خطبة الوداع ودرس الأخوة الإيمانية الجامعة

نشر بتاريخ: اثنين, 12/09/2016 - 6:19م

لم يقم الإسلام رابطة الأخوة بين أبنائه على رابطة الجنس أو اللون أو اللغة أو الوطن أو غير ذلك من الروابط والعوامل التي تقوم عليها المجتمعات المختلفة قديماً وحديثاً، وذلك لأن أي رابطة غير رابطة الإيمان تعتبر قاصرة عن تحقيق وحدة إنسانية عامة، وعاجزة عن الجمع بين مختلف الأجناس والألوان والأوطان، وقد تكون في الكثير من الأحيان سبباً للتفرق والاختلاف ومثاراً لإثارة الفتن والعداوات، ولهذا جعل الإسلام العقيدة الإيمانية أنبل وأقدس وأعظم رباط، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} وذلك لأن رابطة الأخوة الإيمانية هي الرابطة الجديرة بأن توحد بين النفوس وأن تؤلف بين القلوب وأن توحد بين المسلمين على اختلاف البلدان والقوميات واللغات، فكانت آصرة الأخوة على هذا الأساس تعلو على كل آصرة وتفوق كل رابطة، حتى رابطة النسب نفسها، قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ}.

ولقد كان العرب في الجاهلية يعيشون في فوضى واضطراب وتناحر وانعدام الأخوة الإنسانية بينهم وكانت الحروب تقوم بينهم لأتفه الأسباب، فكانوا لا يبالون بشن الحروب وإزهاق الأرواح في سبيل الدفاع عن القيم الاجتماعية التي تعارفوا عليها، وما إن بزغ فجر الإسلام حتى توحدوا جميعاً تحت رايته وانضووا تحت لوائه..

لقد أرسل الله سبحانه وتعالى رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم بالحنيفية السمحة، أرسله هاديًّا مرشدًا ومعلمًا مصلحًا، وخلال ثلاث وعشرين سنة تم له ما أراد بإذن ربه، في جمع كلمة العرب المتناحرين والمتفرقين، بعد أن أزال الإسلام الفوارق بين الطبقات وجعلها أمة واحدة، ودعا إلى وجوب الاجتماع وعدم الفرقة، بعد أن كانوا في فوضى واضطراب وتناحر، فقال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103]، وقال تعالى: { وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [الأنفال: 63]، وقال تعالى: { إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } [الأنبياء: 92]

 فالأخوة الإيمانية هي التي تربط بين المؤمنين جميعاً وهي ولا شك أقوى من رابطة الدم والجنس واللون واللغة وغير ذلك من الروابط الاجتماعية, لأن أُخوة الإيمان منبثقة من رابطة العقيدة الدينية والتي هي أشد رسوخاً وأعظم ثباتاً في النفس من الروابط المادية أيًّا كانت لما لها من عظيم الأثر وجميل الذكر، ولذلك كان أول ما قام به النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بعد مقدمه المدينة أنه آخى بين المهاجرين والأنصار، وقد كانت الدعامة الثانية - بعد بناء المسجد- في تأسيس دولة الإسلام في المدينة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليها .

ورابطة الأخوة الإيمانية هي قوام المجتمع المسلم ودعامته الأساسية، وهي عماده، وصمام أمانه وسرّ قوته، وانفكاك هذه الرابطة هو سبب الفشل والانهيار، قال تعالى : [وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ] [الأنفال : 46] ؛ ولذا عمل الإسلام على توثيق عرى الأخوة الإيمانية ببيان فضلها ومقاصدها وثمراتها ووسائل تعميقها، ومن ذلك ما فعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم في يوم عرفة وقد نظر إلى الألوف المؤلفة التي استجابت لدعوته للحج معه في ذلك الموسم فألقى خطبة جامعة أبطل فيها تقاليد الجاهلية الفاسدة وعقائدها، وحدّد لهذه الأمة هويتها وشخصيتها، وأرسى فيها قواعد الإخاء والمساواة والعدالة، وأوضح فيها حرمة الدماء والأموال، وما إلى ذلك من الوصايا والتعليمات التي لخصت قيم الإسلام التي ظل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يؤصّلها في حياة الناس ما يزيد على عقدين من الزمن.

وقد تضمنت تلك الخطبة أول إعلان عام لحقوق الإنسان عرفته البشرية، وأسست هذه الخطبة تقاليد عظيمة لتعامل المسلمين فيما بينهم، وقضت على ما تعانيه الجماعة الإنسانية من قسوة وظلم اجتماعي، وما يعانيه المجتمع من مظاهر النهب والسلب ومن صور الثارات والدماء، وكانت تلك الخطبة في مجملها تربية للفرد المسلم ولمجتمع الإسلام على أسس الدين ومرتكزاته، وفي مقدمة تلك الأسس والمرتكزات تعميق مبدأ الأخوة الإيمانية بين أفراد المجتمع المسلم، والتأكيد على حرمة الدماء والأمرال والأعراض وعصمتها، وإرساء مبدأ العدل والمساواة بين أبناء الإسلام.

ولأهمية الأخوة الإيمانية فقد استهل النبي صلى الله عليه وآله وسلم خطبته بالتأكيد على حرمة الدماء والأموال والأعراض وعصمتها، فكان أول ما قاله صلى الله عليه وآله وسلم أن قال: «أيها الناس؛ إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ،  كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ»، وفي رواية أن النبي عليه صلى الله عليه وآله وسلم سأل الناس فقال: «في أي يوم أنتم؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، ثم قال لهم: «في أي شهر أنتم؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، ثم قال: «في أي بلد أنتم؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «فإن دماءكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا».

ولم يكتف النبي صلى الله عليه وآله وسلم في خطبة الوداع بالتأكيد على حرمة دم المؤمن وماله وعرضه حتى ختمها بتأكيده على معنى الأخوة الإيمانية، وحذر من قتال المسلمين بعضهم البعض والتمادي في سفك دماء بعضهم معتبراًً ذلك ضلالاًً بعد هدى وكفر بعد إيمان، فقال: «أَيُّها النَّاس؛ اسمعوا قولي واعقلوه، تعلمن أن كل مسلم أخ للمسلم، وأن المسلمين أخوة, فَلاَ يَحِلُّ لامْرِىءٍ مَالُ أَخيهِ إلاّ عَنْ طيبِ نفْسٍ منهُ، فلا تظلمن أنفسكم اللهم هل بلغت؟ و ستلقون ربكم فلا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفاراً يَضرِبُ بَعْضُكُمْ رقابَ بَعْض».

ولأن منشأ العداوة بين المسلمين وقتال بعضهم بعضاً هو في الغالب بسبب ما قد يكون بينهم من الأحقاد والضغائن وما قد يقع بينهم من المظالم فقد حدّد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في خطبته أن أساس التفاضل بين الناس إنما هو الدين والخلق، ولا عبرة فيه لجنس، ولا لون، ولا وطن، ولا قومية، فقال: «أيها النّاسُ إن رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وإنّ أَبَاكُمْ واحِدٌ، كُلكُّمْ لآدمَ، وآدمُ من تُراب، أَكرمُكُمْ عندَ اللهِ أتْقَاكُمْ، وليس لعربيّ فَضْلٌ على عجميّ إلاّ بالتّقْوىَ، أَلاَ هَلْ بلَّغْتُ، اللّهُمّ اشهد».

وللتأكيد على مبدأ المساواة البشرية التي أقامها الإسلام في الأرض المساواة المطلقة، وأن الناس متساوون في الحقوق والواجبات كأسنان المشط، ولا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، فقد أكد الرسول صلوات الله عليه على حقوق الرقيق والضعفاء فيقول صلى الله عليه وآله وسلم: «أرقاءكم أرقاءكم أطعموهم مما تأكلون واكسوهم مما تلبسون، وإن جاءوا بذنب لا تريدون أن تغفروه فبيعوا عباد الله ولا تعذبوهم».

ومن خلال تلك التوجيهات النبوية والوصايا النبيوية التي تضمنتها خطبة الوداع والتي تعتبر ركائز أساسية للحفاظ على الوحدة الإيمانية بين أفراد المجتمع المسلم وعدم تقويضها، والتي أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يذكر أمته بها وأن يوصي بها الأجيال من بعده من خلال خطبته التي ألقاها على مسامع ذلك الجيل الذي حج معه، وتلك الجموع الغفيرة التي جاءت لتوديعه، حيث ختمها بقوله: «أَلَا لِيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ فَلَعَلَّ بَعْضَ مَنْ يُبَلَّغُهُ أَنْ يَكُونَ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضِ مَنْ سَمِعَهُ»، ثم أشهدهم على تبليغه للرسالة وأدائه للأمانة، فقال: «وأنتم تسألون عني، فما أنتم قائلون؟» قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: «اللهم اشهد» ثلاث مرات..

 وما أحوج الأمّة اليوم إلى استلهام تلك المعاني الحية، لإعادة اللحمة بين المسلمين وردم الفجوة التي حصلت اليوم بين أفراد المجتمع المسلم في طول البلاد الإسلامية وعرضها نتيجة عوامل كثيرة أهمها مؤامرات الأعداء التي ما فتئت تعمل على تمزيق الأمة الإسلامية وتفتيت عراها حتى صار الأخوة في الدين والوطن يتناحرون فيما بينهم ويقتل بعضهم بعضاً تحت دعاوى ومبررات تضليلية مذهبية وطائفية بغيضة، والطامة الكبرى هي ما نلحظه من دعوات الاقتتال والفتنة الصادرة من البعض ممن يُحسبون على العلماء والدعاة، والأدهى من ذلك والأمر أن تكون تلك الدعوات الشيطانية للحروب والاقتتال والفتنة بين أمة الإسلام صادرة من منبر النبي الأعظم نبي الرحمة صلى الله وسلم عليه وعلى آله، في مكة والمدينة والمشاعر المقدسة، وقد رأينا وسمعنا خطباء الوهابية في تلك المنابر يثيرون الفتنة ويدعون للإقتتال بين المسلمين والتناحر فيما بينهم، في حين نجد أعداء المسلمين من اليهود والنصارى يسرحون في البلاد الإسلامية ويمرحون ويعيثون فيها الفساد وينتهكون الحرمات والمقدسات دون أن نجد لأولئك المحسوبين على العلماء والدعاة أي موقف يذكر، وكان الأحرى بأولئك كما هو الأحرى بهذه المواقف وتلك المواطن أن تكون منابر للوحدة والدعوة للتآخي والتآلف وجمع كلمة المسلمين ليتحقق لهذه الأمة ما تصبو إليه من العزة في الدنيا، والخير والسعادة في الدنيا والآخرة والعاقبة للمتقين.. 

الدلالات: