حقيقة الصيام

نشر بتاريخ: سبت, 03/06/2017 - 10:15م

الصوم عبادة مثل سائر العبادات التي أراد الله منها لعباده أن يحققوا من خلالها البناء الروحي بقربهم من الله سبحانه والعمل في واقع حياتهم، فمن العبادات ما فرض على جهة الاستمرار ليظل العبد مستمداً من الله العون والتوفيق معطاءً في الحياة، فكلما كانت العبادة أكثر عطاء في الحياة كانت أكثر ثواباً وأجزل أجراً قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَر﴾.

ويروى أنه وجد في صحف إبراهيم (إنما أقبل الصلاة ممن تواضع لعظمتي وقطع نهاره في ذكري ولم يبت مصراً على خطيئة ولم يتعاظم خلقي، يطعم الجائع ويكسي العريان، ويؤوي الغريب ويرحم المصاحب).

وقال تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا﴾ ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا﴾.

وقال سبحانه: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ وقال سبحانه وتعالى عن الصيام : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون﴾ فالتقوى المقصد الكبير والثمرة العظيمة التي تبني الشخصية الإيمانية المعطاءة الفعالة للخير.

ومن هنا يتضح ويظهر جليًّا حقيقة عبادة الصيام التي لا تقف عند حد الامتناع عن الأكل والشرب والجماع في أوقات مخصوصة في شهر مخصوص فحسب بل تتعدى هذه المرحلة المادية التي تدرب العبد على الانضباط والإلتزام بتوجيهات وإرشادات وأوامر ربه سبحانه وتعالى، وذلك من خلال التزامه الفعلي والتركي للماديات إلى مرحلة الرقابة الذاتية الداخلية التي تمنعه من كل ما يسخط الله وكل ما نهى عنه وإحساسه وشعوره بل يقينه بالمراقبة الربانية يجعل العبد ذا شخصية فعالة للخير ممسكة للشر، فهكذا نجد حسن التشريع العبادي في ديننا أنه جعل العبادات مهذبة للإنسان داعية له للبذل والعطاء ومن ثَمَّ كان العمل لطلب الحلال عبادة، وكان التعلم والتعليم عبادة، وكان الجهاد في سبيل الله عبادة، لما له من أثر في الدفاع عن الإنسان وقيمه الكبرى وعموم نفعه للآخرين.

فحقيقة الصيام هو الذي يثمر وينتج حالة التقوى قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: »من صام يوماً من رمضان عف فيه طرفه ولسانه وفرجه وبطنه أوجب الله له الجنة«.

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: »من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه« وقال صلى الله عليه وآله وسلم: »من لم يدع الخنا والكذب فلا حاجة لله في أن يدع طعامه وشرابه« ويقول صلى الله عليه وآله وسلم : »كف اللسان عن أعراض الناس صيام« فينبغي أن يكون الصائم بعيداً بعداً كبيراً عن الشر على كافة مستوياته فعَّالًا للخير بكل جوانبه المعطاءه التي يبتعد عنها جملة من الناس.

فمثلاً على المستوى العبادي الذي يقضيه طوال شهر رمضان المبارك يكون كل الوقت مفعماً بالطاعات ومليئاً بالأعمال الصالحات، وفي هذا الجانب يعمم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم برنامجاً للصائم في هذا الشهر الكريم يستطيع فعله الشاب والكهل والرجل والمرأة والعالم والقاضي والحاكم والرئيس والتاجر والعامل والغني والفقير، يقول صلى الله عليه وآله وسلم : »من هجم عليه شهر رمضان صحيحاً سليماً فصام يومه، وصلى ورداً من ليله، وحفظ فرجه ولسانه، وكف يده، وغض بصره، وحافظ على صلواته مجموعة، وشهد جمعه، ثم بكر إلى عيده حتى يشهده فقد استكمل الأجر، وصام الشهر وأدرك ليلة القدر، وانصرف بجائزة الرب عزوجل« وبهذا الرسم لبرنامج الصيام في رمضان التي ركز على بعض الأمور العبادية وهي كالتالي:

1- الصيام. 2- الورد الليلي من النوافل. 3- حفظ الجوارح عن فعل الأذى. 4- المحافظة على صلاة الجماعة. 5- السعي إلى صلاة الجمعة. 6- التبكير إلى صلاة العيد.

وبهذه الأمور يستحق الصائم الأجر الكبير والفوز بالمغفرة والرضوان، ومما يساعد المؤمن في اغتنام صيام شهر رمضان المبارك هو معرفته بفضله، يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في خطبة خطبها في آخر جمعة من شهر شعبان: »ياأيها الناس إنه قد أظلكم شهر فيه ليلة خير من ألف شهر وهو شهر رمضان، فرض الله عزوجل صيامه وجعل قيام ليلة منه بتطوع صلاة كمن تطوع سبعين ليلة فيما سواه عن الشهور، وجعل لمن تطوع فيه بخصلة من خصال الخير والبر كأجر من أدى فريضة من فرائض الله عزوجل فيما سواه، ومن أدى فريضة من فرائض الله عزوجل فيه كمن أدى سبعين فريضة من فرائض الله عزوجل فيما سواه من الشهور، وهو شهر الصبر، وإن الصبر ثوابه الجنة، وهو شهر المواساة وهو شهر يزيد الله تعالى فيه في رزق المؤمن، ومن فطر فيه مؤمناً صائماً كان له عند الله عزوجل بذلك عتق رقبة ومغفرة لذنوبه فيما مضى ... «  إلى أن قال: »فهو شهر أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره إجابة وعتق من النار«.

وبهذا ظهر من الحديث النبوي الشريف أن شهر رمضان شهر مضاعفة الأجور، وشهر مواساة المحتاجين والمعسرين، وشهر يكثر فيه رزق المؤمن، وشهر الرحمة والمغفرة والإجابة والعتق من النار، أي أن هذا الشهر شهر البذل والعطاء، شهر الصبر والإحسان، شهر الجود والكرم، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في شهر رمضان؛ لذلك روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: »يبعث الله منادياً ينادي من غروب الشمس إلى طلوع الفجر كل ليلة "من ليالي رمضان"  فيستجاب له، هل من سائل يعط سُؤَاله، هل من مستغفر يغفر له، هل من تائب فيتاب عليه، ولله عتقاء عند وقت الفطر في كل ليلة من رمضان«.

ونحن بدورنا نقول للمعتدين أقصروا ولا تصروا، نقول للظالمين: أقصروا ولا تظلموا، نقول للعصاة: كفوا وتوبوا إلى الله توبة نصوحاً، وندعوا أهل الخير أن يكثروا من فعل الخير، فيا أهل الأموال ويا أصحاب التجارة هذا موسم التجارة والمرابحة مع الله فهلموا لفعل الخير فهؤلاء النازحون، وأولاءِ أسر الشهداء، وأولئكم الجرحى والفقراء والمساكين، تجارتكم الرابحة مع الله سبحانه، ألا فلا يفوتكم هذا الفضل العظيم جاهدوا بأموالكم وأنفقوا في سبيل الله سبحانه، وأقرضوا الله قرضاً حسناً.

وندعوا العلماء إلى بذل النصح والإرشاد والتعليم وتعريف الناس بالدين وأن يكون هذا الشهر شهر إرشاد ووعظ وتعلم وتعليم، فالله سبحانه وتعالى وملائكته يصلون على معلمي الناس الخير، فكل أطياف المجتمع مدعوة للإكثار من فعل الخير بكافة أنواعه، ومطالبة بكف الشر بجميع صوره لتتحقق الغاية من الصيام المتمثلة بالتقوى، ويظهر ثمارها على المستوى الفردي والمجتمعي، يظهر ثمارها في المؤسسات الحكومية والوزارات سلوكاً وخلقاً ونظاماً والتزاماً حتى يعم الخير أرجاء البلاد.

 فليتسابق الصائمون ويتنافسوا بفعل الخير والابتعاد عن الشر وهو ما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: »أتى شهر رمضان شهر بركة وخير يغشيكم الله فيه الرحمة ويحط فيه الخطايا ويستجاب فيه الدعاء، ينظر الله فيه إلى تنافسكم وتباهيكم فأروا الله من أنفسكم خيراً فإن الشقي كل الشقي من حرم فيه رحمة الله«.

فليكن هذا الشهر مضمار سباق كل في مجاله، فأهل الأموال والتجارة مضمارهم التجارة الرابحة مع الله في أداء ما أوجب الله عليهم في أموالهم من الزكاة وما ندبهم إليه من الإنفاق في سبيل الله، وأهل العلم مضمارهم بدعوتهم إلى الخير وتعليمهم الدين وإرشادهم للمعروف ونهيهم عن المنكر، وبذل النصيحة للرعاة والرعية، وأهل المسؤولية في الحكومة ووزاراتها مضمارهم خدمة الناس وصيانة وحماية المال العام، ومكافحة الفساد، والمحافظة على النظام، والحرص على إقامة العدل، وأهل الخير بكل أشكاله وبجميع أنواعه إلى بذل الجهد في فعل الخير.

كل ذلك إلى جانب البرنامج الرمضاني الذي رسمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يغفل الصائم عن الأوراد وعن الدعاء والاستغفار والتسبيح، فقد ورد قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ بين الآيات المبينة لأحكام صيام شهر رمضان له دلالة خاصة في قيمة الدعاء وأهميته في هذه الشهر الكريم الذي يقبل العبد على ربه سبحانه بالعمل الصالح المتعلق بالبدن والمال وفعل الخير، كذلك يقبل عليه بالدعاء الذي يمثل الاتصال الروحي إن صح التعبير والقرب المعنوي من الله سبحانه وتعالى ليتزود الإنسان من خلال الدعاء بلطف الله وعنايته وهدايته وعونه، فالدعاء سلاح المؤمن، والدعاء مخ العبادة، وقد ورد عن رسول صلى الله عليه وآله وسلم بشأن الأوراد من التسبيح والتهليل والتحميد ما رواه مولانا أمير المؤمنين زيد بن علي عن أبيه عن جده عن أمير المؤمنين علي عليه السلام قال: (من سبح الله تعالى في كل يوم مائة مرة، وحمده مائة مرة، وكبره مائة مرة، وهلله مائة مرة، وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم مائة مرة، دفع الله عنه من البلاء سبعين نوعاً أدناها القتل، وكتب له من الحسنات عدد ما سبح سبعين ضعفاً، ومحى عنه من السيئات سبعين ضعفاً)، وعلى الصائم بتلاوة القرآن الكريم وخصوصاً في هذا الشهر الذي أنزل فيه القرآن قال الله تعالى: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ وكان جبريل يدارس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في كل ليلة من رمضان، يروى عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أنه قال: »قلت يا رسول الله أوصني؟ قال: أوصيك بتقوى الله فإنها رأس أمرك، قلت: يا رسول الله زدني؟ قال: عليك بتلاوة القرآن وذكر الله فإنه لك نور في السماوات ونور في الأرض« وينبغي للذي لم يتعلم قراءة القرآن الكريم أن يتعلمه »فخيركم من تعلم القرآن وعلمه« كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى قارئ القرآن الكريم آداب يجب أن يتحلى بها وهو يتلو القرآن الكريم، فمنها: يرتل القرآن حق الترتيل، لقوله تعالى: ﴿ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً﴾ وإعمال الفكر والنظر في كلام الله سبحانه لقوله تعالى: ﴿ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ وقال سبحانه: ﴿ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا﴾ ، ويقول الرسول صلوات الله عليه وعلى آله: »من أخذ دينه عن التفكر في آلاء الله والتدبر لكتاب الله والتفهم لسنتي زالت الرواسي ولم يزل«.

فقراءة القرآن الكريم بتدبر وإمعان خير من القراءة بغير تدبر ولا تفكر فيه، هذا الإمام الأعظم زيد بن علي عليهم السلام حليف القرآن كان يردد الآية من القرآن الكريم حتى يغشي عليه، ولا يكن هم القارئ كثرة التلاوة من دون تأمل ولا يكن همه آخر السورة أو آخر الجزء أو آخر المصحف ولكن ليكن همه تدبر القرآن الكريم لتحصل له التقوى والذكرى قال الله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا﴾ وللقارئ الاستعانة بكتب التفسير الموثوق بها وأن يسأل أهل الذكر العلماء التقاة العاملين.

وبمعية تلاة القرآن وتدبره والصيام تتظافر مؤهلات التقوى في الدنيا وموجبات الشفاعة في الآخرة، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : »إن الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة يقول الصوم يا رب منعته الطعام والشهوات في النهار فشفعني فيه، ويقول القرآن يا رب منعته النوم بالليل فشفعني فيه فيشفعان«، فإذا دخل عليك أيها الصائم شهر رمضان فأكثر من الحمد والشكر والذكر أن بلغك رمضان وأخلص لله النية واجعل عملك كله لا تبتغي فيه مراداً سوى الله سبحانه حتى يخلص من الرياء والسمعة، اغتنم هذا الشهر في صلة الأرحام بالبر والصلة وتعاهد جيرانك بالإفضال والعطية، صالح من خاصمت وخاصمك، أعف عمن ظلمك أو أساء إليك، واجعل كل أوقاتك كلها في طاعة ربك وابتغاء ما عنده من المغفرة والرحمة والرضوان، نسأل الله التوفيق والعون على طاعته.

اللهم اجعلنا من عبادك الصالحين الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون، والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون، من الذين يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون.

وصل وسلم على سيدنا محمد الأمين وعلى آله الطيبين الطاهرين.

الدلالات: