في ظلال الهجرة النبوية

نشر بتاريخ: سبت, 01/10/2016 - 5:36م

 

التاريخ الهجري يمثل هوية الأمة

ما نريده في ذكرى السنة الهجرية، الإشارة إلى عدة أمور منها: المحافظة على التاريخ الهجري، لأنه بعد سيطرة الغرب أصبح التاريخ الميلادي هو المسيطر، وبما أن التاريخ الهجري يحمل في داخله حركية الإسلام وتاريخه وحضارته وهويته، ولذلك على المسلمين أن يحفظوا هذا التاريخ ليكون جزءاً من هويتهم

كذلك علينا أن نشعر بأننا جزء من أمة عالمية، وأننا جزء من أمة إسلامية، وأن الإسلام يمثل جزءاً من عقل كل واحدٍ منا وقلبه وجسده، وأنه وإن اختلفنا مع بعض المسلمين في المذهب أو اختلفوا معنا في ذلك، فإننا جميعاً نؤمن برسول واحد وبكتابٍ واحد، وكل المسلمين في العالم يلتقون على أسس واحدة وقاعدة واحدة.. المسلمون في الحج يمشون بين الصفا والمروة مع بعضهم البعض، يقفون في عرفة وفي مِنى مع بعضهم البعض، وكذلك في كل مواقع الحج.

ولذلك قال الله: {إنما المؤمنون أخوة}، والنبي(ص) أراد لهذه الأمة أن تتفاعل بالإيمان والتآخي، لذا قال(ص): "من لم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم"، "من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم"، "من سمع رجلاً ينادي يا للمسلمين أعينوني فلم يجبه فليس بمسلم".

وعلينا أن نعيش ونربي أولادنا على أننا جزء من أمة إسلامية، فإذا صاح واحد تحرك الكل لمساعدته وإعانته والوقوف إلى جانبه في وجه التحديات، عند ذلك لن يجد المستكبر من يعينه، كما هو عليه الحال الآن، قال النبي(ص): "يوشك أن تتداعى الأمم عليكم كتداعي الأكلة إلى قصعتها، قالوا: ومِن قلةٍ يا رسول الله؟ قال: إنكم لكثير، ولكنكم غثاءٌ كغثاء السيل".

إن ذكرى الهجرة النبوية، السنة الهجرية الجديدة، التي تختزن ذكرى الهجرة والتي تنفتح على ذكرى عاشوراء، علينا أن نأخذ بأسباب القوة وأسباب الوحدة وأسباب الانتصار، والله يقول:{واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا}.

رحلة الهجرة تؤسس للدولة الإسلامية

لمااشتدت الأمور بالنبي وكثرت أذيته (ص)، وبعد أن قررت قريش حبسه أو إخراجه وتركه في الصحراء أو قتله، بعد أن تقدّم كل عائلة من عوائل قريش شاباً ويهجمون عليه فيضيع دمه(ص) بين القبائل، ويدفعون الدية وتنتهي المسألة. وهكذا انتصر قرار القتل، ولكنّ الله أعلم نبيه بما يكيدون {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين}، عند ذلك طلب النبي(ص) من علي(ع)، وكان في الثالثة والعشرين من عمره، أن يغطي انسحابه، وأخبره بالقصة تماماً، وقال له الإمام(ع): "يا رسول الله، أوتسلم في هجرتك هذه؟ قال: بلى، قال(ع): اذهب لا أبالي، أوقعت على الموت أو وقع الموت عليّ"، ونزلت الآية تقديراً لموقف علي(ع) وإخلاصه لله: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله} فعلي باع نفسه لله ولم يحترس لنفسه من نفسه، وتلك عظمة علي(ع). وسار النبي(ص)، ولم يشعر به أولئك، واكتشف القوم المسألة، ورأوا علياً في الفراش، فلاحقوا الرسول(ص) واقتفوا أثره، حتى وصلوا إلى الغار الذي اختفى فيه النبي(ص) مع رفيقه، ولكن الله كان قد أمر العنكبوت أن تنسج على مدخل الغار نسيجاً غطّى مدخله وحمامةً باضت على مدخله، بحيث تبيّن أن النسج كان من مدةٍ طويلة، وقال الله في ذلك: {إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا}.

وانتصر الإسلام، وبدأ النبي تأسيس الدولة الإسلامية الجديدة ببناء مسجد أولاً يجمع المسلمين، وعزمت قريش على إشغال النبي عن دعوته بالحروب، من بدرٍ إلى أُحد إلى الأحزاب... وتحالفت مع اليهود، حيث كان النبي(ص) ينتقل من حرب إلى حرب، إلى أن فتح الله عليه مكة في نهاية المطاف {إذا جاء نصر الله والفتح* ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً...}.

واستطاع الإسلام أن يكون القوة في تلك المنطقة، وبدأت العرب تفِد إلى النبي(ص) بعد أن كانت تخاف من قريش، لتُسلم على يديه. فالهجرة تمثل منطلق القوة العسكرية والقوة السياسية والقوة الثقافية التي حصل الإسلام عليها، ولهذا كانت مسألة البداية، أي التاريخ بالهجرة، مع العلم أن البعثة كانت قبل الهجرة بثلاث عشرة سنة، لأنه أُريد للهجرة أن تكون هي التاريخ الذي استطاع الإسلام أن يحصل على القوة فيه، ليكون هذا التاريخ دافعاً وعامل قوة للمسلمين في كل سنواته في المستقبل، ليواجهوا التحديات الكبرى من قِبَل الكافرين والمستكبرين، وأن ينتصروا كما انتصر الإسلام في ذلك الوقت.

فمهما كانت التحديات والصدامات والصراعات الداخلية والخارجية سيبقى الإسلام قويا رغم كل الجراحات التي أصابته ، ومنتشراً في كل العالم وسيرث الصالحون هذه الأرض وستكون لهم الغلبة والتمكين قال تعالى{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106)

بداية العام الجديد محطة لمحاسبة النفس ومراقبتها

في اليوم الأوّل من محرم، تبدأ سنة إسلاميَّة جديدة من تاريخ الهجرة النبوية الشَّريفة، ولا بد للإنسان من أن يتوقَّف أمام هذا الحدث في دائرتين: الأولى: دائرة النفس، والثانية: دائرة الأمة، لأنَّ السَّنة تمثّل حركة الزمن في عمرك، فأنت عندما تترك سنة وتدخل في سنة أخرى، فإنَّ معنى ذلك أنَّك خطوت خطوة في عمرك نحو النّهاية، وعشت في عمرك سنة من المسؤولية أمام الله، وستستقبل سنة أخرى من المسؤولية.

كما أنَّ هذه السَّنة تمر على الأمة في قضاياها العامّة والخاصّة، ولذلك، على الأمة أن تقف في نهاية سنة وبداية أخرى، لتدرس كلّ حركة تقدّمها أو تراجعها، وكلّ حركة هزائمها أو انتصاراتها، وكلّ حركة وحدتها وانقسامها.

والإنسان، سواء كان فرداً أو أمة، لا بدَّ له من أن يحسب حساب مسؤوليّاته في حركة الزمن في وجوده، وفيما يسجّله وجوده الحركي في كتابه، والله سبحانه وتعالى حدّثنا عن أنَّ هناك كتاباً للفرد، وأنَّ هناك كتاباً للأمة، وأنَّ الفرد سيدعى إلى كتابه ليقرأه، وليحاسِبَ نفسه بحسب تفاصيله، وأنَّ الأمة لا بدَّ من أن تحاسب نفسها من خلاله في واقع مسؤولياتها، فالله يقول وهو يحدثنا عن كتاب الفرد:  {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} وعن كتاب الأمة:   {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا}.

ففي دائرة الذات، عندما ندخل السنة المقبلة، علينا أن ندرس ونتذكَّر:

كيف كنا في السنة السابقة؟ كيف هو إيماننا؟ هل كبر أو صغر؟ كيف هي ثقافتنا الإسلامية؟ هل توسّعت أو انكمشت؟ كيف هي عبادتنا لله؟ هل أخلصنا لله في العبادة أكثر، أو أننا أقفلنا قلوبنا على عبادته أكثر؟ كيف هو التزامنا بالصّدق والحق في كلماتنا؟ هل نحن أكثر صدقاً الآن مما مضى أو أقل؟ هل نحن أكثر حقاً فيما نتكلَّم به أو لسنا كذلك؟ هل كنت تأكل الحرام؟ هل كنت تلهو اللهو الحرام؟ هل كنت تمارس الشَّهوة الحرام واللّذة الحرام؟ هل كنت تقف الموقف الحرام؟ هل كنت تؤيّد التأييد الحرام؟ هل كنت ترفض الرفض الحرام.

إنَّ في كلّ شيء في الحياة حلالاً وحراماً؛ ففي الأكل هناك حلال وحرام، وفي الشرب هناك حلال وحرام، وفي اللعب واللهو واللذة والموقف تأييداً أو رفضاً كذلك، فكيف كانت مواقفنا؟ هل كنّا في موقف الحقّ مع أهل الحقّ، أو في موقف الباطل، وكيف نحن الآن؟

لا بدَّ لنا من أن نركّز كلمة الحق في حياتنا على أشكالها؛ فلدينا حق في العقيدة، وحق في الشريعة، وفي السياسة والاجتماع، وفي الحرب والسلم، فهل تحركت كلماتنا من أجل الخير للناس، أو من أجل الشر لهم؟ هل كنا نتكلَّم عن وعي، أو كنا كما قال الله: {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ}، فنتكلَّم من دون وعي لمسؤولية الكلمة أمام الله؟

فكلماتنا هي من أعمالنا، كما ورد عن أمير المؤمنين علي(ع): "ومن علم أنَّ كلامه من عمله قلّ كلامه إلا فيما يعنيه"، وعن رسول الله(ص): "وهل يكبّ الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم يوم القيامة"، أي أنَّ ما يحصده لسانك من شرّ، فيتكلَّم في الغيبة، والنميمة، والفتنة بين الناس، والتجسّس على المسلمين، وتأييد الظالمين وتبرير أفعالهم، وخذلان المؤمنين وما إلى ذلك، كل ذلك سيخضع للحساب.

ولذلك، لا بدَّ للإنسان من أن يدرس قاموس كلماته، فبعض الناس ربما ورثوا في قاموس كلماتهم كلمات الفحش والسّباب،

في هذا الموسم من السنة الجديدة، لا بدَّ من أن ننظّف ألسنتنا، ونعيد النظر في كلماتنا وأوضاعنا، فربما كانت لدينا تجربة في حياتنا العائلية أو مع الجيران أو مع الناس في مختلف المجالات، وهذه التجارب قد لا تكون في خطّ التقوى، فلا بدَّ من أن نعمل على إخضاعها لتقوى الله سبحانه وتعالى.

يقول الله سبحانه وتعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ}، فعلينا أن نفكّر دائماً في المستقبل، والمستقبل العميق عندنا ليس هذا المستقبل الّذي عمره عشرون أو خمسون سنة، بل مستقبل الخلود عند الله.

انظر حصيلتك من أعمالك الصالحة ومن أعمالك السيئة، وبعد أن تحسب حساباتك، اتق الله فيما تستقبل من عمرك: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ* وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}، فلا تنس ربك عندما تتحدَّث، وعندما تعمل، وعندما تؤيّد وترفض.

وعليك دائماً أن تجعل الله ـ من خلال إيمانك به ـ يشرق في عقلك وقلبك وإحساسك وفي كل حياتك، فمن كان الله نوره الذي يستنير به، فإنه لن يقع في ظلمات الشكّ والشّبهة والمعصية.

وإذا نسيت الله، فإنَّك ستستسلم لغرائزك ولشهواتك، ولما تسمعه من الناس وما تراه، وستفقد الضّابط الذي يضبط خطواتك. لذلك، فإنَّ قضية ذكر الله ليست باللسان فحسب، إنَّ الذكر هو ذكر الحضور، فتشعر أنَّ الله أمامك، وهو الذي قال كما جاء في الحديث القدسي المعروف: "لم يسعني سمائي ولا أرضي"، فالله ليس موجوداً في مكان، بل هو فوق المكان "ووسعني قلب عبدي المؤمن"، فقلبك هو عرش الله إذا عشت الوعي لله.

لذلك، فالمسألة أن تذكر الله، فتذكر نعمة الله عليك وعظمة الله في خلقك، وتذكر مسؤوليتك ووقوفك غداً بين يدي الله لتقدّم إليه حساب أعمالك، وعندما تذكر الله، فإن ذكر الله يشغلك عن كلّ الضجيج الذي يحيط بك.

ثم بيّن الله لنا أنَّ الطَّريق إلى الجنة، بأن تتقي الله وتحاسب نفسك وتذكر ربك: {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ}، الذين ينسون الله ولا يتقونه ولا يحسبون حساب أعمالهم، {وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ}.

نحن الآن أنعم الله علينا، فتركنا نعيش في السنة الماضية، لكن من الذي يضمن عمره للسنة القادمة؟ فكم من أحبائنا وأقربائنا وأصدقائنا ومعارفنا كانوا معنا في العام الماضي، ولكن أين هم الآن؟ لذلك نحتاج أن نضبط الحسابات جيداً ونفكر جيداً في هذا المجال.

 

من خطب ومحاضرات العلامة محمد حسين فضل بتصرف بسيط

 

 

الدلالات: