شهر الصبر والمصابرة

نشر بتاريخ: خميس, 24/05/2018 - 11:27م

قال الله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ فيما روي عن الإمام علي عليه السلام: قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم فِي آخِرِ جُمْعَةٍ مِنْ شَهْرِ شَعْبَانَ، فَحَمِدَ الله وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ:((أَيُّهَا النَّاسُ إنَّهُ قَدْ أَظَلَّكُمْ شَهْرٌ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ وَهُوَ شَهْرُ رَمَضَانَ، فَرَضَ الله عَزَّ وَجَلَّ صِيَامَهُ، وَجَعَلَ قِيَامَ لَيْلَةٍ مِنْهُ بِتَطَوُّعِ صَلاةٍ كَمَنْ تَطَوَّعَ سَبْعِينَ لَيْلَةً فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الشُّهُورِ، وَجَعَلَ لِمَنْ تَطَوَّعَ فِيهِ بِخَصْلَةٍ مِنْ خِصَالِ الْخَيْرِ وَالبِرِّ كَأَجْرِ مَنْ أَدَّى فَرِيضَةً مِنْ فَرَائِضِ الله عَزَّ وَجَلَّ فِيمَا سِوَاهُ، وَمَنْ أَدَّى فَرِيضَةً مِنْ فَرَائِضِ الله عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ كَمَنْ أَدَّى سَبْعِينَ فَرِيضَةً مِنْ فَرَائِضِ الله عَزَّ وَجَلَّ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الشُّهُورِ، وَهُوَ شَهْرُ الصَّبْرِ وَإنَّ الصَّبْرَ ثَوَابُهُ الْجَنَّةَ، وَهُوَ شَهْرُ الْمُوَاسَاةِ وَهُوَ شَهْرٌ يَزِيدُ الله تَعَالَى فِيهِ فِي رِزْقِ الْمُؤْمِنِ، وَمَنْ فَطَّرَ فِيهِ مُؤْمِناً صَائِماً كَانَ لَهُ عِنْدَ الله عَزَّ وَجَلَّ بِذَلِكَ عِتْقُ رَقَبَةٍ وَمَغْفِرَةٌ لِذُنُوبِهِ فِيمَا مَضَى، فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ الله لَيْسَ كُلَّنَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُفَطِّرَ صَائِمًا. فَقَالَ: إنَّ الله تَعَالَى كَرِيمٌ يُعْطِي هَذَا الثَّوَابَ مَنْ لاَ يَقْدِرُ إلاّ عَلَى مَذْقِةِ مِنْ لَبَنٍ يُفْطِّرُ بِهَا صَائماً، أَوْ بِشَرْبَةٍ مِنْ مَاءٍ عَذْبٍ أَوْ تُمَيْرَاتٍ لاَ يَقْدِرُ عَلَى أَكْثَرِ مِنْ ذَلِكَ، وَمَنْ خَفَّفَ فِيهِ عَنْ مَمْلُوكِهِ خَفَّفَ الله عَزَّ وَجَلَّ حِسَابَهُ، فَهُوَ شَهْرٌ أَوَّلُهُ رَحْمَةٌ، وَأَوْسَطُهُ مَغْفِرَةٌ، وَآخِرَهُ إجَابَةٌ وَعِتْقٌ مِنَ النَّارِ، وَلاَ غِنَى بِكُمْ عَنْ أَرْبَعِ خِصَالٍ: خَصْلَتَانِ تُرْضُونَ الله تَعَالَى بِهِمَا، وَخَصْلَتَانِ لاَ غِنَى بِكُمْ عَنْهُمَا.

أَمَّا اللَّتَانِ تُرْضُونَ الله تَعَالَى بِهِمَا، فَشَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إلاَّ الله وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَأَمَّا اللَّتَانِ لاَ غِنَى بِكُمْ عَنْهُمَا فَتَسْأَلُونَ الله تَعَالَى فِيهِ حَوَائِجَكُمْ وَالْجَنَّةَ، وَتَسْأَلُونَ الله تَعَالَى العَافِيَةَ وَتَتَعَوَّذُونَ بِهِ مِنَ النَّارِ)).

فشهر رمضان مدرسة إيمانية عملية يتزود فيها المؤمنون بالتقوى أدائهم فريضة الصيام وما يصاحبها  من تلاوة القرآن وصلاة الليل، والكف عن المفطرات نهاراً وما ينتج عن ذلك من خمول للجسم وتعب ونصب فالصائم يكف عن المأكل والمشرب، والمنكح، ويكف عن المحرمات بكل جوارحه يكف لسانه، يحفظ فرجه، يغض بصره، يمسك عن فعل الشر ، يسعى في الخير، كل هذه الطاعة بحاجة إلى الصبر ليبلغ الإنسان إلى المطلوب والحكمة من صيامه فحين يظمأ ويجوع نهار رمضان يصبر حتى وقت الإفطار، يسهر الليل ليتلوا القرآن، ويصلي ويدعو ويصل الإخوان فلا ينام إلا اليسير فهو بحاجة إلى الصبر، ينام قليلاً في النهار مستعيناً به على أداء عمله وواجبه، وهو جائع وضمآن، فهو بحاجة إلى الصبر، وحين يغدو في رمضان وقد تغيرت طباع الناس وأخلاقهم يصبر على عشرتهم، وإساءتهم، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ: «من اصبح صائماً فشتم فقال: إني صائم سلام عليكم قال الرب عزوجل: استجار عبدي بالصوم من عبدي، أجيروه من ناري وأدخلوه جنتي».

فحقاً شهر رمضان شهر الصبر، الصبر على الصيام، والصبر على القيام، والصبر على فعل الخير والطاعات، الصبر  على الإكثار من فعل الخيرات، والتقليل في الملذات والشهوات،  فمن أول الشهر إلى آخره يحتاج الصائم إلى الصبر، وعليه بالصبر لينتفع بهذه المدرسة الإيمانية السنوية لمدة شهر كامل ليتأهل بعدها على مدار العام على أن يكون ذلك المؤمن التقي الصابر الزاهد الكريم المجاهد الواصل لما أمر الله به أن يوصل فمن صبر ظفر.

والتحلي بالأخلاق الفاضلة بحد ذاتها بحاجة للصبر في سائر الأيام ككظم الغيظ، والعفو عن الناس، ومعاملة الناس بالحكمة، وتحمل أذاهم، والصبر عليهم، ويكون التحلي بها في رمضان حال الصيام ألزم وأحوج، قال الله تعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾، قال بعض المفسرين: وما يلقاها الضمير يعود على خصلة الدفع بالتي هي أحسن، أي أن الذي يدفع بالتي هي أحسن هو من أهل الصر ومن أهل الحظ العظيم.

فالصبر لابد أن يكون ملازماً للمرء المسلم في جميع حياته في أدائه للتكاليف الشرعية واجتنابه للمنهيات الشرعية، فكل ذلك بحاجة للصبر لما جاء في الحديث النبوي الشريف قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ: «إذ ا جمع الله الخلائق يوم القيامة نادى مناد أين أهل الصبر، فيتقدم ناس وهم يسير فينطلقون إلى الجنة سراعاً، قال: فتلقاهم الملائكة فيقولون إنا نراكم سراعاً إلى الجنة فمن أنتم؟ فيقولون: نحن أهل الصبر، فيقولون: وما صبركم؟ فيقولون: كنا نصبر على طاعة الله، وكنا نصبر عن معاصي الله عزوجل، فيقال لهم: ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين».

والصبر منزلته عظيمة، ومنزلة الصبر من الإيمان، منزلة الرأس من الجسد، ولا خير في جسد لا رأس معه.

لذلك كان جزاء الصبر الجنة كما في الحديث النبوي الشريف، فالصبر في رمضان ثوابه كبير وجزاؤه جزيل لأن الصائم في نهار رمضان وما يعتريه من الجوع والعطش والتعب والنصب تعارضه أعمال الخير فهو بحاجة أن يصبر ويُصَبِّر نفسه على فعلها ومما يساعدها على فعلها ويساعده على الصبر فعل الطاعات وأعمال البر إيماناً واحتساباً، أي عملها تصديقاً بثواب الله تعالى وأجره وطالباً من الله الأجر والثواب، لذلك رغب الرسول الكريم في صيام رمضان وقيامه بقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ: «من صام رمضان وقامه إيماناً واحتساباً غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر».

فليحرص الصائم على تصحيح نيته إخلاصاً وإيماناً واحتساباً ولا يمر عليه هذا الشهر مرور الكرام يصوم لإسقاط واجب وإنجاز عمل، يحذر هذا الروتين الذي قد يخرج منه صاحبه بقليل الأجر والثواب مع ما يصاحبه من محبطات ومنقصات للأجر والثواب، فإذا صام العبد يومه ليستحضر استجابته لأوامر الله وأنه مؤمن مصدق بها طالباً للثواب والأجر صغيره وكبيره، فلتكن روحية الصائم ونفسيته يقظة لصيام هذا الشهر، مؤمنة محتسبة، فمن كانت روحيته ونفسيته كان المسارع للخيرات لا يكل ولا يمل، يصوم النهار ويقوم الليل، يقضي حوائج المحتاجين، ويساعد المساكين، ومن كان هذه حاله نال رضوان الله وثوابه، وخرج من مدرسة رمضان مدرسة التقوى والصبر بمؤهلات تقربه من الله وإلى الله.

والصبر رأس الإيمان، لذلك أمرنا الله بقوله: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾، وقال: ﴿وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾.

والصبر أنواع: منها ما تقدم وهو الصبر على طاعة الله سبحانه، وهو عام، والصبر عن معاصي ومحارم الله سبحانه، والصبر في حالة الفقر والشدة، والصبر في حالة المرض والسقم والوجع، والصبر وقت القتال وجهاد العدو والغزاة، والصبر حال فقد الأهل والأحبة، والصبر حال فقدان الأموال والثمار.

وقد تجتمع هذه الحالات أو أكثر فيفوز بظفر الصابرون قال الله تعالى: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾[البقرة: 177].

وقال تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ *  الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾[البقرة: 55- 57].

فما أحوجنا إلى الصبر والمصابرة وخصوصاً وأنَّا نمر بحرب وغزوٍ من قبل تحالف الشر والفساد وعلى رأسها أمريكا وإسرائيل وآل سعود وحلفائهم، حرب عسكرية، وحرب اقتصادية، وحرب ثقافية، فنحن بحاجة للصبر والمصابرة والتواصي بالصبر، لذلك كان دعاء المقاتلين في سبيل الله وهم قلة مستضعفون: ﴿رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾[البقرة: 250]، وهذا من عوامل النصر ومن عوامل التحلي بالصبر وهو الدعاء بإفراغ الصبر علينا مجاهدين في مختلف الجبهات.

وكان من دعاء أولئك الذين ابتلوا ببطش فرعون أن قالوا: ﴿رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ﴾[الأعراف: 126].

ولفضل الصبر وأثره وفائدته ذكر الله سبحانه وأقسم على ذلك بالعصر: ﴿إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾ هذا تأكيد منه سبحانه أن الإنسان في خسارة وخسران الذي يمثل الرَدى في الهاوية والانحطاط إلى الدرك الأسفل، واستثنى بقوله: ﴿إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ وكأنه ذكر أسباب الفلاح والربح الحقيقي والإيمان والعمل الصالح وذكر سببين من أسباب دوام الإيمان والعمل الصالح ألا وهو التواصي بالحق، والتواصي بالصبر، وكذلك في آيات شتى.

فعلينا أن نلتزم بالصبر كعبادة وقربة نتقرب بها إلى الله ونتواصى به في  هذا الشهر الكريم الذي سماه النبي الأكرم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ بشهر الصبر.

وخير ختام نختم به موضوعنا هو بالنداء الإلهي للمؤمنين الذين يأمرهم ويلزمهم بالإلتزام بهذا الخلق العظيم قائلاً لهم: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾[آل عمران: 200].

الدلالات: