الجامع الكبير بصنعاء لم يكن مكانًا للعبادة فحسب بل هو مدرسة علمية ومركز إشعاع ومنارة علمية شامخة على مدى التاريخ اليمني، فهو جامعة اليمن التاريخية ومركزها الثقافي والحضاري مثله مثل الأزهر في مصر والزيتونة في تونس والقيروان في المغرب على مر العصور منذ أن ارتفعت أسس هذا الجامع بأمر النبي في السنة السادسة للهجرة، ومازال الجامع يؤدي دوره الريادي في تخرج العظماء من المجتهدين والعلماء والأدباء ، رغم أنه كان يمر بظروف سياسية تُقلِّص نشاطه، وحين تزول يتوسع ويزدهر وتعلو منارته وتكثر ثمرته.
ففي بداية القرن الخامس عشر الهجري كان قد تقلص نشاط الجامع الكبير بصنعاء بسبب الظروف السياسية التي مرت بها اليمن خلال تلك الفترة من تغيير نظام الحكم وعدم الاستقرار الأمني، ولكنه منذ ثمانٍ وثلاثين عامًا عاد لأداء دوره الرسالي بعودة العلماء المخلصين الذي كان لهم الدور الكبير والفعّال في إعادة الحركة العلمية ببداية التدريس للعلوم الشرعية وعلوم العربية في رحاب الجامع الكبير كالعلامة القاضي عبد الحميد معياد رحمه الله رحمة الأبرار، والسيد العلامة أحمد محمد الشامي رحمه الله، والسيد العلامة محمد بن محمد المنصور رضوان الله عليه، والعلامة السيد أحمد محمد حجر والسيد العلامة حمود بن عباس المؤيد حفظهم الله تعالى والسيد العلامة المفتي أحمد زبارة، والسيد العلامة الدكتور الشهيد المرتضى بن زيد المحطوري رحمه الله وفي بعض المساجد ومسجد النهرين وكمسجد الفليحي ومسجد البليلي وكذلك مشايخ القرآن الكريم والقراءات السبع كالشيخ الحافظ المرحوم حسن لطف باصيد، والشيخ الحافظ محمد حسين عامر رحمهم الله تعالى والشيخ الحافظ يحيى بن أحمد الحليلي والذين دعوا طلاب العلم وكل راغب في الالتحاق بالتعلم في الجامع الكبير سواء طوال العام أو في الفترات الصيفية.
ففي خلال هذه السنوات التي تقارب أربعة عقود من الزمن تمكّن الجامع الكبير من تأهيل الأساتذة والمدرسين والمرشدين والمفتين، والمثقفين الواعين المتبصرين، حتى توسع نشاطه بفتح مراكز تعليمية تابعة للإدارة العلمية في الجامع الكبير في بعض مساجد صنعاء، وإرسال أعداد كبيرة من المدرسين المتخرجين من الجامع الكبير إلى عدد من القرى والمدن في عدة محافظات لأداء الرسالة التي تحمّلوها تدريسًا وتعليمًا ووعظًا وإرشادًا وتوعية وإصلاحًا بين الناس سواء طوال العام أو في الفترات الصيفية، فكان النشاط العلمي يزدهر ويتوسع على مستوى عالٍ وكبير.
ففي بداية التحرك العلمي عمد العلماء والمدرسون إلى تكوين إدارة عامة تدير وتنظم سير العملية التعليمية والإرشادية، فأُعِدَّتْ الخطط واللوائح والتنظيم الهيكلي للإدارة وتحديد الأهداف العامة والتي من أهمها: تأهيل جيل من حفظة القرآن الكريم وعلومه على النهج السوي.
تأهيل علماء إفتـاء واجتهاد ودعاة إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة، وكذلك الأهداف التعليمية كتثقيف الطالب ثقافة إسلامية تُشَكِّل له حصانة تجاه النظريات والأفكار الهدامة، وتعريف الطالب بعظمة الإسلام من خلال أحكامه ورؤاه في كل مجالات ميادين الحياة، وذلك من خلال قراءة القرآن الكريم والعلوم الشرعية، وإعداد وتدريب علماء ومرشدين ودعاة إلى الله تعالى إعدادًا علميًا وأخلاقيًا وخطابيًا؛ ليتمكنوا من حمل رسالة الإسلام السمحاء، ونشر الوعي والفضيلة في أوساط المجتمع، وترسيخ ثقافة ومبادئ الإسلام الأخلاقية والأخوية والإنسانية بين الطلاب وأفراد المجتمع على أسس الإيمان والمحبة في الله تعالى والاعتصام بحبل الله، وتعميق وترسيخ الفكر الإسلامي الصحيح فكر أهل البيت (ع )؛ لما له من أهمية في وحدة الأمة الإسلامية وتجاوز الخلافات المذهبية.
وهذه أهم فوائد وثمار إقامة الدورات التعليمية خلال فترة الصيف التي كانت تستغرق مدة ما يقارب الثلاثة الأشهر التي يستفيد فيها الطلاب فوائد كبيرة جدا مقارنة بتحصيله العلمي، وخصوصا في العلوم الدينية الشرعية وعلوم العربية التي لم تكن بالقدر الكافي للطلاب في المدارس الحكومية العامة والخاصة، فكانت الدورات تسد كثيرا من النقص في التعليم الديني الشرعي واللغوي، وتقوم الدورات الصيفية إلى جانب التدريس بالتذكير والوعظ والإرشاد لأهل القرى الذي شُغِلُوا بالتنافس على حطام الدنيا في الوقت الذي تتزايد فيه الفتن والمصائب والمؤامرات على المسلمين من كل حدب وصوب حتى وصلت إلى المساجد محل الأمن والإيمان والخشوع والعبادة.
وفي إطار النشاط العلمي تمّ إنشاء الصندوق الخيري لدعم طلاب العلم الشريف لجمع التبرعات المالية من أهل الخير ومحبي العلم والعلماء وطلاب العلم لتيسير العملية التعليمية والإرشادية في الجامع الكبير، ولم يكن هناك دعمٌ للعلماء المعلمين وطلاب العلم غير ما جمع الصندوق الخيري من أهل الخير فحسب، فليس هناك دعم حكومي ولا حتى من الأوقاف التي وُقِفَتْ للعلماء والمتعلمين والقراء والمقرئين في الجامع الكبير بصنعاء، فكان دعم الحركة العلمية ماديا من أهل الخير عبر الصندوق الخيري الذي يتولى الإدارة المالية والحسابية توريداً وصرفاً، وما يقوم به من مهام كالتغذية لسكن الطلاب المهاجريين من عدة محافظات وإعانة المدرسين المحتاجين، وتوفير مباغ مالية ولو قليلة كمرتبات للعاملين في إدارة الحركة العلمية، و كان يقوم بطبع المقررات والمناهج وتوفيرها للطلاب.
واتسع النشاط العلمي على مدار العام وفي الفترات الصيفية من خلال توفير مأوى وسكن طلابي تمثّل ذلك بدايةً بالغرف الصغيرة بجوار الجامع الكبير المعروفة بالمنازل، والبعض منها بجوار مساجد أخرى حتى تمّ بناء سكن الطلاب جوار جامع البليلي الذي كان من محاسن ومساعي السيد العلامة الدكتور الشهيد المرتضى المحطوري رحمه الله، وبعدها اتّسع النشاط العلمي حتى أنّ المولى العلامة حمود بن عباس المؤيد حفظه الله اشترى بيتًا في حارة الأبهر بصنعاء القديمة من حُرِّ ماله وأوقفه وحبسه لطلاب العلم الشريف بالجامع الكبير كسكن ومأوى لهم، وجعل ولاية الوقف لإدارة الجامع الكبير بصنعاء المتمثلة في السيد العلامة المرحوم علي بن أحمد الشامي رحمه الله، والسيد العلامة عبد الكريم بن عبد الله اللاحجي، والقاضي العلامة عبد الله بن صالح الحاضري
لذلك لم تكن مهمة المدرسين تقتصر على التدريس فقط بل كانوا يقومون بجهود كبيرة وفعّالة بإدارة السكن الطلابي والإشراف عليه وجمع التبرعات والمساعدات من أهل الخير التي يوزعونها على احتياجات السكن الداخلي ومساعدة الأساتذة المحتاجين في الجامع الكبير والمراكز التابعة له.
وقد أدار الدكتور المرتضى رحمه الله تعالى الدورات الصيفية حتى انتقل إلى مركز بدر العلمي، ثم كانت إدارة الجامع الكبير علميًا على يد العلامة الزاهد المجاهد المرحوم علي بن أحمد بن يحيى الشامي الذي ببركاته وجهوده ازدهرت الحركة العلمية وأثمرت واتسع نطاق عملها إلى مراكز كثيرة في مناطق عديدة وكان يحرص رحمه الله تعالى على تأهيل المدرسين التأهيل الكافي من خلال إقامة الدورات التأهيلية للمعلمين قبل الفترات الصيفية يتلقى خلالها المعلمون طرق التدريس والدعوة إلى الله وأُسس الخطابة والتعامل مع المجتمع، وهكذا كانت تُقام الدورات التأهيلية قبل الفترات الصيفية بشكل مستمر وتم إعداد المنهج وتوزيعه على ستة مستويات في الدارسة المستمرة طوال العام، وكذلك إعداد المنهج الصيفي.
نظرة حول المنهج الصيفي والمقررات الدراسية ومراحل إعدادها ومميزاتها :
تُعتبر المقررات الدراسية التي أعدتها إدارة الجامع الكبير بصنعاء لتعليم القرآن الكريم والعلوم الشرعية مبنية على أسس وأهداف وغايات؛ وقد مرّتْ هذه المقررات بمراحل حتى وصلت إلى الحال التي هي عليه اليوم.
أهداف عامة للمنهج: تأهيل جيل من العلماء والمتعلمين والدعاة إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة. والأهداف العلمية كانت كالآتي:
ولتحقيق هذه الأهداف تُقام الدورات الصيفية في كل إجازة صيفية ومن خلالها يتحقق الآتي:
فتهيأ العلماء وطلاب العلم المستفيدين لخوض ميدان المعركة الفكرية مع الهجمة الشرسة على مذهب أهل البيت من خلال تدريس الطلاب الوافدين إلى ساحات الجامع الكبير والمساجد التي يقيمها من ينتمون إلى مذهب أهل البيت عليهم السلام، وأحياناً كانت التيارات الوافدة تخوض معارك القتال والمكائد الطائفية الدخيلة مع تواطئ المقربين من السلطة الحاكمة وأصحاب النفوذ المشيخي والعسكري الجبروتي، فكانت مراحل الدورات الصيفية كالتالي:
المرحلة الأولى: تغطية المدارس والمساجد التابعة لإدارة الجامع بالمعلمين فحسب فقط، وبالنسبة للمنهج فقد كان متروكًا لاجتهاد القائمين على التدريس مع التنسيق مع الإدارة فمثلًا في مادة النحو: أحدهم يدرس ملحة الإعراب، وآخر متن الآجرومية، وآخر المتممة ...إلخ، وكذلك بقية المواد مثل: الفقه والحديث، وأصول الدين .
المرحلة الثانية: مرحلة اتساع العمل وتنظيمه؛ حيث بدأت الإدارة بتحديد بعض المقررات من المناهج المتوفرة في المكتبات والأكشاك القديمة والمطبوعة إلى جانب اختيار بعض المواد التي كانت تعد في وريقات مثل الملزمة كمختارات من الحديث النبوي الشريف.
المرحلة الثالثة: هي مرحلة إعداد منهج يناسب مستوى الطلاب الوافدين وطباعته وتصويره على شكل كتاب بحيث يكون بمقدور الطلاب توفيره بسعر مناسب .
المرحلة الرابعة: مرحلة تكليف الإدارة لنخبة من مدرسي الجامع والطلاب المستفيدين بإعداد منهج مناسب لمستويات الطلاب بطريقة معاصرة مبسطة؛ حيث وفّرت لهم الإدارة الموارد المالية والعلمية وكان ذلك بتوجيه من شيخنا الراحل المجاهد الصابر علي بن أحمد الشامي رحمه الله تعالى وكانت تلك الجهود جهوداً شخصية فردية، فكان من تلك المقررات كتاب الطهارة والصلاة للعلامة أحمد محمد الوشلي، وكتاب الزكاة للوشلي أيضًا، وكتاب الصوم للأستاذ حفظ الله زايد، وكتاب الحج للعلامة فخر العلوم مفهومها والمنطوق محمد الجراش، وكتاب نصيحة لطلاب العلم للعلامة الوشلي، وهذه كلها تكفّل بطباعتها الصندوق الخيري لدعم طلاب العلم الشريف الذي كان يرأسه فضيلة الأستاذ المرحوم علي بن أحمد الشامي، ومن ثم كتاب أقم الصلاة، وكتاب الأربعين العلوية، وكتاب الأحاديث والمأثورات ومقتطفات من نهج البلاغة أربعة أجزاء، والعقيدة الصحيحة، ومتن الآجرومية لمؤلفها ومحققها السيد العلامة/ عبدالفتاح الكبسي، وغيرها.
المرحلة الخامسة: مرحلة التعاون والتنسيق مع مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية، وهذه المرحلة تمّ فيها جمع كل مقررات المواد في كتاب واحد بحيث يضم الكتاب الواحد كل مقررات المستوى الواحد.
ناهيك عما ما كان يتخلل المنهج الصيفي وكذلك منهج المستمرين من هجمات حكومية نتيجة لسياسة التحالف مع أمريكا في ما يسمى بمحاربة الإرهاب بين قوسين (الإسلام القرآني المحمدي) وكذلك نتيجة حروب السلطة على أبناء محافظة صعدة حيث كانت تشنّ الحرب بالنار في صعدة، وفي صنعاء تشنّ الحرب الفكرية والتعسفية والمعنوية على معلمي ومدرسي الجامع الكبير والتي كان يقودها وزير الأوقاف نفسه حمود الهتار المعروف بولائه وعبوديته لآل سعود وكذلك وزير التربية والتعليم وغيرهما، حيث أرادوا تغيير المناهج وتوزيع المدرسين ونقل عملهم من وزارة لأخرى مستعينين بالإعلام وضعفاء النفوس من المتمكنين في الحكومة ممن كانوا يبحثون عن منصب دنيوي ويطلبون في نفس الوقت رضى الحاكم ومكله,
مميزات المنهج:
ثم بعد ذلك انتخبت إدارة الحركة العلمية الأستاذ العلامة السيد عبد الكريم عبد الله اللاحجي مديرا لها، ولا زال إلى يومنا هذا يقوم بالإدارة والتدريس ورئاسة الصندوق الخيري لدعم طلاب العلم الشريف
ومما ميّز الحركة العلمية في الجامع الكبير بصنعاء ممثّلةً بالعلماء الأجلاء وعلى رأسهم مدير الإدارة العامة لتدريس القرآن الكر يم والعلوم الشرعية السيد العلامة علي بن أحمد الشامي رحمه الله أنها كانت مستقلة استقلالاً تاما وليس لها أي ارتباط داخلي أو خارجي بحزب ولا جماعة، وكان دعمها مالياً من أهل البر والخير والإحسان عبر الصندوق الخيري، وكان الصندوق يقبل التبرعات لدعم الطلاب بدون قيد ولا شرط، ولا ننسى الفضل الكبير الذي يقدمه السيد العلامة المولى حمود بن عباس المؤيد حفظه الله وأطال عمره الذي كان الداعم الأول للصندوق الخيري كما كان يتكفل بمعظم حاجيات الطلاب لسنوات عديدة.
صورة فيها تكريم لطلاب العلم بالجامع الكبير