في رحاب كلام الله تأملات في سورة الحج

نشر بتاريخ: خميس, 27/09/2018 - 7:51م

هذه الكتابة هي محاولة لقراءة كلام الله في سياق مترابط، وهي قراءة مبنية على أن الكلام كلام الله الحكيم العليم الذي أنزل كتابه وحفظه بهذا الشكل لحكمة، وأن كل ما في كتابه له غرض.

ولم أحاول في هذه الكتابة تقصي جميع الآيات والكلمات وإنما هي تأملات ومحاولة لفهم السورة على وجه العموم.

 (يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ) تصدرت سورة الحج بنداء عام للناس يأمر بالتقوى ويحذر من زلزلة الساعة، ولسائل أن يسأل لماذا تصدرت هذه السورة (سورة الحج) بالتحذير من يوم القيامة وأهوالها؟

لعل ذلك فيه عدة إشارات بعضها مرتبط بالحج نفسه، وعندما نتأمل في السورة فإنا نلاحظ تركيزها على الذين يجادلون حيث تطرقت لذلك في الآية (3) - التي تلي الحديث عن أهوال الساعة - وفي الآيات (8) و(51) و(68)، ونلاحظ أن أبرز ما كانوا يجادلون فيه هو موضوع البعث؛ ولذلك قال في الآية (5) بعد أن أشار إلى من يجادل في الله: (يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ... الآية)، فتصدرُ السورة بالحديث عن أهوال الساعة وتقديمها بصورة مؤكدة فيه ترهيب لا نقاش فيه.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ) كون التعبير عن الجدال بهذه الصيغة: (يُجَادِلُ فِي اللَّهِ) وإلصاق الجدال بالله هو للتأكيد على خطورة الجدال وأن الجدال في موضوع البعث هو جدال في الله فلا يصح إيمان بالله دون الإيمان بالبعث، والجدال في بعث الله للناس ينسحب منه الجدال في سائر وعود الله ومن أبرزها في هذه السورة وعوده المتكررة بالنصر والتي وردت في الآية (15) وآية (39) و(40) وآية (60) وفي آخر آية (78).

(يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ)

نلاحظ هنا كيف أن الآية تشير إلى التغير الملازم للإنسان وللموجودات من حوله فلا يمكن الحكم بناء على أمور يراها الإنسان أمامه وهي متغيرة أو زائلة، ولذلك قال بعدها: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وهذا فيه تأكيد للبعث ويوم القيامة: (وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ).

وموضوع التغيير الذي يحصل في الكون وأن الله وحده الحق وهو الذي بيده تغيير كل شيء تناولته السورة في آيات أخرى: (61- 63)، و(66)، وكذلك في آية (45) التي تقول: (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ)، فلا يتأثر الإنسان بالأمور التي يراها أو بأي قوة تمثلت أمامه في فترة زمنية معينة ويتعامل معها وكأنها أمر ثابت لا يزول ولا يتغير، ولذلك دعا الله بعدها إلى السير والتأمل في عواقب الأمم السابقة وأن لا تكون أفكار الإنسان مبنية على نظرة سطحية عابرة: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)، لأن الاستدلال مبني على أمور موجودة في متناول الإنسان وبإمكانه الوصول إلى معرفتها إذا ما نظر وسار وتأمل.

وهذا فيه ما يؤكد ما قدمنا من أن الجدال في موضوع البعث ينسحب منه النقاش في سائر وعود الله وعلى رأسها وعوده بالنصر لعباده المؤمنين، وهو ينطبق على ما نعيشه اليوم وكيف ينظر البعض إلى القوى الكبرى وعلى رأسها أمريكا وكأنها حق ثابت لا يمكن أن يزول.

***

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ)؛ الذي يظهر أن هذه الآية مرتبطة بما ذكر لاحقاً في الآيات 51- 53: (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ * وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ).

ومن خلال التأمل في هذه الآيات (11، 51-53) والآيات المتعددة في هذه السورة التي تشير إلى من يجادل في الله (والتي أشرنا إليها سابقاً) فالظاهر أن جدلاً أثير في أوساط المسلمين من خلال بعض الشبه التي يلقيها الشيطان ويطعن بها المجادلون المعاجِزون في آيات القرآن التي يتلوها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم (لأن تمنّى معناها قرأ، والأمنيّة القراءة)، وأن هذه الشبه كان فيها فتنة سقط فيها السيئون (لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ)، والظاهر من خلال قوله: (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ) أن افتتانهم ليس لأن الشبهة أثرت عليهم ولكنهم استخدموها وسيلة لتبرير انقلابهم، خاصة مع قوله: (فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ) والذي يؤكد أن الله يمحو كل لبس أو شبهة تعلقت بآياته.

ولذلك فإن قوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ...)، وقوله: (لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ) فيه توضيح لسائر المسلمين - ممن قد ينجرفون مع ذلك التيار متأثرين بتلك الشبه والجدل المثار خاصة وهم يرون انقلاب البعض وافتتانهم -؛ فهاتان الآيتان توضحان أن افتتانهم إنما كان لسوء طويتهم ومرض قلوبهم وقسوتها.

فكان هذا سبباً في افتتان بعض مرضى القلوب وسقوطهم، وكان فيه أيضاً أمارة يعرفها الذين أوتوا العلم وتخبت لها قلوبهم: (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)؛ فيكون المقصود بهم هم من لديهم علم متوارث عن الرسالات السابقة.

وقبل أن أكمل تناول آيات السورة بحسب الترتيب أذكر هنا أن المواضيع التي أثير الجدل حولها - والتي يمكن استيحاؤها من خلال آيات السورة – منها ما كان مرتبطاً بما قدمناه من إنكار البعث ووعود الله، ومنها ما كان مرتبطاً بالحج نفسه وبعض مناسكه؛ ولذلك ورد قوله سبحانه: (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ) ومع ملاحظة قوله: (فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ)، فالظاهر أن بعض ما جاء به رسول الله صلى الله وسلم عليه وعلى آله كان مخالفاً لما نقل عن الأمم السابقة أو عن نبي سابق (ويبدو أنه إبراهيم الخليل صلوات الله عليه)، فلم تكذب الآية ذلك المنقول لكنها أكدت أن الله هو من يقرر لكل أمة مناسكها، ثم أكدت للرسول أن يواصل دعوته إلى هدى الله غير مبال بمثل ذلك الكلام: (وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ).

***

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) هذه الآية وكذلك الآيتان اللاحقتان (55) و(69) توحي أن الخلاف والجدال لن ينقطع إلى يوم القيامة؛ حتى لا يتصور أحد من المسلمين أنه ما زال المجادلون أو المخالفون بحاجة إلى أن يسمعوا دليلاً معيناً أو جديداً توهماً أن سبب مخالفتهم كان لعدم اتضاح الصورة عندهم، وأنا كمسلمين سنظل غارقين معهم في جدل لا نهاية له، فآيات الله بينة والهداية من عنده ولذلك قال قبلها: (وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ).

فمن يسعى لنشر الهداية عليه أن يتحرك وفق المنهج القرآني الذي يلحظ جميع الاعتبارات،  ونلاحظ هنا الفرق بين تعامل آيات السورة مع سائر من  لديه ريب والتي تناولناها في بداية المقال، وبين تعاملها مع (المجادلين) و(المعاجزين) حيث كانت هجومية ضدهم ومشنعة عليهم: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ * كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ )، (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُنِيرٍ * ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ)، (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ).

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ)، يعبَّر عن الخضوع بالسجود، وهذه الآية توضح أن السجود لله والخضوع له هو الأمر المنسجم مع نواميس الكون، والخضوع يكون بتصديق رسله واتباعهم.

(هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ)... المروي أن هذه الآية تتحدث عن المتبارزين في غزوة بدر الكبرى، وقد تناولت المبارزة بصورة تقرر حقيقة البعث والعقاب والثواب، وعندما نتأمل قوله: (اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) مع قوله: (يُجَادِلُ فِي اللَّهِ) ففيه أن الجدال عنصر من عناصر الصراع التي قد تنتهي إلى مواجهة مسلحة وخصومة في نفس الفكرة؛ ما يعني أن من يجادل من الكافرين لن ينحصر نشاطه في الجانب النظري بل سيعمل ضد المسلمين بكل ما يمكنه حتى المواجهة المسلحة، ومن المشهور أن أسباب غزوة بدر ترجع إلى ظلم الكفار للمسلمين واضطهادهم حتى أخرجوا من ديارهم واستلبت حقوقهم وأموالهم، ولذلك كان إذن الله لهم بالقتال مبنياً على ذلك؛ قال الله تعالى: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ)، وقال: (ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ).

***

بعد ذلك دخلت الآيات الكريمة في موضوع الحج؛ ونلاحظ اكتناف الآيات التي تتحدث عن الحج بآيات الجهاد حيث جاء قبلها قوله: (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ... الآيات)، وبعدها قوله: (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ* أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ)، وفي هذا دلالة واضحة على ارتباط الجهاد بالحج وعودتِه وإقامته بشكل صحيح.

ونلاحظ أن الآيات دخلت إلى موضوع الحج عبر نقطتين:

الأولى: التشنيع على أولئك الذين مكنهم الله من المسجد الحرام فكفروا به وصدوا عن سبيله والوعيد لهم: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ).

الثانية: الحديث عن إبراهيم عليه السلام وارتباط البيت والحج به: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لاَ تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ).

هذا التسلسل فيه فائدة أن الولي على البيت والحج ينبغي أن يكون على منهاج إبراهيم الخليل صلوات الله عليه، ولذلك صور بعد ذلك بعض أعمال الحج صورة بديعة مقدماً لها في قالبها الإيماني بشكل له تأثيره العميق في وجدان الإنسان، إنه يصور الناس وهم يقبلون من كل مكان تلبية لنداء الحج الذي نادى به إبراهيم الخليل عليه السلام، جاءوا يذكروا اسم الله جاءوا يعظموا حرمات الله ويشكروه على ما رزقهم فيأكلون منها ويطعمون المحتاجين، كل ذلك وهم موحدون لله حنفاء غير مشركين على منهاج إبراهيم عليه السلام، إنه الحج الحقيقي بقيمه وأهدافه التي ضيعها الظالمون: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ * ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ * ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ *  لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ).

وهذا الكلام ليس له وقع إلا في قلوب المخبتين لله: (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ *الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاَةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ)، أما غيرهم من المجادلين والمعاجزين فلا يرجى منهم خير، وإنما يؤمل في المخبتين الأنقياء الصابرين المؤمنين المنفقين ولذلك تعلقت البشرى بهم.

ونلاحظ أن أمره لإبراهيم عليه السلام: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ) وكذا قوله في الآية التي قبلها: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لاَ تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) فيه أن الحج بحاجة إلى ولي ينادي له ويشرف عليه؛ ولذلك أعتقد أن الآيات التي تحدثت عن إبراهيم الخليل ترتبط بها الآيات التي في نهاية السورة والتي تأمر بني إبراهيم أن يجاهدوا في الله حق جهاده؛ يقول تعالى: (يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) وهذه الآية مرتبطة بقوله: (وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)؛ إن هؤلاء هم من أمر الله خليله إبراهيم أن يطهر بيته ويعده لأمثالهم.

ثم قال: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ) فأنتم لستم دخلاء أو فضوليين بل أنتم أحفاد إبراهيم سرتم على منهاجه وحملتم اسم الإسلام الذي سماكم به، وأنتم بإيمانكم واستقامتكم أولى الناس بإبراهيم: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) [آل عمران:68]، وأنتم الورثة الحقيقيون لإبراهيم عليه السلام.

ولذلك فإنه قال بعد الآيات التي تناولت موضوع الحج والشعائر: (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ)، وكلمة (خَوَّان) وإن كانت عامة في كل من تعددت خياناته، إلا أن السياق يشير إلى أن خيانة القيام على بيت الله تدخل دخولاً أولياً.

ثم قال: (لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) ومعنى الشهادة هنا غير المعنى المتبادر إلى بعض الأذهان فيمن يقتل في سبيل الله؛ بل هم من يأتي يوم القيامة إلى محكمة العدل الإلهي ليكون شاهداً: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا) [النساء:41]، (وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ) [الزمر:68] فهم الآمنون في ذلك اليوم الذي تصدرت السورة بالتخويف منه، وهم سبب لأمان الناس أيضاً في ذلك اليوم لمن شهدوا له بتلبية النداء.

(فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ)؛ يعني أنكم لا ناصر لكم إلا الله ولذلك يجب أن تعتصموا به وتستجيبوا له ليكون ناصركم، لأن الله ينصر من ينصره أي ينصر دينه؛ فنصره لا يكون إلا لمن يستحقه؛ لاحظ قوله قبلها: (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ)، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة يمثلان كناية لكل أوامر ونواهي الله البدنية والمالية.

وهذا حتى لا يأتي في ذهن أحد من هؤلاء الذين اجتباهم الله أن لهم حظوة عند الله لذواتهم دون القيام بما وجههم به، وهذا التفكير حصل لبعض ذرية إبراهيم وبعض اليهود والنصارى حتى قالوا: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة:18] مرادهم نحن المختصون بالله المقربون منه فرد عليهم: (قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ).

(يَأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لاَ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) هذه الآية فيها ضرب مثل يصور ويؤكد غلبة الله وقوته وقهره وكيف أن ذلك يتجلى حتى في أبسط مخلوقاته، وكل من يُدعى أو يعبَد أو يلجأ إليه من دون الله ضعيف، فهي تؤكد معنى الآية السابقة (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ) وتؤكد أن النصر لا يكون إلا من عنده، فمن يشرك بالله يكون حاله كما وصفه بقوله: (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ).

والحمد لله رب العالمين

الدلالات: