الصلاة ذكر الله الأكبر الحلقة (4) (الإقامة والتوجه في الصلاة)

نشر بتاريخ: جمعة, 01/07/2016 - 4:33ص

الإقامة والتوجه في الصلاة

بعد الوضؤ يتجه العبد نحو عبادة ربه وقد استكمل تطهير نفسه وجوارحه للوقوف بين يدي ربه والقيام على عتبات رحمته الذي لم يبق بينه وبينه  إلاّ ما يمكن أن نسميه دعاء الإقامة الذي بعده مباشرة يتوجه العبد بروحه وجسده وعقله ومشاعره ووجدانه وقلبه نحو ربه مستقبلاً القبلة رمز التوحيد والوحدة ليخاطب ربه وخالقه بألفاظ التوجه الفاصلة مابين مقدمات الصلاة وشروطها وبين أركانها التي سنبدأ الحديث عنها في ما بعد هذه الحلقة

 

 

ما قبل الإقامة

في الفترة الزمنية التي يقضيها المؤمن بين الأذان والإقامة يكون الدعاء فيها مستجاباً كما أخبرنا المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهي الفترة التي تبدأ بسماع الأذان والتفاعل مع ألفاظه وكلماته والاستجابة لندائه حيث يتوجه المؤمن بعد ذلك للوضوء ليطهر جسمه وروحه امتثالاً لأمر الله، واستعداداً للحظات الوقوف بين يديه والثناء عليه، ثم يُكمل استجابته لنداء خالقه بالتحرك إلى المسجد أو المكان الذي سيتخذه مصلىً له حيثما كان، وينتظر فيه إلى أن يجتمع مع بقية أخوانه من المؤمنين في هذه الفترة التي عبر فيها الإنسان عن كامل استجابته وترحيبه بلقاء خالقه، يرفع الله منزلته، ويقربه منه ويدخله في دائرة من يسمع كلامهم ويستجيب لدعائهم، ولذلك نجد المحتاجين إلى ربهم يستغلون هذه الفترة الزمنية فيلحُّون على الكريم الأكرم في عرض حوائجهم وكأنهم قد انتبهوا لمراد الحق جل وعلا الذي يحبب لعباده التعلق به والارتباط بحبله، فجعلوا حالهم من لحظة سماعهم لنداء خالقهم بدخول وقت الحضور بين يديه والاستعداد لذلك الحضور، وقت لا يخاطبون فيه أحد، ولا يناجون فيه غير خالقهم منذ ترديدهم لما يقوله المؤذن وحتى ذهابهم للوضوء، وعند الوضوء وبعده وحال توجههم للمساجد أو انتظارهم فيها وكأنهم قد دخلوا في حقيقة الصلاة مع دخول وقتها والإعلان عنها، ومع مقدماتها التي هي جزء منها، ولذلك نجد الصالحين من عباده والأئمة الأطهار قد سنوا لنا سنة الدعاء على لسان من يقيم الصلاة بمجموعة من الأدعية هي خلاصة ما يحتاجه المؤمن يدعو بها قبل الإقامة حتى لا يحرم من لم يدرك فضل ذلك الوقت ولم يدعُ فيه ربه ولكي لا تفوته فرصة الاستجابة، ومن هنا ندرك أهمية الإقامة ومكانتها وعظمة ألفاظها، وعظم جزيل ثوابه، حتى كانت مع الأذان وما بينهما (الوضوء) محلاً ووقتاً لنزول رحمة الحق على عباده باستجابته لهم في دعائهم.

وكل ذلك لارتباطها بالصلاة وبلحظات إقامتها بين يدي مالك الملوك، فما الذي نقوله في الإقامة، وبالأصح ما الذي أمرنا به الخالق جل وعلا لنقوله فيها وهي التي تسبق الصلاة بلحظات، وبعدها مباشرة نتوجه للصلاة؟ وما العلاقة بينها وبين الأذان؟ ولماذا سميت إقامة رغم أن ألفاظها هي ألفاظ الأذان؟ وما الحكمة الإلهية من ترديدها جهراً قبل كل صلاة؟ وهل لمعانيها علاقة بالصلاة ذاتها والخشوع فيها؟

نحن جميعاً اعتدنا في كل أوقات الصلاة أن لا ننتبه لأسرار الأذان والإقامة ولا التدبر في معانيهما٠

وعندما نقوم للصلاة نتلفظ بكلمات الإقامة التي هي غالباً كلمات الأذان وألفاظه أو نسمعها ولا نعيرها الاهتمام الذي يليق بها ولا نشعر في نفوسنا بأننا معنيون بالتأمل والتدبر في معانيها باعتبار أنها جزء من الصلاة، بل إننا نتعامل مع كل مقدمات الصلاة بما فيها الإقامة والتوجه وكأن لا علاقة لهما بالصلاة وقبولها والخشوع فيها لأننا ننظر إلى كل ما يسبق تكبيرة الإحرام التي ندخل بها الصلاة وكأنه لا علاقة له بالصلاة أو ليس له تأثير فيها.

وإذا كنا في الصلاة نفسها نخرج منها أحياناً بالتسليم ولم نعِ منها شيئاً ولا ننتبه وندرك أننا كنا نصلي إلا عندما نقول السلام عليكم ورحمة الله٠

 فما بالك بالإقامة والتوجه اللذين نقوم بهما قبل الدخول في الصلاة، فإن أغلب الناس على ما أظن وأنا منهم لا يخشعون ولا تكون قلوبهم حاضرة أثناء الإقامة والتوجه ويبقى حالهم هذا مصاحباً لهم بعد دخولهم ساحة قدس الحق ولحظات ثنائه ومناجاته، ولذا فنحن بحاجة للعودة إلى كلمات الإقامة وألفاظها والنظر فيها والاستماع إليها من جديد على أساس أنها مرتبة من المراتب الإلهية التي تأخذ بأيدينا للتأهل لملاقاة الحق جل وعلا وقد أزلنا كل الحجب التي تمنعنا من الوصول إلى منزلة الخشوع وحالة الإحسان ونحن بين يديه.

 

فما الذي نقوله أو نسمعه ونحن نقوم إلى صلاتنا؟ فلنستمع إلى الإقامة: "الله أكبر الله أكبر، أشهد ألا إله إلا الله أشهد ألا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة حي على الصلاة، حي على الفلاح حي على الفلاح، حي على خير العمل حي على خير العمل، قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله".

فماذا تعني الإقامة في ذاتها وفي هذه اللحظات؟ وما المعاني والمفاهيم والحقائق التي أراد الباري عز وجل أن نستحضرها ونستقبل بها لقاءنا به ووقوفنا بين يديه في أعظم الواجبات التي أمرنا بها؟

وهل وقع ألفاظها ومعانيها ستختلف علينا باعتبار اللحظة والمكان والحالة التي نرددها فيها عن لحظات سماعنا لها أثناء الأذان؟ رغم أن ما أضيف إليها ليس سوى كلمة "قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة"؟

إن هذه الكلمات نفسها هي التي سمعناها في الأذان وهي التي أيقظت مشاعرنا وعقولنا وسمت بأرواحنا إلى الحقائق الكبرى التي تحكم في هذا العالم وعلينا الشهادة بها ونحن منغمسون في حياتنا أو ذاهبون في نومنا ولتخبرنا بأن وقت لقاء الخالق جل وعلا قد بدأ وحان ولنشارك الوجود كله في الترحيب به والاستعداد له..

وها هي الكلمات ذاتها يأمرنا الحق جل وعلا بالجهر بها ولكن هذه المرة بعد أن استجبنا لنداه وتطهرنا للقائه واتجهنا إلى بيوته واجتمعنا للحضور في حضرته وتهيأت أرواحنا لمناجاته وألسنتنا لمخاطبته وأجسادنا للركوع والسجود على أعتاب رحمته، وصرنا قاب قوسين أو أدنى من العروج إلى الأفق الأعلى من رحاب كلماته..

فما الذي علينا فهمه وإدراكه والإحاطة والإيمان به وعلى أي درجة من الفهم واليقين والسعة يمكن التعامل والنظر إلى تلك الكلمات التي تنطق بها ألسنتنا وتسمعها آذاننا، والتي لا يمكن للسماوات العلى باتساعها أن تستوعبها؟

الإقامة

فما الذي نستحضره ونحن نقول الله أكبر الله أكبر قبل لقائه؟ وكيف سيكون حالنا ونحن نشهد ألا إله إلا هو ونحن على وشك مقابلته؟ ونشهد أن محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم رسوله شهادة من استجاب وتطهر وينتظر الإذن بالمثول؟ وهل دعوته لنا للصلاة وترحيبنا لها في تلك الثواني واعتقادنا فيها بأنها الفلاح وأنها خير الأعمال قد وقر في قلوبنا واستسلمت له جوارحنا؟ وهل حقيقة إقامة الصلاة قد تحققت ونحن نسمع أو نقول قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة؟ إنها لحظات الإقامة لحظات مهيبة نختبر فيها درجة عبوديتنا للخالق ودرجة إخلاصنا لإيماننا به، ومدى شوقنا وتعلقنا للدخول في رحاب الثناء عليه مع قولنا الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، ونكون قد استكملنا جوانب التزكية والهداية التي هدانا الله إليها ولأجلها سجدت لنا الملائكة ولم يبق أمامنا سوى خطوة واحدة نحرر فيها أنفسنا ونعلن توجهنا إليه.

التوجه

هو تلك الكلمات الإلهية المأخوذة من كتابه الكريم التي ندبنا المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم للتوجه بها في اللحظة التي بوجوهنا وأجسادنا وقلوبنا إلى بيته الحرام (الكعبة المشرفة) التي جعلها الله رمزاً لتوحيده وإفراده بالعبادة، ورمزاً لوحدة المسلمين حيثما كانوا منذ أن أمر الباري جل وعلا أبا الأنبياء إبراهيم عليه السلام ببنائها وتطهيرها للعاكفين والركع السجود، وأمره أن يؤذن في الناس بالحج إليها، ثم جعل التوجه إليها واستقبالها شرطاً من شروط صحة الصلاة في تلك اللحظات التي تسبق تكبيرة الإحرام بثوان معدودة نعلن تحرير أنفسنا فيها من عبودية أحد غير الله ونؤكد على إخلاصنا له في توحيده قبل أن يأذن لنا الحق جل وعلا بالمثول بين يديه والدخول إلى ساحة رحمته والتشرف بالثناء عليه.

نقتدي في ذلك بخليل الله مَن كرَّمه فجعل في ذريته الأنبياء والرسل، وخصه ببناء أول بيت وضع للناس، ومن أنزل عليه أصل الشرائع السماوية من بعده.

نقتفي أثره بأمر ربنا ونعلن –كما أعلن- إفرادنا للحق جل وعلا في عبادتنا وعبوديتنا امتداداً لإعلانه الذي قاله في قومه كما حكى القرآن الكريم عنه في قوله تعالى: (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ) [الأنعام:79]، فيقول كل منا: "وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض..." ثم نقول بعد ذلك ما قاله خاتم الأنبياء وسيد المرسلين صلى الله عليه وعلى آله وسلم -دعوة أبيه إبراهيم عليه السلام- الذي أمره ربه في سورة الأنعام فقال تعالى له: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ، قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ، لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ) [الأنعام:161-163]، فيقول كل منا أيضاً كما قال المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم: "إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي ..."، فنكون امتداداً له في توحيده وإخلاصه وتوجهه وعباداته.. كما كان امتداداً لأبيه إبراهيم عليه السلام في ملته ومسيرته، ثم نتابع المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيما خاطبه به ربه وأمره في قوله تعالى في سورة الإسراء: (وَقُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) [الإسراء:111].

وهكذا جاء التوجه للصلاة ووصلت إلينا صنيعته التي رواها الإمام علي عليه السلام عن خاتم الأنبياء صلى الله عليه وعلى آله وسلم على النحو التالي:

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم "وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين، الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل".

فما الذي تعنيه هذه الكلمات الإلهية؟ وما الذي أراده الحق عز وجل أن يستقر في قلوبنا وعقولنا وتمتزج به جوارحنا ومشاعرنا ونحن نقرأها ونرددها أكثر من خمس عشر مرة في كل يوم؟ من معاني ومفاهيم تتصل بطبيعة إيماننا وعلاقتنا به وارتباطنا بقيوميته وعلمه وإحاطته وتوحيده، ونظرتنا للمخلوقات من خلقه، ثم ما الذي تعنيه لنا ونحن على وشك المثول بين يدي المولى عز وجل وقبل لحظات من الدخول في تكبيره وحمده وتعظيمه وتسبيحه ومخاطبته والتذلل بين يديه ومناجاته والثناء عليه وقبل الإعلان عن كامل خضوعنا واستسلامنا له؟

إن كل منا يدرك بمدى تغلغل صدق الكلمات التي يعبر فيها عن حاله وواقعه ودرجة إيمانه ومدى مصداقيته ما يقوله عن نفسه، فهو يقول بلسانه: "وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً" تعبيراً عن توجه جوارحه وقلبه في تلك اللحظة لخالقه مَن خلق السماوات والأرض، الذي تتوجه إليه كل المخلوقات في تلك اللحظة وفي كل الأوقات، وأنه حنيف أي مخلص لا يميل عن الحق جل وعلا إلى غيره في توجهه هذا، ثم يؤكد أنه لا يشرك أحداً غير الله في إيمانه أو عمل جوارحه، ثم لا يكتفي بذلك الإعلان والإقرار بل يؤكد أن صلاته وعبادته بلا استثناء وكل ما يتقرب به إلى خالقه من الطاعات هي لله وحده ثم يوسع من دائرة تأكيد عبوديته فيقول: "ومحياي ومماتي لله رب العالمين وبذلك أمرت" أي أن حياتي ودنياي وآخرتي بكل تفاصيلها هي ملك لله الذي يجري فيها أمره، ولذلك فأنا أقر له بربوبيته، فهو رب العالمين، وأنا لا أتوجه إلا إليه، ولا أقصد أحداً غيره، فينفي عن نفسه الشرك، وعن الله الشريك، ثم يقول وأنا من المستسلمين المنقادين الخاضعين له على جميع أحوالي، ثم ينتقل إلى المرحلة الأخيرة في توجهه الذي يتجاوز فيها حالة الإقرار والإعلان والتأكيد في مخاطبة ربه ومولاه إلى الدرجة الأعلى والأسمى وهي التي يحمد الله فيها على ما كان قد أقر به وأذعن له، وينسب لربه جل وعلا كل المحامد إيماناً بألا أحد غيره المحمود في جميع أفعاله، وأنه وحده الذي يستحق الحمد على الدوام يحمده في تلك اللحظة على أنه لم يتخذ ولدا، فالجميع خلقه وهو ربهم، فساوى بذلك بين جميع خلقه في عبوديته التي شرفهم بها، ويحمده لأنه لم يكن له شريك في خلقه وحكمه، ولذلك فلا إله للخلق غيره ولا مقصود سواه ولا معبود إلا إياه لا إله إلا هو جلّت عظمته وتعالى اسمه له الحمد في السماوات والأرض وله الحمد في الأولى والأخرى، وكيف لا يُحمد وقد جعلنا عبيداً له وحده، ولم يكِلْ أمرنا إلى أحد من خلقه، ويحمده المتوجه إلى بابه لأنه لم يتخذ له ولياً، أي قريباً أو صديقاً أو حبيباً أو ناصراً من أحد المخلوقين الأذلاء والمقهورين لعظمته، بل جعل عباده الصالحين أولياءه وأحباءه وأنصاره والمقربين عنده.

ومع نطقه بآخر كلمات التوجه لا يكون بينه وبين أعظم وأكبر ذكر لله على أرضه سوى أن يكبِّر "الله أكبر".. فيدخل في عالم الفيض والفضل الإلهي الذي فتح أبواب سماواته لكل من دخله..