يدعو به عليه السلام إذا دخل شهر رمضان حيث يقول : وَوَفِّقْنَا فِيهِ لاِنْ نَصِلَ أَرْحَامَنَا بِالبِرِّ وَالصِّلَةِ وَأَنْ نَتَعَاهَدَ جِيرَانَنَا بِالاِفْضَالِ وَالْعَطِيَّةِ وَأَنْ نُخَلِّصَ أَمْوَالَنَا مِنَ التَّبِعَاتِ، وَأَنْ نُطَهِّرَهَا بِإخْرَاجِ الزَّكَوَاتِ، وَأَنْ نُرَاجِعَ مَنْ هَاجَرَنَا وَأَنْ نُنْصِفَ مَنْ ظَلَمَنَا وَأَنْ نُسَالِمَ مَنْ عَادَانَا حَاشَا مَنْ عُودِيَ فِيْكَ وَلَكَ، فَإنَّهُ الْعَدُوُّ الَّذِي لاَ نُوالِيهِ، وَالحِزْبُ الَّذِي لاَ نُصَافِيهِ.

رسول الله قدوة المنصفين

لنا في رسول الله أسوة حسنة في مكارم الأخلاق ، ونجد في مواقف وسيرة رسول الله خلق الإنصاف حاضرا وماثلا كحجة على كل المسلمين المتنصلين عن الالتزام بهذا الخلق العظيم الذي نحتاج إلى إبرازه في هذه المرحلة الحساسة والضاغطة بآلامها ، وأطماعها ، ومغرياتها ، إلا أن التأسي برسول الله يجب أن يبقى حاضرا وحيا في كل الظروف ولنتأمل جيدا في هذه الرواية والموقف النبوي الذي يعزز في واقع الأمة خلق الإنصاف فعن الفضل بن عباس رحمه الله قال جائنى رسول الله (صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَآله) حين بدا به مرضه، فقال: اخرج، فخرجت إليه، فوجدته موعوكا قد عصب رأسه فقال: خذ بيدى، فاخذت بيده حتى جلس على المنبر، ثم قال: ناد في الناس، فصحت فيهم فاجتمعوا إليه فقال: أيها الناس، إنى أحمد إليكم الله، إنه قد دنا مني حقوق من بين أظهركم ; فمن كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهرى فليستقد منه، ومن كنت شتمت له عرضا فهذا عرضى فليستقد منه، ومن كنت أخذت له مالا فهذا مالى فليأخذ منه، ولا يقل رجل: إنى أخاف الشحناء من قبل رسول الله.إلا وإن الشحناء ليست من طبيعتي ولا من شأنى، ألا وإن أحبكم إلي من أخذ منى حقا إن كان له، أو حللني فلقيت الله وأنا طيب النفس، وقد أرانى أن هذا غير مغن عنى حتى أقوم فيكم به مرارا " ثم نزل فصلى الظهر،ثم رجع فجلس على المنبر، فعاد لمقالته الأولى في الشحناء وغيرها، فقام رجل، فقال: يا رسول الله، إن لى عندك ثلاثة دراهم، فقال: أنا لا نكذب قائلا ولا نستحلفه على يمين، فيم كانت لك عندي قال: أتذكر يا رسول الله يوم مر بك المسكين، فأمرتني فأعطيته ثلاثة دراهم قال: اعطه يا فضل، فأمرته فجلس، ثم قال: " ايها الناس من كان عنده شئ فليؤده ولا يقل: فضوح الدنيا، فان فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة " فقام رجل فقال: يا رسول الله، عندي ثلاثة دراهم غللتها في سبيل الله، قال: ولم غللتها قال كنت محتاجا إليها، قال: خذها منه يا فضل ثم قال " أيها الناس، من خشى من نفسه شيئا فليقم ادعو له " فقام رجل فقال: يارسول الله، انى لكذاب وإنى لفاحش، وانى لنئوم.فقال: " اللهم ارزقه صدقا وصلاحا، واذهب عنه النوم إذا أراد "

وفي موقف مهم من مواقف الإنصاف البارزة في حياة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه كان يعدل رسول الله الصفوف في أحد الغزوات، فتقدم سواد بن غزية أمام الصف، فدفع النبي (صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَآله) بقدح في بطنه، وقال: استو يا سواد، فقال: أوجعتني والذى بعثك بالحق، أقدنى فكشف (صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَآله) عن بطنه، وقال: استقد، فاعتنقه وقبله، فقال: ما حملك على ما صنعت قال: حضر يا رسول الله من أمر الله ما قد ترى، وخشيت القتل، فأردت أن يكون آخر عهدي بك، وأن اعتنقك.

ونجد نصا نبويا مهما وعظيما يحث فيها النبي صلى الله عليه وآله على الإنصاف ويعتبره

الإمام علي عليه السلام على خطى رسول الله في الإنصاف

وَجَدَ عَلِيٌّ بن أبي طَالِبٍ عليه السلام دِرْعاً لَهُ عِنْدَ نَصْرَانِي فَأَقْبَلَ بِهِ إلَى شُرَيِحٍ يُحَاكِمُهُ، قَالَ: فَجَاءَ عَلِيٌّ عليه السلام حَتَّى جَلَسَ إلَى جَنْبِ شُرَيْحٍ فَقَالَ: هِيهْ يَا شُرَيْحُ، لَو كَانَ خَصْمِي مُسْلِماً مَا جَلَسْتُ إلا مَعَهُ وَلَكِنَّهُ نَصْرَانِي، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إذَا كُنْتُمْ وَإيَّاهُمْ فِي طَرِيقٍ فَصَيِّرُوهُمْ إلَى مَضَايِقِهِ، وَصَغِّرُوهُمْ كَمَا صَغَّرَ الله بِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَطْغُوا))، ثُمَّ قَالَ عَلِيّ عليه السلام: هَذِهِ الدِّرْعُ دِرْعِي لَمْ أَبِعْ وَلَمْ أَهَبْ فَقَالَ شُرَيْحٌ لِلنَّصْرَانِي: مَا تَقُولُ فِيمَا يَقُولُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (صَلَوَاتُ الله عَلَيْهِ)؟

فَقَالَ النَّصْرَانِي: مَا الدِّرْعُ إلاَّ دِرْعِي وَمَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدِي بِكَاذِبٍ.

فَالْتَفَتَ شُرَيْحٌ إلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَلْ مِنْ بَيِّنَةٍ؟

قَالَ: فَضَحِكَ عَلِيٌّ عليه السلام وقَالَ: أَصَابَ شُرَيْحٌ مَالِي مِنْ بَيِّنَةٍ. فَقَضَى بِهَا لِلنَّصْرَانِي.

قَالَ: فَمَشَى خُطىً، ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: أَمَّا أَنَا فَأَشْهَدُ أَنَّ هَذِهِ أَحْكَامُ الأَنْبِيَاءِ أَمِيرُالْمُؤْمِنِينَ يَمْشِي إلَى قَاضِيهِ وَقَاضِيه يَقْضِي عَلَيْه، أَشْهَدُ أَنْ لاَ إلَهَ إلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرْيِكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ الدِّرْعُ وَاللَّهِ دِرْعُكَ يَا أَمِيرَالْمُؤْمِنِينَ تَبِعْتُ الْجَيْشَ وَأَنْتَ مُنْطَلِقٌ إلَى صِفِّينَ فَجَرَرْتُهَا مِنْ بَعِيرِكَ الأَوْرَقِ.

أولى الناس بإنصاف الناس

أولى الناس بالتحلي بخلق الإنصاف والالتزام به من هم في مقام المسؤولية، ومن هم محط أنظار المجتمع الذي ينظر إليهم كقادة سواء كانوا رؤساء أو وزراء أو مدراء أو مشرفين لمسؤولياتهم علاقة مباشرة أو غير مباشرة بحياة الناس ودماءهم وأموالهم وأعراضهم وحاضرهم ومستقبلهم ، فالمتقلدون للمسؤولية، والمختارون لها من قبل أصحاب القرار يجب أن يكون الإنصاف هو الخلق المبدأ الحاضر في تعاملاتهم مع الصغير والكبير ، والقريب والبعيد ، والشريف والوضيع يقول أمير المؤمنين عليه السلام: الذَّلِيلُ عِنْدِي عَزِيزٌ حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ لَهُ، وَالْقَوِيُّ عِنْدِي ضَعِيفٌ حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ مِنْهُ، رَضِينَا عَنِ اللَّهِ قَضَاءَهُ، وَسَلَّمْنَا لِلَّهِ أَمْرَهُ، أَ تَرَانِي أَكْذِبُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وآله )، وَاللَّهِ لَأَنَا أَوَّلُ مَنْ صَدَّقَهُ، فَلَا أَكُونُ أَوَّلَ مَنْ كَذَبَ عَلَيْهِ، فَنَظَرْتُ فِي أَمْرِي فَإِذَا طَاعَتِي قَدْ سَبَقَتْ بَيْعَتِي، وَإِذَا الْمِيثَاقُ فِي عُنُقِي لِغَيْرِي.

ونجد الإمام عليا عليه السلام يجسد مبدأ الإنصاف تجسيد قويا مع عماله سواء فيما هو حق لهم أو عليهم ولا يتساهل أو يتسامح مع  من هم تحت ولايته من العمال ، ونموذج الإمام في الإنصاف نموذج يتحذى به ، ويفاخر به تاريخيا ولا بد أن نجد مصاديق هذا التعامل مع كل مسؤول ومشرف في ظل قيادتنا المباركة التي أحيت في يمننا مبدأ الولاء والتولي للإمام علي عليه السلام بالمفهوم والأفق القرآني العملي الواسع وسنورد نصا مهما للإمام علي عليه السلام وهذا النص يمثل قانونا ودستورا في التعامل المنصف مع كل مسؤول أو مشرف يخل بمسؤوليته ويخون أمانته حيث يقول عليه السلام لأحد عماله : أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي كُنْتُ أَشْرَكْتُكَ فِي أَمَانَتِي وَجَعَلْتُكَ شِعَارِي وَبِطَانَتِي وَلَمْ يَكُنْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِي أَوْثَقَ مِنْكَ فِي نَفْسِي لِمُوَاسَاتِي وَمُوَازَرَتِي وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ إِلَيَّ فَلَمَّا رَأَيْتَ الزَّمَانَ عَلَى ابْنِ عَمِّكَ قَدْ كَلِبَ وَالْعَدُوَّ قَدْ حَرِبَ وَأَمَانَةَ النَّاسِ قَدْ خَزِيَتْ وَهَذِهِ الْأُمَّةَ قَدْ فَنَكَتْ وَشَغَرَتْ قَلَبْتَ لِابْنِ عَمِّكَ ظَهْرَ الْمِجَنِّ فَفَارَقْتَهُ مَعَ الْمُفَارِقِينَ وَخَذَلْتَهُ مَعَ الْخَاذِلِينَ وَخُنْتَهُ مَعَ الْخَائِنِينَ فَلَا ابْنَ عَمِّكَ آسَيْتَ وَلَا الْأَمَانَةَ أَدَّيْتَ وَكَأَنَّكَ لَمْ تَكُنِ اللَّهَ تُرِيدُ بِجِهَادِكَ وَكَأَنَّكَ لَمْ تَكُنْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَكَأَنَّكَ إِنَّمَا كُنْتَ تَكِيدُ هَذِهِ الْأُمَّةَ عَنْ دُنْيَاهُمْ وَتَنْوِي غِرَّتَهُمْ عَنْ فَيْئِهِمْ فَلَمَّا أَمْكَنَتْكَ الشِّدَّةُ فِي خِيَانَةِ الْأُمَّةِ أَسْرَعْتَ الْكَرَّةَ وَعَاجَلْتَ الْوَثْبَةَ وَاخْتَطَفْتَ مَا قَدَرْتَ عَلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِهِمُ الْمَصُونَةِ لِأَرَامِلِهِمْ وَأَيْتَامِهِمُ اخْتِطَافَ الذِّئْبِ الْأَزَلِّ دَامِيَةَ الْمِعْزَى الْكَسِيرَةَ فَحَمَلْتَهُ إِلَى الْحِجَازِ رَحِيبَ الصَّدْرِ بِحَمْلِهِ غَيْرَ مُتَأَثِّمٍ مِنْ أَخْذِهِ كَأَنَّكَ لَا أَبَا لِغَيْرِكَ حَدَرْتَ إِلَى أَهْلِكَ تُرَاثَكَ مِنْ أَبِيكَ وَأُمِّكَ فَسُبْحَانَ اللَّهِ أَ مَا تُؤْمِنُ بِالْمَعَادِ أَ وَمَا تَخَافُ نِقَاشَ الْحِسَابِ أَيُّهَا الْمَعْدُودُ كَانَ عِنْدَنَا مِنْ أُولِي الْأَلْبَابِ كَيْفَ تُسِيغُ شَرَاباً وَطَعَاماً وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّكَ تَأْكُلُ حَرَاماً وَتَشْرَبُ حَرَاماً وَتَبْتَاعُ الْإِمَاءَ وَتَنْكِحُ النِّسَاءَ مِنْ أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدِينَ الَّذِينَ أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْأَمْوَالَ وَأَحْرَزَ بِهِمْ هَذِهِ الْبِلَادَ فَاتَّقِ اللَّهَ وَارْدُدْ إِلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ أَمْوَالَهُمْ فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ ثُمَّ أَمْكَنَنِي اللَّهُ مِنْكَ لَأُعْذِرَنَّ إِلَى اللَّهِ فِيكَ وَلَأَضْرِبَنَّكَ بِسَيْفِي الَّذِي مَا ضَرَبْتُ بِهِ أَحَداً إِلَّا دَخَلَ النَّارَ وَوَ اللَّهِ لَوْ أَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ فَعَلَا مِثْلَ الَّذِي فَعَلْتَ مَا كَانَتْ لَهُمَا عِنْدِي هَوَادَةٌ وَلَا ظَفِرَا مِنِّي بِإِرَادَةٍ حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ مِنْهُمَا وَأُزِيحَ الْبَاطِلَ عَنْ مَظْلَمَتِهِمَا وَأُقْسِمُ بِاللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مَا يَسُرُّنِي أَنَّ مَا أَخَذْتَهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ حَلَالٌ لِي أَتْرُكُهُ مِيرَاثاً لِمَنْ بَعْدِي فَضَحِّ رُوَيْداً فَكَأَنَّكَ قَدْ بَلَغْتَ الْمَدَى وَدُفِنْتَ تَحْتَ الثَّرَى وَعُرِضَتْ عَلَيْكَ أَعْمَالُكَ بِالْمَحَلِّ الَّذِي يُنَادِي الظَّالِمُ فِيهِ بِالْحَسْرَةِ وَيَتَمَنَّى الْمُضَيِّعُ فِيهِ الرَّجْعَةَ وَلاتَ حِينَ مَناصٍ.

إن المتربعين على كراسي الحكم و ومن يملكون القرار و المعنيون بالإدارة شؤون الناس ، والقائمون بمصالح الناس العامة والخاصة وكذلك المضطلعون بمسؤولية الإشراف والتقييم والرقابة والمساءلة والمحاسبة هم أولى الناس بإنصاف الناس ،فكلما كانت روحية الحاكمين والمسؤولين والمشرفين أكثر حرصا على الإنصاف والتزاما به كلما كانوا أكثر قربا من رعاية الله وتوفيقه وولايته وتسديده وتحقيق الإنجازات والأهداف النبيلة وكلما حادوا وتنكروا لهذا الخلق العظيم وتنكبوا طريقه واختاروا مسار الاعتساف بدلا من الإنصاف كلما كانوا اكثر وقوعا في الظلم والتعدي والممارسة للتجاوزات وسقوطا في مستنقع الفشل والأخطر من ذلك الدخول في دائرة السخط الإلهي وسلب التوفيق والحكمة ويؤكد هذا ما قاله الإمام علي في عهده لملك الأشتر حين قال له: أَنْصِفِ اللَّهَ وَأَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ وَمِنْ خَاصَّةِ أَهْلِكَ وَمَنْ لَكَ فِيهِ هَوًى مِنْ رَعِيَّتِكَ فَإِنَّكَ إِلَّا تَفْعَلْ تَظْلِمْ وَمَنْ ظَلَمَ عِبَادَ اللَّهِ كَانَ اللَّهُ خَصْمَهُ دُونَ عِبَادِهِ وَمَنْ خَاصَمَهُ اللَّهُ أَدْحَضَ حُجَّتَهُ وَ كَانَ لِلَّهِ حَرْباً حَتَّى يَنْزِعَ أَوْ يَتُوبَ وَلَيْسَ شَيْ ءٌ أَدْعَى إِلَى تَغْيِيرِ نِعْمَةِ اللَّهِ وَتَعْجِيلِ نِقْمَتِهِ مِنْ إِقَامَةٍ عَلَى ظُلْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ دَعْوَةَ الْمُضْطَهَدِينَ وَهُوَ لِلظَّالِمِينَ بِالْمِرْصَادِ وَلْيَكُنْ أَحَبَّ الْأُمُورِ إِلَيْكَ أَوْسَطُهَا فِي الْحَقِّ وَأَعَمُّهَا فِي الْعَدْلِ وَأَجْمَعُهَا لِرِضَى الرَّعِيَّةِ فَإِنَّ سُخْطَ الْعَامَّةِ يُجْحِفُ بِرِضَى الْخَاصَّةِ وَإِنَّ سُخْطَ الْخَاصَّةِ يُغْتَفَرُ مَعَ رِضَى الْعَامَّةِ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الرَّعِيَّةِ أَثْقَلَ عَلَى الْوَالِي مَئُونَةً فِي الرَّخَاءِ وَأَقَلَّ مَعُونَةً لَهُ فِي الْبَلَاءِ وَأَكْرَهَ لِلْإِنْصَافِ وَأَسْأَلَ بِالْإِلْحَافِ وَأَقَلَّ شُكْراً عِنْدَ الْإِعْطَاءِ وَأَبْطَأَ عُذْراً عِنْدَ الْمَنْعِ وَأَضْعَفَ صَبْراً عِنْدَ مُلِمَّاتِ الدَّهْرِ مِنْ أَهْلِ الْخَاصَّةِ وَإِنَّمَا عِمَادُ الدِّينِ وَجِمَاعُ الْمُسْلِمِينَ وَالْعُدَّةُ لِلْأَعْدَاءِ الْعَامَّةُ مِنَ الْأُمَّةِ فَلْيَكُنْ صِغْوُكَ لَهُمْ وَمَيْلُكَ مَعَهُمْ.

في هذا النص العلوي العظيم تربية لمن هم في مقام المسؤولية على الإنصاف وإنصاف الراعي للرعية والمسؤولين للمواطنين لن يتحقق إلا إذا كانوا قد أنصفوا الله تعالى ، والله غني عن إنصافنا له كما هي غني عن نصرنا له ولدينه ولكنه الرب والمربي لنا ونحن عبيده الفقراء إليه والمحتاجون لتوفيقه ولن يشملنا بتوفيقه إلا بالقرب منه ، والاستعانة به ، وأداء ما أوجب علينا من الحقوق له وأول حق له هو حق العبودية الكاملة له والإخلاص له وهذا من الإنصاف له مجازا لا حقيقة ويترتب على إنصافنا لله وأداء لما افترضه علينا إنصاف العباد وأداء ما لهم من حقوق وواجبات يقول الإمام زين العابدين وسيد الساجدين في : أللَّهُمَّ وَأَيُّما عَبْد مِنْ عَبِيْدِكَ أَدْرَكَهُ مِنِّي دَرَكٌ أَوْ مَسَّهُ مِنْ نَاحِيَتِي أَذَىً، أَوْ لَحِقَهُ بِي أَوْ بِسَبَبي ظُلْمٌ فَفُتُّهُ بِحَقِّهِ، أَوْسَبَقْتُهُ بِمَظْلَمَتِهِ، فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَأَرْضِهِ عَنِّي مِنْ وُجْدِكَ، وَأَوْفِهِ حَقَّهُ مِنْ عِنْدِكَ، ثُمَّ قِنيْ مَا يُوجِبُ لَهُ حُكْمُكَ، وَخَلِّصْنِي مِمَّا يَحْكُمُ بِهِ عَدْلُكَ، فَإنَّ قُوَّتِي لا تَسْتَقِلُّ بِنَقِمَتِكَ، وَإنَّ طَاقتِي لا تَنْهَضُ بِسُخْطِكَ، فَإنَّكَ إنْ تُكَافِنِي بِالْحَقِّ تُهْلِكْنِي، وَإلاّ تَغَمَّدْنِي بِرَحْمَتِكَ تُوبِقْنِي.

الإنصاف بين الأولاد

يجب أن يتعامل الآباء والأمهات مع أولادهم بإنصاف سواء في الحقوق المعنوية كالمحبة والحنان والميولات النفسية أو في الحقوق المادية كالإرث والهبات والنفقات المالية حتى ينشأ الأولاد التنشأة السليمة البعديدة عن التحاسد والتحاقد والعقد التي قد يتسبب فيها الآبات والأمهات بحسن نية ولذا نجد النبي الأكرم يتعامل بحزم وصرامة مع الآباء الذين يميزون بعض أولادهم على بعض ولتأمل الآباء والأمهات في هذه الرواية فعن النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، أَنَّ أَبَاهُ بَشِيرًا نَحَلَهُ نُحْلًا، وَأَنَّ أُمَّهُ قَالَتْ: لَا أَرْضَى إِلَّا أَنْ تُشْهِدَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتَى النَّبِيَّ يُشْهِدُهُ فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَكُلَّ وَلَدِكَ أَعْطَيْتَهُ مِثْلَ هَذَا؟» ، وَقَالَ فِي حَدِيثِ حُصَيْنٍ وَمُجَالِدٍ: «أَعْطَيْتَهُمْ مِثْلَ مَا أَعْطَيْتَ النُّعْمَانَ؟» ، قَالَ: لَا، قَالَ: «فَلَا تُشْهِدْنِي عَلَى جَوْرٍ» ، وَقَالَ فِي حَدِيثِ مُغِيرَةَ وَدَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ: «أَشْهِدْ غَيْرِي إِنَّ لِبَنِيكَ عَلَيْكَ مِنَ الْحَقِّ أَنْ تَعْدِلَ بَيْنَهُمْ كَمَا أَنَّ لَكَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْحَقِّ أَنْ يَبَرُّوكَ» «اتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ»، قَالَ: فَرَجَعَ فَرَدَّ عَطِيَّتَهُ.

الإنصاف بين الزوجات

كما شرع الله وأباح تعدد الزوجات للرجال فقد شرع وأوجب على الزوج أن يعدل بين زوجاته وأن يتعامل معهن التعامل اللائق بهم والبعد عن التمييز بينهم إلا فيما يتعلق بالجانب النفسي أمام فيما يتعلق بحسن العشرة والتعامل والكلام والإنفاق فيجب أن يكون الزوج منصفا بين زوجاته وإلا فتدعيات وتبعات عدم الإنصاف وخيمة يقول النبي الأكرم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ فَمَالَ إِلَى إِحْدَاهُمَا، جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشِقُّهُ مَائِلٌ»

وعن أم المؤمنين عائشة رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى آله وسلم وَسَلَّمَ كان لَا يُفَضِّلُ بَعْضَنَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْقَسْمِ، مِنْ مُكْثِهِ عِنْدَنَا، وَكَانَ قَلَّ يَوْمٌ إِلَّا وَهُوَ يَطُوفُ عَلَيْنَا جَمِيعًا، فَيَدْنُو مِنْ كُلِّ امْرَأَةٍ مِنْ غَيْرِ مَسِيسٍ، حَتَّى يَبْلُغَ إِلَى الَّتِي هُوَ يَوْمُهَا فَيَبِيتَ عِنْدَهَا» وَلَقَدْ قَالَتْ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ: حِينَ أَسَنَّتْ وَفَرِقَتْ أَنْ يُفَارِقَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى آله وَسَلَّمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، يَوْمِي لِعَائِشَةَ، فَقَبِلَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى آله وَسَلَّمَ مِنْهَا، قَالَتْ: نَقُولُ فِي ذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى وَفِي أَشْبَاهِهَا أُرَاهُ قَالَ: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا} [النساء: 128].

و «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ، فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ، وَكَانَ يَقْسِمُ لِكُلِّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ يَوْمَهَا، وَلَيْلَتَهَا غَيْرَ أَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ وَهَبَتْ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ»

فمن يرغب في ضم امرأة ثانية أوثالثة او رابعة فعليه أن يراقب الله فيهن ، ويجب عليه أن يكون عند مستوى تحمل المسؤولية والتعامل زوجاته بإنصاف ويستثنى من ذلك الجانب النفسي وهو ما أشار إليه النبي دعاءه حيث كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى آله وَسَلَّمَ يَقْسِمُ فَيَعْدِلُ، وَيَقُولُ: «اللَّهُمَّ هَذِا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ، فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ، وَلَا أَمْلِكُ»

إنصاف الموظفين :تتحمل الدولة أمانة التوظيف ومسؤولية اختيار الأكفأ للقيام بالممهام والمسؤوليات ، وتتحمل كذلك أمانة منح الترقيات للموظفين الجديرين بالترقيات كحق لهم ،ويجب أن يحظى المتفانون في أعمالهم ، والمتقنون لها بالإنصاف ، والثواب الجميل يقول أمير المؤمنين : ازْجُرِ الْمُسِي ءَ بِثَوَابِ الْمُحْسِنِ.