أهلاً رمضان أثرت الذكريات فهاجت الأحزان

نشر بتاريخ: جمعة, 10/06/2016 - 12:00ص
الكاتب: 

رمضان، زائر كريم عزيز على النفس، قدومه طالما هيج أشجاني، وأيقظ ذكرياتي، وأضرم لواعج الحنين والشوق إلى طفولتي، وإلى مدينتي الصغيرة تلك المدينة الشامخة على رأس الجبل العالي، تعانق النجوم في مثل هذه الليالي، وتتطاول على الشمس الساطعة صباحاً وأصيلا، تلك المدينة الصغيرة المتعالية المحلقة نحو الفضاء المشرفة على القرى المتناثرة حولها كعرائس تزين الروابي والسهول ذات السندس الأخضر، تلك المدينة التي أبت إلا أن تكون فوق عش النسر.

في تلك المدينة العالية الغالية على النفس والقلب –مسقط الرأس ومرتع الطفولة وموطن الصبا– تعودت أن التقي برمضان معانقاً شمس صباحه الجميل المختلفة عن شمس غيره من الأيام والشهور، فهي الشمس التي تبعث الأمل والتفاؤل في الضحى وفي الأصائل التي تتسم شمسها بالهم والكآبة في غير رمضان ...هناك وفي مدينتي الصغيرة ،تعوّدت أن ألقى رمضان طفلا، فمراهقا، فشابا يافعا ،تعودت أن ألقاه  بفرح وسعادة لامحدودة ليتها تعود ولو للحظة من زمن، سعادة بلا حدود في عالم الطفولة ،بأحلامه البيضاء ،وبراءته ونقائه .في ذلك العالم النقي –عالم الطفولة – كانت أطراف الأرض تنتهي في ذلك الأفق القريب حيث يمتد البصر ويبلغ النظر...وكانت الشمس في المغيب تستقر في البحر وتنام كما ينام البشر، موكلة أمر الليل إلى نجوم السماء التي كانت أصلاً صبايا جميلة تسكن الأرض لكنها وقعت في الخطيئة فرفعت بقدرة الإله وتحولت إلى نجوم.

في ذلك العالم البريء النقي كانت (العافية)وحشاً كبيراً أرجله في الأرض ورأسه في السماء، يعاقب بعنف كل من لا يسمع أو يطيع أمه. وكانت الأمطار عبارة عن دموع ملائكة الرحمة في السماء الدنيا ..أما السحب الداكنة فتحملها ملائكة غلاظ شداد ويأتون بها من أرض الظلمات.....

.. أبطال ذلك العالم البريء ومغاويره الشجعان، كانوا يصارعون الأنس والجان، والوحوش والأشباح، ويسخرون الرياح والعواصف والبحار والأنهار لتحقيق مآربهم، ينتصرون دائما، ويهزمون الأنس والجان والملك والسلطان والأمراء والأذواء،  ويُزفَّون على بنات ملك الملوك أجمل بنات الدنيا في حفل بهيج ترقص فيه الشمس ويغني القمر .

وفي ذلك العالم-عالم الطفولة- وحده كانت قوى الخير دائما تنتصر على قوى الشر، وكان النور في النهاية قاهراً للظلام، والحق زاهقاً للباطل ومبدداً لقوته وعنفوانه وجبروته ، في ذلك العالم البريء، كان رمضان يأتي راكباً على فرس أبيض، قاطعا للمسافات في سرعة البرق، إلى درجة تعجزنا أيضا عن ادراكه فلا نراه ولا نشعر  إلا ونحن نعانق شمس يومه الأول، ونصوم الساعات الأولى من صباحه ،ثم نؤجل بقية الصيام –بعد الشعور بلهيب الجوع –إلى ساعات أخر في أيام تالية، فتكتمل الساعات اياماً معدودة يشهد باكتمالها الآباء والأمهات، ونفتخر نحن بعدد الأيام التي صمنا ها على دفعات متقطعة نختلس فيها الطعام ونأكله خفية من الأصدقاء، وبعد التهامه نفخر بأنا مازلنا في صيامنا يفحص كل منا لسان الآخر ،وبياض اللسان هو الدليل القوي على صيام صاحبه ..نطلب الطعام من الكبار ومع ذلك فنحن صائمون والويل لمن لم يصدق من الكبار وتظهر على وجهه علامات الاقتناع

عند الأصيل، نقف صفا ننتظر الكبار العائدين من السوق، ونتطلع بشغف إلى ما تحمله الأيدي غير آبهين بالوجوه العابسة والتحذير المتكرر(لا تحاكي صائم بعد العصر)...

أما أحلى اللحظات فقد كانت لحظة الغروب، نتأمل شمس المغيب، نستعجل غروبها، في يد كل منا قطعة قماش تحوي فطورا شهياً طيب الرائحة عذب المذاق ،نسترق منه لقيمات خفية انتقاما من شمس أبطأت في الغروب ،ولم تستجب لنداءات الأطفال الصغار وأهازيج البنات الصغيرات المتجمعات في معاريش خاصة أمام كل منزل يغنين لشمس الغروب ويستعجلن المؤذن ويذكرن الصائم بما أعد له من أصناف الطعام، ويحولن المدينة إلى مهرجان حافل صاخب، ويأتي الليل ويطول السهر ،ونغالب النوم ونتسلى عنه بالفوانيس ،بالأناشيد، بالألعاب الطريفة ،بتلاوة القرآن ،بالحكايات المسلية المغرقة في الخيال التي لا يقطعها إلا صوت طبل السحور وقدوم (المُسَحَّر) بفانوسه المألوف وخطواته الفزعة ، إنه معذور فالويل كل الويل له إن خطرت في رأس أحدنا فكرة مجنونة ..يجمع الزملاء ويعد الخطة ويتفرق الجميع وراء الجدران والبيوت والأشجار حتى إذا ما ظهر" المسحر" بطبله أمطرناه بسيل من الحصى والحجارة التي قد تصيبه أو تكسر فانوسه ،وتظلم دربه فتغمرنا حينها فرحة طفولية شقية ، وتنطلق الضحكات مدوية ويهرب الجميع عن أعين الكبار ونمضي كل إلى سبيله، والبعض يعود إلى المسجد يتلوا القرآن من جديد متظاهراً بالبراءة منصاعاً لأوامر الكبار في أدب جم

نتسابق أحياناً في تلاوة القرآن في يد كل منا مصحفه، والأسرع والأذكى والأمهر من يسبق الآخرين ويكمل السورة أو الجزء قبلهم ،أدهشتني مهارة وسرعة ابن الحاكم، ذلك الطفل الصغير المدلل فاكتشفت بعد حين أن دهشتي واعجابي في غير محلهما، وان صاحبنا كان يدرس صفحة ويغفل أخرى ليسبق الآخرين، وعرفت بعض صورالخداع والكذب والانتهازية، ، وفي صوح مسجد ((صبح)) وبعد التلاوة نتجمع ونسعد بالاستماع في انسجام إلى القصص والحكايات الخيالية والأساطير الساحرة التي كان يسردها بعض الأطفال نقلا عن الجدات، ولا أنسى ذات ليلة حكاية مرعبة عن عالم الجن والأشباح رواها أحدهم وعرض صورا مرعبة لشخصيات من الجان والمردة والشياطين وجاء دور الآخرين من اخدان الطفولة وحكاياتهم في تلك الليلة بارعة في زرع الرعب والفزع، سمرت الجميع في أماكنهم وخشي الكل من العودة إلى البيت بمفرده، بصعوبة كان انصرافي، ولولا الخوف من شماتة الأصدقاء لاستعنت بمن يوصلني إلى البيت، حملت عصاتي في يد والمصباح الكهربي (الكشاف)في اليد الأخرى... وفي الطريق ظهرت أشجار الفلفل والبلس وقد علتها الأشباح والعفاريت وتتالت صرخاتها وأصواتها المبحوحة، واستحال حفيف الأوراق وعويل الرياح إلى أصوات مخيفة ومرعبة ،وبدت بعض الجدران في هيئة وحوش كاسرة هائلة مخيفة جعلتني أرتعد وأتلو آية الكرسي والمعوذات بصوت مرتفع ،لفت انتباه أحد الجيران الذي سمعني وقرر أن يخرج لمرافقتي... وعلى ضوء القمر فاجئني بصوته وظهر (بكبوته) أو دجلته العسكرية الغبراء في هيئة مارد من الجان فصرخت صرخة أفزعت النيام وتلتها ثانية، وثالثة، ورابعة، ولم أتوقف من الصراخ إلا وأنا في باب البيت على صوت أمي وخالتي المذعورتان من صراخي، وكانت ليلة لا أنساها ،

وهكذا مرت الأيام وجاء رمضان مرة وأخرى ليجد البراعم الصغيرة وقد أخذت تنمو وتكبر، وقد أخذت تصرفاتنا شكلا آخر تغيرت بمرور الأيام والأعوام وكبرنا، وكبرت أحلامنا، واختلفت نظرتنا إلى الحياة، وافتقدنا بمرور الزمن تلك السعادة الغامرة اللامحدودة ،وبدأ الهم يكبر ويكبر، وبعد أن كنا لانعرف إلا حقوقنا ،شعرنا بأن علينا واجبات، وانتقلنا من عالم الصغار بأحلامه وأمانيه وبراءته وصفائه ونقائه إلى عالم الكبار بهمومه ومتاعبه ومسئولياته وشقائه واليوم وهانحن نستقبل رمضان الكريم في ديار غير الديار، ومكان غير المكان ،ونرى فيه وجوها غير الوجوه التي ألفناها، وقد ودعنا تلك المدينة الصغيرة إلى هذه المدينة الكبيرة، وحملنا الدهر غرباء من البساطة إلى التعقيد ،من هدوء الريف وسحره ومناظره الخلابة إلى ضجيج المدينة وزحامها ،وغبارها، وجوّها الكئيب، من البساطة المتناهية والطمأنينة وراحة البال إلى التعقيد والمشاكل والقلق والصراع .

تحولت البسمة إلى عبوس وتجهم، واستحال الأمل  الحالم يأساً  ...كبرنا وليتنا لم نكبر ،وعينا الحياة وليتنا لم نعي ،فنجد الشقاء في طريقنا ،ونُسام الذل والهوان ،ونتجرع المآسي والهموم ،أين منا عالم الطفولة ذلك العالم البريء حيث الناس سواسية، لا فروق تذكر بين غني وفقير ومواطن ووزير، حيث الحياة عذبة طاهرة نقية ،من لنا بلحظة سعادة غامرة من تلك اللحظات؟ من لنا بفرحة في عيد وزهو في تغريد؟ من لنا بحلمٍ لا تعكره الهموم، وأمل لا يقتله اليأس؟

وها نحن نحمل فوق طاقاتنا، ونواجه تركة ثقيلة كبيرة ،وندفع الثمن الباهض لأخطاء الأجيال التي سبقتنا ،لقد شاء الله أن نواجه مرارة وعلقم العصر الذي لم يتصور الآباء والأجداد بأنا سندفع فيه الثمن غالياً، ونحصد هذه النتائج المريعة لأخطاء وتفريط وقصور وتهاون في تحصين الأجيال والحفاظ على التأريخ والتراث والعادات والتقاليد والفكر الصافي النقي حسبوها صغيرة ،فكانت نتائجها مريرة رأينا ومررنا بأحداث يشيب لها الولدان؛ووأدركنا وليتنا لم ندرك أنافي زمن الهزيمة والنكسة والنكوص الفكري والحضاري عاصرنا الدجل والكذب والبهتان والزور والنفاق يحكمنا ويتحكم في عالمنا واكتشفنا أن من كنا نظنهم رواد النهضة والتحرير وفرسان الوطنية وقادة الامة وحماة العقيدة ليسوا سوى دمى ولعب وعبيد وجوارٍ لقوى الشر والطغيان وعملاء للغرب والشرق وأحذية للصهاينة والامريك.وعرفنا أن شيوخ الدين والإسلام وأدعياء الحفاظ على الكتاب والسنة وحماية الحرمين قد مزقونا شر ممزق وكفرونا واستباحوا دماءنا وأعراضنا وأفتوا بقتلنا وإبادتنا وشرعنوا للمذابح والمجازر والجرائم والجرائر التي يندى لها الجبين وأوقدوا نيران الحروب والفتن في كل قطر ووطن ووجهوا بوصلة العداء إلى الداخل الاسلامي ووحاربوا المؤمنين ووالوا وانحازوا ونصروا اعداء الدين

وهاهو رمضان عام منصرم يمضي على أحداث وحروب وفتن ومحن وقتل ودمار ومعارك ودماء وأشلاء لاتراعي لروحانيته وفضله وقداسته وخيره وبره حرمة ويأتي رمضان عام جديد على احداث ومحن وتدمير وفتك أشد، وعدوان همجي غاشم يشنه آل سعود أتباع النصارى واليهود ويقوده مرتزقة الداخل وشذاذ الآفاق من عتاولة الشر والإجرام الذين استباحوا الحرمات ودنسوا المقدسات.

رمضان يا شهر التوبة والمغفرة والعتق من النار، نسأل سبحانه وتعالى أن يعتق فيك رقابنا من النار وأن يدفع عنا شر الأشرار وكيد الفجار وأن يحفظ اليمن وسائر بلاد المسلمين ويهزم الطغاة والبغاة والغزاة من المجرمين، وأن يخلّص القدس الشريف والحرمين الشريفين من قبضة النصارى واليهود وأتباعهم آل سعود.

الدلالات: