الاحتكار ومخاطره وأضراره وحكمه

نشر بتاريخ: ثلاثاء, 01/05/2018 - 9:37ص

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين.وبعد..

فقد يسرت الشريعة الإسلامية للناس سبل التعامل بالحلال لكي تكون أجواء المحبة سائدة بين الأفراد ولكي تبقى الحياة سعيدة نقية لا يعكر صفوها كدر ولا ضغينة من أجل هذه الأهداف السامية حرم الإسلام الربا ﴿وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ وحرم أكل أموال الناس بالباطل ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾ وحرم أكل مال اليتيم ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾.

وحرم الغش »من غشنا فليس منا« وحرم الاحتكار لما فيه من تضييق على الناس يقول صلى الله عليه وعلى آله وسلم : »لا يحتكر إلا خاطئ«.

كما أن الاحتكار ركيزة من ركائز النظام الرأسمالي الحديث, وسمة من سمات التعامل الاقتصادي في معظم الشركات إن لم يكن في كلها رغم أنه يحمل في طياته بذور الهلاك والدمار لما يسببه من ظلم وعنت وغلاء وبلاء كان لزاما علينا أن نبين معنى الاحتكار ومفهومه ومخاطره وأضراره على المجتمع وعلى الأفراد وحكم الشرع ونظرته إلى هذه الآفة باعتبار أن الشريعة الإسلامية هي السبيل الوحيد لمعالجة كل الاختلالات التي تتعرض لها المسيرة الإنسانية.

 الاحتكار لغة:

عرفت مادة (حكر) في قاموس لسان العرب لابن منظور كما يتضح فيما يلي:

أولاً: الحَكْر بفتح الحاء وسكون الكاف ادخار الطعام للتربص .وصاحبه محتكر

ثانياً: الحَكَر والحُكَر بفتح الحاء في الأول وضمها في الثاني, وفتح الكاف فيها بمعنى ما احتكر تقول: إنهم ليحتكَرون في بيعهم ينظرون ويتربصون, وإنه يحِكْر بكسر الحاء وسكون الكاف –لا يزال لحبس سلعته ... والإسم منه الاحتكار .

ومنه الحديث أنه نهى عن الحكرة وأصل الحكرة الجمع والإمساك.

ففي الأول معنى الحِكْر هو ادخار الطعام ونحوه واحتباسه وقت الغلاء . ولا يخفى ما يحدثه هذا الحبس من الضرر.

وفي الثاني معنى الحَكَرُ والحِكَرُ هو أن المحتكرين يحبسون الطعام ينتظرون ويتربصون به الغلاء حتى يبيعون بالكثير من شدة  احتكاره.

فقد اتضح أن معاني مادة (حَكَر) تعني جمع الطعام ونحوه وحبسه عن الناس.

قال الجوهري:احتكار الطعام جمعه وحبسه يتربص به الغلاء وهو الحكرة بالضم.

وقال ابن فارس:الحاء والكاف والراء أصل واحد وهو الحبس والحكرة حبس الطعام منتظراً لغلائه.

وقال الفيروزبادي:الحكر الظلم وإساءة المعاشرة وبالتحريك ما احتكر أي احتبس انتظارا لغلائه وفاعله حكر.

وقفة تحليلية مع النصوص اللغوية:

نلاحظ من رصد كلمات اللغويين هنا ما يلي:

أولاً: أن الجذر اللُّغوي للمادة (ح,ك,ر)ترجع إلى الحبس.

ثانياً: يظهر من كلمات اللغويين ارتباط الاحتكار بالطعام حيث لاحظنا حضور هذا الأمر بشكل واضح إلا أن ما يبدو من بعض الكلمات الأخرى لهم عدم ارتباطه بذلك .بل هو عام حيث كان الحديث عن مطلق السلعة, ومن هنا ذهب البعض إلى أن المدلول اللغوي لكلمة الحكرة والإحتكار لا يختص بالطعام, وإنه إنما ذكر لغلبة حصول الاحتكار في الطعام ومطلق ما يؤكل في ذلك الزمان والصحيح أن كلمة الطعام في بعض الأحاديث قد أطلقت في اللُّغة على ما هو أعم من البر (القمح) وكذلك الأمر في الكتاب أيضاً.

ففي اللغة قال الفراهيدي :الطعام اسم جامع لكل ما يؤكل وكذلك الشراب لكل ما يشرب وفي الكتاب قد استعملت كلمة الطعام في مطلق القوت كما في قوله تعالى ﴿ لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ﴾ فقد استعمل في المن والسلوى والخبز النقي مع اللحم, وقوله تعالى: ﴿كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِـلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ وقوله تعالى ﴿لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ﴾ وقوله تعالى ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ﴾ ففي هذه الآيات استعملت كلمة الطعام في غير البر (القمح).

 الاحتكار في الاصطلاح الفقهي:

نقصد بالاصطلاح الفقهي هنا ما جاء في تعريف الاحتكار كلمات الأئمة والفقهاء فقد عرفه الإمام الهادي إلى الحق يحي بن الحسين عليهما السلام في كتابه الأحكام في الحلال والحرام بقوله:وإنما معنى الاحتكار أن يكون في حبسه أي الطعام شيء من الضرر.

ويفهم من شرح الأزهار أن معنى الاحتكار هو حبس قوت الآدمي أو البهيمة مما فضل عن كفاية المحتكر وكفاية من يمون إلى الغلة أو إلى سنة إن لم تكن غلة, متربصاً به الغلاء مع حاجة الآخرين إليه, ولا وجود للعين إلا مع محتكر مثله, ولا فرق بين أن يكون من زرعه أو شراء من المصر أو من البادية, وسواء قصد الاحتكار عند الشراء أم لا.

وعرفه الكاساني الحنفي بقوله: أن يشتري طعاما في مصر ويمتنع عن بيعه وذلك يضر بالناس

وعرفه النووي في المجموع (الفقه الشافعي) بعد تقييده بالأقوات بأن يبتاع في وقت الغلاء ويمسكه ليزداد في ثمنه.

أما الإمامية فقد عرفه الشيخ الطوسي وغيره بأنه حبس الحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن من البيع مع الحاجة الشديدة إليها.

ومن خلال هذا العرض يتبين أن المعنى المصطلح للاحتكار لا يتطابق مع المعنى اللغوي, نعم هو من أفراده ومصاديقه وتطبيقاته.

التعريف المختار للاحتكار:

الاحتكار هو حبس مال أو منفعة أو عمل، والامتناع عن بيعه وبذله حتى يغلو سعره غلاءً فاحشاً غير معتاد بسبب قلته أو انعدام وجوده في مضانه مع شدة حاجة الناس أو الدولة أو الحيوان إليه، ويستفاد من هذا التعريف ما يلي:-

أن الاحتكار هو حبس ما يحتاج إليه الناس سواء كان طعاماً أو غيره، مما يكون في احتباسه إضراراً بالناس، ولذلك فإنه يشمل المواد الغذائية والمشتقات النفطية والأدوية والثياب، ومنافع الدور والأراضي، كما يشمل منافع وخبرات العمال وسيأتي في عهد أمير المؤمنين علي عليه السلام لمالك الأشتر عندما قال: (واحتكاراً للمنافع وتحكماً في البياعات).

وأساس هذا الأمر: - أن كل ما لاتقوم مصالح الأمة أو الدولة إلا به فهو واجب تحصيله.

أنه لم يفرق في الاحتكار بين كون السلعة قد اشتريت من الخارج واستوردت، أم اشتريت من الداخل وحبست انتظاراً للغلاء، أو كانت إنتاجاً ذاتياً من محل المحتكر.
شمل هذا التعريف كل ما يضر حبسه بالإنسان والدولة والحيوان.
أظهر التعريف ظاهرة (الحاجة) التي هي علة تحريم الاحتكار، فليس كل ظرف من الظروف يكون فيه حبس هذه الأشياء، احتكاراً، وإنما يكون احتكاراً في ظرف الحاجة الذي يقع فيه الضرر، فإذا لم يوجد مثل هذا الظرف كان الإدخار احتباساً لأنه تصرف في حق الملكية بل قد يكون واجباً إذا كان اختزاناً احتياطياً.

حكم الاحتكار:

بصرف النظر عن شروط الاحتكار وقيوده المأخوذة فيه شرعاً فقد اتفق العلماء على أن الحكمة في تحريم الاحتكار هو رفع الضرر عن عامة الناس إليه ولم يجدوا غيره أجبر على بيعه دفعاً للضرر عن الناس.

والدليل على حرمة الاحتكار:

  قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ﴾[النساء:29] وقوله تعالى: ﴿كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ﴾ ومن الواضح أن الاحتكار يجعل المال خاصاً في تداوله بين الأغنياء دون الفقراء نظراً لما يستدعيه من ارتفاع الأسعار بما يعجز معه الفقير عن الشراء ، وقوله تعالى: ﴿وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا﴾[الفجر:20]  فهذه الآيات القرآنية مجموعها تدل دلالة واضحة على تحريم كل ثقافة حكر وجمع للمال دون نظر إلى الفقراء والمساكين، ومن الواضح أن الاحتكار من مظاهر ما تحدثت عنه هذه الآيات.

 

ومن السنة النبوية: 

قوله صلى الله عليه وآله وسلم: »الجالب مرزوق، والمحتكر ملعون« رواه أئمتنا عليهم السلام في كتبهم، ورواه ابن ماجة في سننه.

فهذا الحديث ظاهر في لعن المحتكر واللعن لابد وأن يفهم في سياق التحريم.

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: »لا يحتكر الطعام إلا خاطئ« رواه أئمتنا عليهم السلام، كما رواه مسلم، والذي يفهم من كلمة (خاطئ) هو الآثم.

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: »من احتكر طعاماً أربعين يوماً فقد برئ من الله عزوجل وبرئ الله منه« رواه في الشفاء، وهو في مسند أحمد بن حنبل.

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: »من احتكر طعاماً يريد به الغلاء فقد برئ من الله وبرئ الله منه« وقوله صلى الله عليه وآله وسلم »بئس العبد المحتكر إن رخص الله الأسعار حزن وإن أغلاها فرح« وفي رواية أخرى »إن سمع برخص ساءه وإن سمع بغلاء فرح«.

 وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: »يحشر الحكارون وقتلة النفس في درجة واحدة ومن دخل في شيء من أسعار المسلمين ليغليه عليهم كان حقاً على الله أن يقعده بمعظم من النار يوم القيامة« رواه أحمد في مسنده، وهو في الشفاء.

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: »من احتكر على المسلمين طعامهم أربعين يوماً ضربه الله بالجذام والإفلاس« رواه في الشفاء، ورواه في مسند أبي داود الطيالسي.

وروى الإما مزيد بن علي عن آبائه عن علي عليهم السلام أنه قال: »جالب الطعام مرزوق والمحتكر عاصٍ ملعون« فقد دلت هذه الأخبار على أن الاحتكار لا يجوز وأنه محرم محظور.

وما جاء في عهد الإمام علي عليه السلام لمالك الأشتر: (وَاعْلَمْ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ فِي كَثِيرٍ مِنْهُمْ ضِيقاً فَاحِشاً وَشُحّاً قَبِيحاً وَاحْتِكَاراً لِلْمَنَافِعِ وَتَحَكُّماً فِي الْبِيَاعَاتِ وَذَلِكَ بَابُ مَضَرَّةٍ لِلْعَامَّةِ وَعَيْبٌ عَلَى الْوُلَاةِ فَامْنَعْ مِنَ الِاحْتِكَارِ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّـهِ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَآلِه مَنَعَ مِنْهُ وَلْيَكُنِ الْبَيْعُ بَيْعاً سَمْحاً بِمَوَازِينِ عَدْلٍ وَأَسْعَارٍ لَا تُجْحِفُ بِالْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْبَائِعِ وَالْمُبْتَاعِ فَمَنْ قَارَفَ حُكْرَةً بَعْدَ نَهْيِكَ إِيَّاهُ فَنَكِّلْ بِهِ وَعَاقِبْهُ فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ).

مخاطر الاحتكار وأضراره:

يؤدي الاحتكار كما يرى اقتصاديون إلى ظهور العديد من الأخطار سواء على الفرد أو الدولة ومن ذلك أن الاحتكار يؤدي إلى قتل روح المنافسة الشريفة بين الأفراد والدول والتي هي السبيل إلى إتقان العمل وتحسين مستوى الإنتاج.

كما أن الاحتكار قد يدفع القائم به إلى تبديد جزء من الموارد والتخلص منها إما حرقاً أو رمياً، أو غرقاً في البحر، وغير ذلك خوفاً من انخفاض الأسعار في السوق (المحلية أو العالمية)كما فعلت أمريكا وبعض الدول المنتجة للقمح في فترات سابقة متعددة.

كما أن الاحتكار يكون سبباً في انتشار الحقد والكراهية بين الأفراد مما يساعد على تفكك المجتمع وانهيار العلاقات بين أفراده، ويترتب عليه العديد من الأمراض الاقتصادية والاجتماعية مثل البطالة، والتضخم، والكساد، والرشوة، والمحسوبية، والنفاق، والسرقة، والغش، فهذه أهم مخاطر الاحتكار.

أما الأضرار التي تنجم عن الاحتكار والضرر البليغ بالمجتمع فهو حيث يكون سبباً لفقدان عدالة التوزيع بين أبناء الأمة، كما أنه يرفع من ضوابط العدالة الاجتماعية ومبدأ تكافؤ الفرص، ويؤدي كذلك إلى اختلال سياسة التوازن التجاري والمالي والاقتصادي، لذلك ينهى الإسلام أتباعه عن الاحتكار  باعتباره سيعمل على تعطيل هذه القوة الفعالة في حياة الأمة والشعوب والقيام بواجبها.

من ناحية أخرى فإن المحتكر الجشع إنما يضر بمصالح الأمة حيث يعمل باحتكاره على إشاعة السوق السوداء في المجتمع وبالتالي سيؤدي إلى استغلال لحاجات الناس وعدم الاهتمام بشؤون المسلمين وأمرهم في الوقت الذي نجد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: »من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم«.

دخول الحاجيات الضرورية كالأدوية والمشتقات النفطية وغيرها ضمن الاحتكار:

الاحتكار عام لكل ما يُشكِّل حاجة نوعية لعامة الناس التي تقوم عليها حياتهم ومعاشهم وتعتبر من العناصر الأساسية التي يتوقف عليها نظام اجتماعهم.

لأن الأحاديث المطلقة تفيد ذلك، وحملها على إطلاقها هو الذي يناسب ما طرأ على الاحتكار من مستجدات ومتغيرات في العصر الحديث، ولذلك يدخل في هذه الحاجات النوعية الأدوية والشتقات النفطية وغيرها من الحاجات الضرورية للمجتمع والذي يتوقف عليها استمرار الحياة والرخاء.

مسئولية الدولة في مواجهة الاحتكار:

لا يترك الإسلام هذا الخطر الذي يدمر المجتمع ويكون سبباً لآفات كثيرة تهدد حياة الناس وتنشر الفساد، فلقد وضع العديد من الوسائل التي تعالج هذا المرض إذا ظهر وانتشر في المجتمع، فمن الوسائل لمواجهته يجب على الدولة أن تتدخل لحماية المواطنين من عبث العابثين ومصاصي دماء الشعوب، وذلك باتخاذ الإجراءات المناسبة الكفيلة بقطع دابر الاحتكار وإعادة الثقة والطمأنينة إلى نفوس المواطنين.

دور الدولة في مواجهة الاحتكار:

الدولة هي الكيان الأكبر ومن ثَمَّ يجب أن يكون لديها الآليات القادرة على مواجهة كل الاحتمالات، وذلك من خلال توفير السلع الضرورية التي أصبحت نادرة في السوق نتيجة احتكار بعض الناس لها، فترفع الدولة الإنتاج ليزيد المعروض من هذه السلع فينخفض الثمن، فيخسر المحتكرون، ويفشلون فيما كانوا يسعون إليه.
قيام الدولة بتشجيع التجارة والتبادل مع الدول الأخرى لزيادة المعروض من السلع النادرة.
التسعير، وذلك من خلال تحديد أسعار للسلع وإلزام التجار بها بشكل صارم بحيث لا يظلم البائع أو المشتري مع أخذ مشورة أهل الخبرة والعدل والأمانة، ولأن الاحتكار نوع من التلاعب بالأسعار واستغلال حاجة المحتاجين فالمصلحة المتعلقة بمجموع المستهلكين تقتضي تدخل الدولة بالتسعير كعقوبة على هؤلاء المستغلين الجشعين.

وقد نص أئمتنا عليهم السلام في كتبهم على أن المحتكر يكلف البيع في القوتين فقط، لا التسعير فإن امتنع عن البيع فللإمام أو الحاكم أن يبيعا عنه بثمن المثل، فأما سائر المبيعات فالتسعير فيها جائز كاللحم، والسمن، ونحوهما، رعاية لمصلحة الناس ودفع الضرر عنهم، ويحمل ما ورد من النهي عن التسعير إن صح التسعير على أهل العفة والتقى، كما ذكر ذلك الإمام الهادي عليه السلام، فقد ذكر محمد بن سعيد اليرسمي صاحب الإمام الهادي عليه السلام أن الإمام الهادي عليه السلام كان يصلي بالناس الخمس الصلوات ثم ينهض فيدور في السكك وينهي عن المنكر ويأمر بالمعروف، ويقف على أهل البضاعة فيأمرهم أن لا يغشوا بضاعتهم، ويأمرهم بإيفاء المكيال والميزان، فقالوا: أليس التسعير حراماً؟ فقال عليه السلام: أليس الغش حراماً، والظلم كذلك؟ قالوا: بلى، فقال عليه السلام: إنما نهي التسعير على أهل التقى وأهل العفة فإذا ظهرت الظلامات والبخس في البيوعات والنقص وجب على أولياء الله ينهون عن الفساد ويأخذون على يد الظالم، من خلال إنزال العقاب الرادع حتى يتحقق الردع العام والخاص.

أما الردع العام؛ فبحيث لا يسلك هذا المسلك تجار آخرون وحتى لا يحيق بهم ما نزل بالمحتكرين فلا يسلك مسكلهم أي شخص آخر.

أما الردع الخاص؛ فبحيث لا يعودون لممارسة هذا السلوك مرة أخرى، فإن لم يرتدعوا ولم يستجيبوا فقد ورد عن أمير المؤمنين علي عليه السلام أنه قال لرجل محتكر: (لا تحتكر الطعام وإلا والله أنهبت مالك) قال الراوي: فوالله لقد رأيته أنهب ماله وكتب ممن نهب منه.

وروي أن أمير المؤمنين عليه السلام أحرق طعام المحتكر فقال: لو ترك لي مالي لربحت مثل عطاء أهل الكوفة، وكان فيها مائة ألف مقاتل.

وروي أنه عليه السلام: أخذ طعام المحتكر وأحرق بعضه وأخذ بعضه إلى بيت المال.

وما تقدم في العهد العلوي لمالك الأشتر: (فَمَنْ قَارَفَ حُكْرَةً بَعْدَ نَهْيِكَ إِيَّاهُ فَنَكِّلْ بِهِ وَعَاقِبْهُ فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ).

كذلك منع التصدير إذا أضر بالناس: لا يجوز للدولة أن تصدر أي مادة أساسية ضرورية تمس حاجة الناس إليها ولاسيما ما يتعلق منها بالغذاء، والكساء، والدواء، والمشتقات النفطية؛ لأن التصدير إذا أضر بالعامة كان في معنى الاحتكار من حيث الأثر.

إذا لم تقم الدولة بمسئوليتها تجاه الاحتكار فهي آثمة ومقصرة وبعيدة عن تحقيق العدل، وذلك من باب »كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته«.

الخلاصة في الاحتكار

الاحتكار في الفقه الإسلامي حرام.
ولا يشترط في تحريم الاحتكار قصد زيادة الثمن بل يحرم في كل غرض لا يعود لمؤونة نفسه وعياله مما يكون ادخاراً، ولابد من عدم توفر السلعة في السوق حتى يصدق الاحتكار المحرم.

كما يشمل التحريم الاحتكار المضر، والاحتكار المفضي إلى التضييق على الناس بمعنى سلب حقها العام في توافر السلع الضرورية والحاجية.

ولا يشترط في تحريمه كون المحتكر عليه مسلماً بل يكفي كونه محترم النفس والمال كما نص على ذلك أئمتنا عليهم السلام ، كما لا يلزم أن يكون المحتكر شخصاً واحداً بل يستوعب الفرد والشركات والجماعات.

أما مجال الاحتكار وموارده فهي كل أمر من طعام، أو دواء، أو مشتقات نفطية، أو غيرها، يكون في احتكارها ضرر على الناس.

لا فرق بين أن تكون السلعة المحتكرة منتجة إنتاجاً محلياً أو مشتراة من السوق الداخلية أو مستوردة من الخارج فالكل احتكار ما دامت النتيجة واحدة وهي لحوق الضرر.
الاحتكار لا يحرم إلا في حال كان مضراً، فإن لم يكن مضراً فإنه ربما كان مطلوباً، وهذا ما صنعه نبي الله يوسف عليه السلام في أهل مصر وجنب البلد شر مجاعة لو وقعت لأتت على الأخضر واليابس وذلك بالإدخار زمن الرخاء.

الدلالات: