الزكاة والأوقاف : مقاصد دينية وحقوق إنسانية

نشر بتاريخ: أحد, 24/04/2022 - 11:11م

الزكاة والوقف كنت أعتبرهما – قبل تشكيلهما هيئتين - صندوقين هامين لو استُغلت مواردهما الإستغلال الأمثل لتكفلا بميزانية الدولة واستغنينا عن المعونات والمنظمات والهبات والمساعدات وتم صرف مرتبات موظفي الدولة وسيُسهما بشكل مباشر وكبير في نهضة البلاد وإعادة إعمارها وتغطية الفجوة الكبيرة التي أحدثها العدوان اللعين وخلفها الحصار على عموم فئات الشعب اليمني وهذه تحديات تواجهها هيئتا الزكاة والأوقاف .

فقط وفقط يتم وضع اليد على موارد الهيئتين وكذا تصحيح الخلل فيهما وعلى قيادة الهيئتين – وهي قيادة مسئولة - مسئوليات جسام وفي هذه المقالة سأسلط الضوء على الزكاة والوقف من حيث المقاصد الدينية والحقوق الإنسانية متمنياً تحقيق المراد منه .

قبل الولوج في الموضوع أود التأكيد على التالي :

الظروف العدوانية وتداعيات الحصار الخانق وانقطاع المرتبات والحالة المعيشية الصعبة التي يعيشها اليمنيون تفرض على الهيئتين إعادة النظر في سياستهما فالظرف ليس ظرف استثمارات ومشاريع مهما كان حجمها فالطعام هو المقدس ومكافحة الجوع أعظم مشروع ومواجهة الفقر وعلاج المرضى ومواساة اليتامى والتخفيف عن المنكوبين والمكلومين والنازحين أعظم عند الله من كل المشاريع ومن بناء المساجد وترميمها وفرشها .

ليس ثمة حرمة تفوق حرمة النفس الموحدة وليس أكبر صمود كصمود الشعب اليمني الفقير الذي يعاني والنظر لحاله أفضل وأجدى من كل المشاريع والإستراتيجيات والإستثمارات .

للهيئتين وقيادتهما : لن يعذركم الله لأنكم لا تعلمون فها نحن نعلمكم ولئن شئتم خرجنا معكم لنريكم حال الناس وما وصلوا إليه ثم تحكموا ما هو الأولى والواجب والأوجب .

 

أولاً الزكاة :

شُرعت الزكاة كامتحان رباني كبير وميدان اختبار عسير فيه زكاء النفس ونماء المال وهذا الإمتحان والإختبار لا يفوز فيهما سوى القلة من عباد الله ويهدف لتحقيق مصالح اجتماعية كثيرة منها :

  • الحفاظ على المجتمع من آفات الشح والبخل .
  • مواساة الغني الفقير وسد حاجته وإشراكه في الحياة الاجتماعية لمنحه أكبر قدر من الحياة الكريمة .
  • تقوية أواصر المحبّة والإخاء بين أفراد المجتمع وتنمية قيَم التراحم والتآلف فيما بينهم .
  • تحقيق مبدأ التكافل الاجتماعي الذي له تأثير مهم في وحدة المجتمع ومنعته وقوّته .
  • سلامة المجتمع من الضغائن كالحسد والأحقاد .
  • التقليل من حجم الفوارق الطبقية بين أبناء المجتمع .
  • تقليل عدد السجناء عن طريق الدفع عن المديونين العاجزين عن السداد .
  • الحد من انتشار الجرائم وعمليات السلب والنهب .
  • التشجيع على الجهاد والدفاع عن أراضي المسلمين عن طريق تمويل الجهاد وكفالة ذوي المجاهدين .

 

مقاصد الزكاة من الناحية الاقتصادية :

إخراج الزكاة بالشكل الصحيح ودون مغالطة يُساهم في تطوّر الاقتصاد وازدهاره فالزكاة تسهم في زيادة المال وتطوّر الاقتصاد ، وذلك من خلال ما يأتي :

  • نماء مال الزكاة بالنسبة للمُزكي فالله سبحانه يُبارك المال المُزَكَّى ، وأصل الزكاة التطهير والنماء .
  • تنمية الاقتصاد داخل المجتمع عن طريق حركة المال وعدم احتكاره في يد فئة قليلة .
  • السماح لجميع فئات المجتمع بالعمل والإنتاج والمساهمة في تطوير الاقتصاد ودفع عجلته نحو الأمام .

مصارف الزكاة أوضحها الله سبحانه وتعالى بقوله : (( إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبــْنِ السَّـبـِيلِ فَـرِيضَةً مِنَ اللَّـهِ وَاللـَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ )) التوبة 60 فإذا تبين أن هذه الأصناف قد حصرها الشارع الحكيم ، تساءلنا : كيف يمكن للزكاة كنظام مالي أن تستجيب لمتطلبات الحياة وأن تقف مع كليات الشريعة المتمثلة في حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال ، والتي هي مقصود الصدقات والتبرعات ؟

وللإجابة على هذا التساؤل يستدعي الأمر النظر في هذه الأصناف الثمانية برؤية واقعية ، تمكن من تفعيل حفظ الزكاة لكليات الشريعة .

 

المقاصد الشرعية لمصارف الزكاة الثمانية :

المقاصد جمع مقصد والمقصد مأخوذ من الفعل قصد ، ومعانيها متنوعة عند أهل اللغة ، ومن هذه المعاني : الإتيان، يقال : قصدت قصده ، أي نحوت نحوه ، ومنها الاستقامة : يقال اقتصد أمره أي استقام (( وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ )) النحل 9 وغيرها من المعاني وأصل الكلمة واستعمالها عند العرب تعني الاعتزام والتوجه نحو الشيء على اعتدال كان ذلك أو جور .

وبما سبق يتبين أن المقاصد هي : الغايات والأهداف التي وضعها الشارع عند كل حكم لتحقيق مصالح العباد الدنيوية والأخروية ، أو هي : مصالح العباد التي اتجهت لتحقيقها التشريعات الإلهية .

المقاصد والآثار الإقتصادية :

  1. مقاصِد مصرف الفقراء والمساكين :

الفقير هو الذي لا يملك ما يسد به حاجته وحاجة من يعول ، أما المسكين فهو الذي لا يملك شيئاً ولا يسأل الناس ، وهو أضعف من الفقير وأسوأ حالاً منه والزكاة لهذين الصنفين ، تنطلق من مفهوم محاربة الفقر والحاجة وسدّ الخلة بمفهومها العام ، أي في ارتباط بواقع الحال وما تضمنه هذا الواقع من حفظ للنفس والعقل ، فالمقصد الأصلي من إعطاء الفقير والمسكين هو :

تحقيق الكفاف والعفاف ، وإغناؤهما عن السؤال ، وهذا يتحقق بحسن تنظيم هذ العطاء ، بأن يساعد المحتاج منهما في حرفته إن كان يتقن حرفة أو تجارة إن لم يكن له حرفة كمشاريع التمكين الإقتصادي والمهني اللذين تتبناهما هيئة الزكاة ، ويعطى الفقير والمسكين إن لم يحسن كل منهما كسباً بحرفة ولا تجارة ما يكفي سد حاجتهما حتى يغنيهما الله ، لأن القصد إغناؤهما أما من يحسن حرفة تكفيه فيعطى ثمن آلة حرفته ، وإن كثرت ، أو تجارة فيعطى رأس مال يكفيه ، فنظر المقاصد يقتضي أن يراعى في العطاء هذا الجانب ، وهو تحقيق الاكتفاء والإغناء ، إما بــ :

  • بناء مركبات تجارية .
  • أو اقتناء محلات تهتم بالحرف التقليدية من أموال الزكاة ، وتعطى لهؤلاء الفقراء والمحتاجين ، مما يخلق رواجاً اقتصادياً إضافياً ، وحركية في الإنتاج .
  • إيجاد فرص عمل للفقير والمسكين بتمكينهما من وسائل وآليات للاشتغال يحقق لهما هذا الاكتفاء ، ويحقق القصد من هذا المصرف .
  • بناء المستشفيات لعلاج الفقراء والمساكين بالمجان ، فإذا جاز دفع الزكاة في علاج الفقراء والمحتاجين .
  • بناء المصحات والمستشفيات فإنه أولى وأعظم في النفع ، وأولى بتحقيق القصد كما يضاف إليه سفر المريض للعلاج بالخارج ، إذا احتاج هذا الفقير أو المسكين ذلك ، لأنه من باب رفع الضرر عنه ، إذا تعذر علاجه في بلده ، ولم يجد صندوقاً تضامنياً يكفل علاجه أو يساعده في ذلك ، وهذا من باب حفظ النفس .
  • إقتناء أو بناء المباني السكنية التي تأوي الفقير والمسكين ، لأن السكن أصبح من الضروريات التي تتوقف عليها حياة الناس اليوم مع كثرة متطلباتها ، فهو ضرورة أساسية تحفظ كلية النفس ، وإلا صار عرضة للضياع والتشرد ، فإيجاد السكن الملائم للفقير والمسكين الذي لا يجد مأوى له ، من باب إقدار العاجز وتقويته على أداء الواجبات والفرائض .
  • تزويجه لأن تحصيل تكاليف الزواج من تحقيق قوام العيش ، ولأنه ضرورة تحفظ كلية النسل وتقيم وجودها في الخلق .

ومما تقدم يتبين أن الحاجات الأساسية التي يجب تأمينها للفقير والمسكين هي :

المطعم ، والملبس ، والمسكن ، ونفقات النكاح ، ونفقات التعليم النافع ، ونفقات العلاج من المرض ، وقضاء الديون ، وأدوات الحرفة ، أو رأس مال التجارة ، وتشجيع الطاقات الإبداعية ونحو ذلك مما لا بد منه ، والذي يختلف باختلاف العصور والبلدان .

 

  1.  مقاصد مصرف العاملين عليها :

العامل على الزكاة هو من يقوم بجمع وتحصيل الزكاة ، وهو في الحقيقة يشمل كل من يقوم بالأعمال المتصلة بها ، من جمع وتخزين وحراسة ومحاسبة ومراقبة وغيرها فالعامل على الزكاة هو الساعي والجابي عليها ، يتفرغ لهذه المهمة ، فيأخذ مقابل ذلك مستحقاته منها ، لذلك فكل من له اتصال مباشر بالسعي على الزكاة في إطاره المؤسساتي المنظم ، سواء جهة إدارية أم جهة علمية يعهد لها بالاشتغال في إطار نظام مالي متكامل ، مع التأكيد على إغناء العاملين من مصرفهم حتى لا يكونوا عرضة للإغراء والإنهزام أمام ضعف النفس ورشوات ذوي المغالطة .

مصرف العاملين يشمل أيضاً توظيف سيارات وسائقين وبترول خاصة مع اتساع رقعة البلاد ، واستعمال هذه الآليات يدخل في باب السعي على الزكاة ، وله ارتباط بحفظ كلية المال .

إن تطبيق نظام الزكاة في إطار مؤسساتي منظم ، من شأنه أن يفي بحاجيات المجتمع ، وأن يسهم في محاربة البطالة التي تنخر المجتمع ، فلا يمكن تصور عدد الشباب الذين سيتحصلون على وظائف دائمة ومؤقتة ضمن مصرف العاملين عليها ، سواء أصحاب المؤهلات الأساسية أو الجامعيين أو الحاصلين على الدراسات العليا ، من خلال العمل الإشرافي والرقابي والتقني والإستفادة من التخصصات الإعلامية المرتبطة بتطوير نظام السعي .

 

  1.  مقاصِد مصرف المؤلفة قلوبهم :

المؤلفة قلوبهم هم الذين كانوا يُتَألفون على الإسلام ، ممن لم تصح نصرته ، استصلاحًا به نفسه وعشيرته ، وهي فئة في واقع الأمر متجددة في كل وقت وحين وفي ذلك مصلحة الدين وأهله .

كل ما يساعد ويساند الدولة في دفع الشر والأذى عنها ، ويحقق لها لحمة الاستقرار ، ويجعلها من الدول القوية التي يخشى جانبها ، هو تأليفٌ قَصَدَهُ النص الشرعي ، ومصرف من مصارف الزكاة ، فلا معنى لواقعية النص دون توظيفه في سياقاته الواقعية والشرعية ، فالدول الإسلامية اليوم تحتاج إلى تفعيل مقتضيات هذه الفريضة ، لأن في تفعيلها تحقيق لهذه المقاصد المهمة التي ترتبط بسياسة الدولة .

 

  1.  مقاصد مصرف الرقاب :

المقصد هنا يقتضي تحرير الأنفس البشرية وعتقها وتخليصها من قيد العبودية للبشر ، مقصد يحفظ كلية النفس ، بتشريع ما يدفع الضرر والفساد عنها ، فالاستعباد والاسترقاق كله فساد وضرر وهو مقصد لا يتوقف ولا يرتبط بوقت معين ، لأن معناه الكلي تحرير النفس البشرية وعتقها ، وهو أمر يتجدد بتجدد الزمان والمكان ، ويرتبط أيضاً بسياسة الدولة فيما تحكم به ، فمصرف الرقاب ينطبق على الأسير والمختطف والمحتجز .

 

  1.  مقاصد مصرف الغارمين :

الغارمون هم أصحاب الديون أو ما يُطلق عليهم المعسرون كما جاء في الحديث (( لا تصلح إلا لذي فقر مدقع أو لذي غرم مفظع أو دم موجع )) وبالتالي فــ :

  • من استدان لينفق على نفسه وعياله غارم .
  • ومن انحرق بيته غارم .
  • ومن ذهب ماله بأي سبب فهو غارم أو تعرض للإفلاس كما يسمونه .

والمقصد هنا الدفع بعجلة التنمية من خلال تحويل الطاقات الراكدة والمعطلة إلى طاقات منتجة ، فهؤلاء الذين عليهم ديون وغرم ، وتعرضت تجارتهم وأموالهم للضياع والتلف ، وخسروا أموالهم وأصبحوا مدينين للناس وللدولة ، في حالة ركود وجمود ، لذلك فتخصيص جزء من الزكاة لهذا المصرف بواسطة صندوق أو إدارة أو قطاع يراعي الأولوية ويباشر عملية البحث والتحقق والتدقيق سييسر سبل تحريك هذه الطاقات والدفع بها لتكون منتجة وأكثر عطاءً وينتفع بها المجتمع .

 

  1. مقاصد مصرف في سبيل الله :

المراد به الجهاد في سبيل الله وتجهيز الغزو والمجاهدين والمرابطين ونصرة الدين والدفاع عنه وتعليم الشريعة فالجهاد شرع لبلوغ مقاصد شرعية نبيلة ، وتحقيق أهداف إنسانية عظيمة ، حددها الشارع الحكيم ونصبها أمام القائمين به كما يضاف ضمن مقصد هذا المصرف الإنفاق على طلبة العلم ، وحملة القرآن الكريم ، باعتبار أن طلب العلم فريضة على كل مسلم ، وأن به يرفع الله الأمة ويعلي من قدرها والعلم ضرورة أساسية ، يحفظ الله به كلية العقل ، فالإنفاق على طلبة العلم المتفرغين لذلك من شأنه أن يدفع عن الأمة الغزو الفكري الذي تتعرض له ، ويخول لها تبوء المكانة التي تليق بأمة الإسلام .

 

  1.  مقاصد مصرف ابن السبيل :

ابن السبيل هو الغريب الذي انقطعت به السبل والمسافر الذي انقطع عن بلده وأهله فيأخذ بهذه العلة من الزكاة ما يستعين به على أموره وتكون عوناً له على تيسير حاجاته ، وتحقيق أغراضه ، وإن كان غنياً في حَضَرِه فابن السبيل بهذا المعنى ، هو الذي يحتاج إلى المال في وقت سفره ، فالسفر وانقطاعه عن ماله سبب موجب لاستحقاقه الزكاة وهذا المصرف يحل قضايا عصرية كثيرة كاللاجئين الهاربين من الحروب والتطاحن في بلدانهم ليعطوا بما يحقق لهم الإكتفاء وما يردهم لبلدانهم عند مراد عودتهم وأمانهم .

هذه الفريضة تتضمن العدل في التعامل مع الثروة ، فالزكاة في الإسلام لا تفرض على الفقير والمسكين ومن لا يملك النصاب المحدد وإنما تؤخذ من الأغنياء وتعطى للفقراء .

إن استثمار الأموال مهم وفيه نهضة بالإقتصاد الوطني وتشغيل الأيادي العاملة وتأسيس مبدأ التعاون التكافلي الإجتماعي باعتباره من أهم مقاصد الشريعة المطهرة .

أتمنى أن تكون الفائدة قد حدثت فالزكاة باب واسع متشعب له أحكامه وقد تعرضت في بلادنا للتشويه شأنها شأن الهيئة التي تواجه الكثير من حملات التشويه الممنهجة .

 

ثانياً الوقف :

الوقف من أعظم القُرب التي تقرب بها المسلمون إلى الله عز وجل فقد جمع بين الهبة والصدقة وله مقاصد دينية واجتماعية وصحية وعلمية يعود نفعها على المقصودين به وعلى المجتمع ككل ، ويعد نظام الأوقاف من أهمّ المؤسّسات الخيرية المالية التي عرفتها الحضارة الإسلامية منذ بزوغها ، وأكثرها أصالةً ، وأجلّها هدفاً ، ومن أقواها فاعليةً وتأثيراً في المجتمع الإسلامي بجوانبه الاجتماعية والاقتصادية والتنموية وذلك بما اشتمل عليه هذا النظام العريق من محتوىً إنسانيٍ بليغٍ ، ونفعٍ اجتماعيٍ واقتصاديٍ مؤكّدٍ ، وبما أدّاه من وظيفةٍ إرشاديةٍ ودعويةٍ وتعليميةٍ وجهاديةٍ وصحيةٍ ، أثبتت نجاحها عبر القرون الماضية من حياة المسلمين وتاريخهم .

الشريعة الإسلامية الغرّاء نظّمت أحكام وقواعد هذا النظام الإنساني الحضاري الأصيل ، لتحقيق الأهداف والغايات المنشودة منه ، كما دأب الأئمة والعلماء والفقهاء والحكماء على العمل من أجل تعزيز دور نظام الأوقاف في تحقيق مقاصد الشريعة ، وتكريس آثاره الحميدة في جلب الخير والمنفعة للشعوب وما أُوقف له من مراد الواقفين ومقاصدهم .

نظام الوقف نظام اجتماعي تكافلي تعاوني نشأ من الصدقات الجارية المستمرّ عطاؤها والمرجوّ دوام نفعها إلى ما بعد موت الواقفين وإلى قيام الساعة وهي من المبرات العظيمة ومن أعظم الصدقات وأكثرها بركة وأهمها فائدة مما دأب عليه أبناء الإسلام الخيِّرون استجابة لدعوات الله سبحانه في الحضِّ على الإنفاق والترغيب فيه كما قال عز وجل (( لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ )) آل عمران 92 (( وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ )) البقرة 280 (( وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمْ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً )) النساء 39 (( وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ )) الحديد 10 (( إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ )) الحديد 18 وغيرها الكثير من الآيات الشريفة .

والباحث المدرك ينظر في غايات الوقف وأهدافه ونبل مقاصده حين يجد أقساماً كثيرة متفرعة قد تتجاوز الـ 70 نوعاً وربما تتجاوز الـ 100 جميعها تكافلية ترعى الجوانب الدينية والأخلاقية والإنسانية النبيلة التي تعود بالنفع على المجتمع الإسلامي وتكرس مفهوم التراحم والتعاضد والإستشعار لدى الواقفين .

ولمن لا يعرف الوقف فإن الوقف قد اشتمل على أشياء ربما لم تخطر على البال حيث الواقفون رحمهم الله كانوا هم الأحرص على التكافل والتعاون والتراحم والخير بشكل عجيب فعلاوة على وقف المساجد المعروف هناك ما يزيد عن 70 وقفاً ومنها على سبيل المثال لا الحصر :

- وقف الغاضبات والمراد به النساء الحانقات من بيوت أزواجهن ليكفلهنّ الوقف في حال حاجتهن !!

- وقف طلاب العلم والعلماء والمتعلمين .

- وقف المدارس العلمية .

- وقف الطرقات .

- وقف السُبُل والمناهل .

- وقف الحاجة لذوي الحاجة .

- وقف الحمام والطيور .

- وقف العرسان لمن احتاج لأدوات ومستلزمات العرس !!

- وقف المقابر .

- وقف الثور الفحل !!

- وقف الدِلاء !!

- وقف الذرية .

- وقف العاملين .

- وقف الفقراء والمحتاجين .

- وقف الصوامع .

- وقف المحاريب .

- وقف حمام مكة .

- وقف قيادة الأعمى وهو خاص بنفقة من يقود الكفيف !!

- وقف الحيوانات حتى المتوحشة كالعرج !!

هذا جزء بسيط من خيريات الواقفين الذين أرادوا وجه الله فجاءت الأغوال والسياسات العرجاء لتنهبه وتصرفه عن مراد وقصد الواقفين !!

وفي الحقيقة فإنّ أهداف الوقف تتجاوز في عموميّتها طابع التصدّق والبرّ بمفهومهما البسيط ، لتحيط بجوانب أعمق من ذلك تتعلّق بدور الوقف الاجتماعي والاقتصادي المؤثّر في حياة ونشاط وعلاقات المسلمين فيما بينهم .

 

الوقف والضروريات :

أولاً الدين :

وحفظ الدين في بناء المساجد وإصلاحها ورعايتها وترميمها وفرشها وطلائها والقيام بكل شئونها من مؤذنين وإمامة وخطابة ونظافة وتوفير جميع حاجياتها ومتطلبات تحسينها .

المساجد في الفكر والوعي الإسلامي هي المعلم الأهم فهي مركز القيادة وبناء النفوس والدعوة إلى الله ونشر دينه والإهتمام بالتعليم فيها ورعاية الحلقات العلمية وكفالتها .

ومن حفظ الدين أوقاف الجهاد والثغور والتسليح والإنفاق على الجهاد والمجاهدين وتجهيزهم بكل ما يحتاجونه ورعاية أسرهم وذويهم .

 

ثانياً الوقف والنفس :

وفي هذا الوقف حرص الواقفون رحمهم الله على حماية النفس البشرية الموحدة بتوفير مياه الشرب والطعام وصنعه وتوزيعه وكذا السكن والكساء والعلاج والآبار والسُبل والطرق وأماكن الإيواء والحماية من المخاطر وله تفاريع وتفاصيل كثيرة منها ما هو عام ومنها ما هو موسمي ومناسباتي .

ومما سبق يتبين أن الوقف يساهم في تجهيز المستشفيات ودفع رواتب الأطباء ، وتمويل كليات الطب ، وبناء المراكز الصحية المتنقلة وإقامة المخيمات لخدمة المرضى وتخصيص مساكن ودور للإيواء ورعاية الفئات الخاصة والمحتاجة كالعجزة وما يسمون بذوي الإحتياجات الخاصة .

 

ثالثاً الوقف والعقل :

أسهم الوقف في حفظ العقل بما أثراه من وقف المدارس والجامعات العلمية والمكاتب والدور والأربطة والزوايا وحلقات العلم وما كان يطلق عليه قديماً الكتاتيب ورعايتها والإنفاق عليها وعلى روادها وطلابها بهدف بناء الشخصيات العلمية النافعة التي تخدم دينها ووطنها وأمتها .

حمى الوقف العقل من التعطيل والتجهيل والخمول والتقليد عن طريق وقف المدارس والمعاهد العلمية والجامعات ، وشمل التعليم الرجال والنساء والأطفال ، وحتى المماليك والعبيد والإماء والأيتام واللقطاء ، وانتشرت الثقافة بين البوابين والفراشين ولهذا كان للوقف الأثر في بناء شخصية وعقلية العالم والفقيه وهذا أعطى مساحة كبيرة من الحرية للبحث العلمي .

ويمكن للوقف اليوم أيضاً المساهمة في حماية العقل من خلال التوعية والتثقيف في مواجهة تيارات الزيغ والإنحراف والحروب الناعمة والمخدرات والحشيش وكل مؤامرات المسخ التي يسعى الإستكبار من خلالها لخلخلة المجتمع بكل الوسائل والطرق المشينة خدمة لأهدافه ومآربه .

 

رابعاً الوقف وحفظ النسل :

حرص الواقفون على حفظ النسل من خلال وقف الذرية وهذا النوع من الوقف شهير ليس في اليمن فحسب وإنما في عموم البلدان والمناطق الإسلامية .

توجسات كثيرة أحاطت بالواقفين لهذا النوع فالمقاصد التي هدفوا لها تتعلق بما قد يؤل إليه حال الذرية أو بعضهم فيحتاجون ويعانون وينتظرون الإحسان من الآخرين وبه أرادوا إغناءهم عن ذلك بما أوقفوه لهم وفي الغالب لم يكن لعموم الذرية فقط ولكن للفقير المحتاج منهم وهذا هو البر والإحسان بالذراري .

قد لا توجد منطقة إلا وفيها وقف الأبناء والذرية ومن احتاج من الذرية وللضعفة منهم ولمن كثرت عياله وقلَّ رزقه وبعضهم يحالفه التوفيق أكثر فيجعل الولاية عليه لشخص معين يراه أميناً ثم يشترط من بعده للأرشد من الذرية وهو تراحمي يعمق الأواصر بين الواقفين والأحفاد وقد اشتمل هذا الوقف على الأراضي والعقارات والمزارع وغيرها وحرصوا على تحبيسها عن التبديد والعبث والإسراف والسفه .

كما اعتنى الوقف بالأرامل والمطلقات ومن تعيل أطفالاً صغاراً ومن يؤذيها زوجها والمساكين واليتامى والمحتاجين والمجاهدين سواء لذراري معينة أو لعموم المسلمين وعليه فإن الهيئة العامة للأوقاف اليوم مطالبة باستيعاب تلك الشرائح والإهتمام بها ودراسة حالاتها ووضع خطط ومشاريع كفالة وإعالة ورعاية وتأهيل تؤدي الدور على الوجه الأكمل .

 

خامساً الوقف وحفظ المال :

الوقف بجميع أنواعه وصوره ومجالاته ، لا يتم إلا بالأموال سواء كانت ثابتة كالعقارات والأراضي ، أم منقولة ومتداولة كالأموال والمجوهرات والكتب والسلاح وغيره والأموال من ضروريات الحياة ، فلا وقف بلا أموال والوقف يحافظ على المال من خلال تنميته واستثماره بالمشاريع الوقفية المختلفة وكم تمنيت على هيئة الزكاة والأوقاف إنشاء بنوك خاصة بهما كـ بنك الزكاة وبنك الأوقاف أو دمجهما في بنك واحد .

الأحكام الشرعية المتعلقة بالوقف تصب جميعها نحو حفظ المال وتحريم وتجريم التصرف فيه بما يفقده الديمومة والإستمرار لأنه محبوس مؤبد يحفظ الأصول لتبقى فتخدم الحاضر وتستمر كاحتياطي للأجيال القادمة وإلى قيام الساعة .

وفي هذا السياق فإن على هيئة الأوقاف التخطيط للبحث عن المهن المناسبة ، وتوفير فرص العمل ، وكذلك التملك والإنتاج والدخول في استثمارات عملاقة منتجة تساهم في رفد الإقتصاد الوطني وتحقيق المقاصد الوقفية .

 

تأملات وقفية :

على هيئة الأوقاف استرداد الأموال الكبيرة المنهوبة والعقارات والأراضي وتخليص المساحات الشاسعة التي قام النافذون بهبرها واستئجارها لمدد طويلة بعضها مدى الحياة وفي المقابل الرأفة بالمساكين من المواطنين الذين لديهم مساحات بيوتهم أو أماكن رزقهم وعدم التضييق عليهم وخصوصاً في الظروف العدوانية التي نعيشها وانقطاع المرتبات .

وبالعودة لما انتُهب من الأوقاف نسمع الكثير من صراخ الناهبين فلماذا كل هذا الصراخ ؟!

الصراخ من الأوقاف أو بالأصح من الخطوات التصحيحية التي بدأتها هيئة الأوقاف !!

ألِفَ اليمنيون امتهان الوقف !!

ألِفَ التجار والنافذون نهب الوقف !!

تعوَّد الأُجَرَاء على مغالطة الوقف !!

حتى الدولة ومؤسساتها الحكومية نهبت الوقف ظاهراً وباطناً .

عشرات السنين من البسط والنهب والسيطرة والإغتصاب بلا حياء ولا خجل !!

هذه هي الحقيقة التي لا مناص ولا مهرب منها !!

المؤسسات الحكومية تبسط على عشرات الآلاف من أموال الوقف !!

النافذون والتجار هبروا آلاف ومئات اللبن من أموال الوقف وبعضها بإيجارات أبدية ورمزية أجحفت بالوقف وقضت على أهداف الواقفين !!

الأُجراء استولوا على أموال الوقف فيأكلونها ويبيعونها عيني عينك !!

إستثمارات الأوقاف تمت السيطرة عليها من النافذين بعقود خيالية لا يستسيغها المجنون الذي في الشارع !! وكل تلك الأموال يجب استردادها لأصلها ومحلها بأي طريقة .

طاحت بيوت الله الغنية التي تملك عشرات ومئات الآلاف من اللبن والأراضي الشاسعة وتحولت لبيوت فقيرة تتسول وتنتظر الصدقة من فاعلي وفاعلات الخير !!

أراضي الوقف التي بُنيت عليها المساكن تم بيع بعضها على أنه حر والبعض منها بإيجارات زهيدة يخجل المرء حين يسمع عنها !!

اليوم بدأت عملية التصحيح ومع التصحيح ظهر النواح والصراخ !!

هذه أموال بيوت الله أيها المغتصبون فاخجلوا واستحوا ولو قليلاً !!

النافذون والتجار الكبار يصرخون !! على ماذا ؟!

على ما يستحي ويخجل المرء من ذكره !! إنها أموال بيوت الله التي تركتموها فقيرة تتسول أيها الناهبون .

خطوات التصحيح يجب أن تستمر بطرق حقيقية وشرعية لاستعادة ما تم نهبه وهبره من هذه الأموال ودون مواربة وفضح كل الناهبين والمغتصبين وضبطهم بحزم .

الأوائل كان لديهم دين واستشعار فكانوا ينفضون أيديهم من تراب الوقف بينما المغتصبون اليوم بلا دين ولا استشعار وعادهم بيبهرروا ويصرخوا !! لا تصرخوا من الوقف فالوقف يصرخ منكم .

وقبل الختام فإنني أتمنى على هيئة الأوقاف الإهتمام بالخطباء والأئمة والمؤذنين والقائمين على بيوت الله باعتبارهم مهضومي الحقوق منذ عقود وربما كان ذلك ممنهجاً لإهانة من ذكرت سابقاً وإفراغ دور رسالة المساجد وتشويهها إضافة لجعل القائمين عليها يتكففون الناس وينتظرون الصدقات وهذه طامة كبرى حيث لا يُهتم بالعلماء والأئمة كما تفعل الوهابية وقد سبق وكتبت مقالاً في هذا الصدد بعنوان ( الفقيه اليمني المحنتف ) وسأطرحه هنا لتمام الفائدة استجابة لمقترحات الكثير ممن طالبوني بإيصاله للهيئة آملاً من قيادة الهيئة النظر بجدية له :

الفقيه اليمني من أكثر المخلوقات عطاء .

إنه من أعظم مخلوقات الله إنتاجاً رغم أن بيئته لا تساعده على الإنتاج أصلاً !!

الفقيه اليمني مسكين وربما أضعف وأرخص - وأقصد بالرخص الحقوق - فقيه على الإطلاق ويعلم الله إلى متى !!

الفقيه اليمني .

العالم اليمني .

الخطيب اليمني .

الواعظ اليمني .

المرشد اليمني .

جميعهم بائسون منحوسون بل الأكثر بؤساً ونحساً بين فقهاء وعلماء الكون !!

الوهابي اليمني كان يستلم 5000 درهماً إماراتياً أو 5000 ريالاً سعودياً أو 5000 ريالاً قطرياً أو 5000 ديناراً بحرينياً في الشهر غير الذي بيبرمه من هنا وهناك والفقيه حقنا بالكاد لقي شقة في جامع وعليه الأذان وإمامة الصلاة والخطابة والتعليم وأحياناً النظافة وجميع شئون المسجد وما به ولا ريال إلا إذا قيَّض الله له عجوز مؤمنة ساكنة بجوار المسجد تدي له حق دريس !!

الوهابي بيجي له تغذية ودقيق وتمر وكسوة والفقيه حقنا أغبر يرحم الله ينتظر فتوحات الله صدقات وهبات ودريس !!

الوهابي مرتاح البال سفريات وحج وعمرة وريال سعودي ودهنة يمنية وفقيهنا حراف انتف ما يلقى حق دبة الغاز وإذا معه شيء من الأوقاف فـ 5000 ريال في الشهر والشهرين والثلاثة وأعتقدها 15000 ريال بعد مجيء الهيئة !!

الوهابي له قيمته الإعتبارية فإذا درّس في جامعة أو جامع أو معهد أو مدرسة أو تم تعيينه مستشاراً شرعياً أو شارك في شيء فقد تصل حقوقه وامتيازاته لـ آلاف الدولارات وتتجاوز المليون بالريال اليمني بينما فقيهنا علم وتدريس بدون حساب وإفتاء ووعظ ومحاضرات وتوعية بدون سقوف ولكنه محنتف يرحم الله معه ثلاثين أو خمسين ألف ريال بما يعادل أقل من 100 دولار !! وما يزال حاله كما هو إلى اليوم !!

الوهابي يُعطى حقه بينما فقيهنا لا يجد حقاً من حقوقه غير الفُتات !!

ما تزال الثقافة كما هي لم تتغير فالفقيه عندنا محنتف وكأنه كُتب عليه الحنتفة طوال حياته ولو كان المسئول عليه من نفس التيار .

كيف قيل : من كان في رأسه بصلة فلا تسأله عن مسألة ؟! فإذا رأوا حاله اليوم وهو كما ذكرت من العطاء والبذل وفي رأسه الإيجار والمصروف والعيال والمرض والحاجة فماذا سيقولون ؟!

 

من وصايا الواقفين :

وهي وصايا مشهورة صدرت عن بعض الواقفين الأئمة والفقهاء والصالحين الذين بذلوا نفيس المال لوجه الله وفيها من الإرعاب ما يتوقف عنده كل من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد حتى انه اشتهر عن المؤمنين أنهم كانوا يمسحون ثيابهم وأدواتهم من تراب الوقف عند مغادرة مال الوقف إذا عملوا به ومن هذه الوصايا التالي :  

( اللهم انزع البركة والنعمة عن كل من فرَّط أو نهب أو امتنع عن دفع ريع ما أوقفته لله واجعل عقوبتك فيه دائمة وفي ذريته ) .

( يا جبار السموات والأرض اجعلني خصيماً بين يديك لكل من أكل بغير حق مالي الذي أوقفته لبيتك ) .

( اللهم من عبث وتصرف بما أوقفت فاحلل عليه غضبك وسخطك واجعله عليه نقمة وظُلمة وزوال نعمة ) .

( اللهم من أكل مما أوقفت بغير حق فعجل له بالعقوبة في الدنيا قبل الآخرة ) .

اللهم لطفك بنا ، اللهم رحمتك والله من وراء القصد .

المرجع /

من الجدير ذكره ولضيق الوقت وانشغالي بأمور كثيرة فإنني استعنت ببحث ( المقاصد الشرعية لمصارف الزكاة الثمانية ) د / عبدالله حسن البرغوتي .

الدلالات: