ولذكر الله أكبر

نشر بتاريخ: ثلاثاء, 24/11/2015 - 11:44ص

الصلاة من الأذان إلى السلام     

 

(١) مع الأذان.           

تبدأ رحلة الإنسان في هذه الدنيا مع ذكر الله الأكبر "الصلاة" والدخول في أجوائها الرحمانية مع الإعلان الإلهي من كل يوم، الذي شرعه الخالق جل وعلا للإعلام بدخول وقتها بتلك الألفاظ المشروعة والطريقة المحددة في الأذان، التي علمها لنبيه وخاتم رسله لتكون أول الكلمات التي تتلقاها وتتفاعل معها أسماع المؤمنين وأفئدة الصالحين وجوارح المشتاقين مع دخول أول لحظات أوقات الصلاة وهي التي تنادي وتقول:

.)("الله أكبر الله أكبر، أشهد ألا إله إلا الله أشهد ألا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة حي على الصلاة، حي على الفلاح حي على الفلاح، حي على خير العمل حي على خير العمل، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله"

                                  ******

فما الذي أراده الباري عز وجل من خلال ألفاظ الأذان وكيفيته غير الإعلام بدخول وقت الصلاة، وهو الذي جعل الشمس دليلاً عليه في أوضاعها المختلفة قبل طلوعها وعند استوائها وحال غروبها وذهاب شفقها ثم جعلها علامات لدخول وقتها؟ وما هي الوظائف الربانية للأذان كجزء من الصلاة نفسها؟ وما دوره في التهيئة الكاملة التي تشمل تفكير الإنسان وعقله وجوارحه ونفسيته للحضور بين يدي خالقه ليكون ذلك الحضور كما يريده الحق جل وعلا؟

ولماذا يسن لمن يسمع الأذان أن يردد ما يقوله المؤذن إذا كان الهدف منه الإعلام بدخول الوقت فقط؟

ربما بالتأمل في معاني ألفاظ الأذان ودلالاتها وفي الأجواء والطريقة التي يصل بها إلى الناس يستطيع الإنسان المحب للقاء ربه الوصول إلى بعض الإجابات والأسرار المتصلة به، وإن كانت بلا شك ستكون محاطة بالقصور البشري ومكبلة بالرؤية المحدودة ومحجوبة بالذنوب المتراكمة..

من اللحظة الأولى التي يسمع فيها المؤمن هذا النداء الإلهي بألفاظه الربانية، الذي يعلن دخول وقت الحضور في محضر الحق جل وعلا تبدأ معاني الصلاة الواسعة وأجواؤها الإيمانية ونسائمها العلوية بالورود والتوافد وتبدأ معه تباشير قرب موعد اللقاء والاتصال والثناء للحق عز وجل وبشارة نزول الإذن السماوي بالسماح باللقاء المخصوص في الوقت المخصوص، فيستيقظ النائم وينتبه الغافل ويتوقف المشغول بالدنيا والمنهمك فيها وتتطلع القلوب نحو باريها وتنجذب الأرواح نحو مالكها، وتتجه الجوارح للاستجابة لربها والاستعداد للقائه..

                                 *****

وإذا تأملنا في دلالات ومعاني ألفاظ الأذان وما الذي يمكن أن تحدثه في أذن السامع وقلبه فسنلاحظ أولاً أنها تتمحور في أربعة مواضيع: تعظيم الله، الشهادة لله بالوحدانية والألوهية، الشهادة لمحمد بالرسالة، الدعوة إلى الصلاة والترحيب بها، كما يمكن اعتبارها تتمحور في موضعين فقط الأول يختص بتعظيم الله والشهادة له بالوحدانية ولمحمد بالرسالة، والثاني يختص بالدعوة إلى الصلاة والترحيب بها، ولكل من التقسيمين دلالاته وأسراره..

                                     *

كما نلحظ من تكرار ألفاظ الأذان أن تعظيم الله بقول المؤذن (الله أكبر) قد تكرر أربع مرات في الأذان في أوله وفي الجزء الأخير منه، والشهادة لله بالوحدانية تكررت ثلاث مرات، في أول الأذان مرتين بعد تعظيم الله ومرة واحدة ختم بها الأذان بدون لفظ (أشهد)، في حين الدعوة إلى الصلاة والترحيب بها قد تكررت ست مرات، إما باسمها أو بصفتها الفلاح وخير العمل.

والأمر الذي لا شك فيه أن المعاني التي تطرق إليها الأذان لها علاقة مباشرة بالصلاة نفسها وتهيئة المسلم لها، وأن تذكير المؤمنين بتلك المعاني مع دخول وقت الصلاة وقبل إقامتها غاية إلهية تهدف إلى إحياء تلك المعاني في عقل المؤمن وقلبه لكي تستقر فيها قبل أن يخطو الخطوات العملية نحو الصلاة.

                                       *

وإنها أي تلك المعاني قد ابتدأت بتعظيم الله (الله أكبر) من خلال إيراد اسمه الجامع (لفظ الجلالة) الدال على ذاته والمشتمل على جميع أسمائه وصفاته، مما يعني أن تعظيمه المطلوب استحضاره شامل وجامع لكل شيء في عالم الغيب والشهادة، وأن مظاهره بينة واضحة في كل ما يقع عليه البصر أو تسمع عنه الأذن أو يخطر على البال، فعظمته جل وعلا وكبرياؤه أول ما يدركها المرء في نفسه من خلال القيومية المطلقة على حياته الوجودية والجسدية والروحية وكل ما يتعلق بها من قبل وجودها وأثناء مكوثها في الدنيا وعند رحيلها إلى مستقبلها الأخروي، ثم من خلال الهيمنة المطلقة للعلي العظيم على كل ما حول الإنسان سواء في السماوات أو في الأرض من أبسط مخلوق لا يمكن رؤيته إلى أعظم مجرة في الكون لا يمكن تخيلها، كما أن المولى عز وجل أكبر وأعظم من أن يوصف أو تدرك تجليات أفعاله المبثوثة في كل مخلوقاته لعظيم دقة خلقه فيها ولعظيم حكمه فيها، فضلاً أن نصف أو ندرك تجليات أسمائه وصفاته الشاهدة بها آياته الواضحة في كل ما في السماوات والأرض ومن فيها التي نعجز اليوم بمجموعنا البشري وتطورنا التقني المذهل أن نحيط علماً بمخلوق واحد منها إحاطة شاملة كاملة، بل نعجز عن حصرها وعدها، فكيف يمكن الإحاطة بمن خلقها أو باسم من أسمائه عظمت قدرته وجل جلاله في خلق واحد من خلقه.

وأن الذي في وسعنا -نحن البشر- ونحن نسمع (الله أكبر) تملأ الوجود أن نعود إلى قدراتنا المحدودة والمساحة المتاحة لنا من المعرفة فنحاول أن نعرف الله بها ونسأله أن يفتح لنا الأبواب المغلقة والطرق الموصدة حتى نعرفه حق المعرفة التي ترفعنا إلى مصاف أولياءه والخلص من عباده ولنجاهد حتى تكون قلوبنا محلاً لهذه المعرفة فتكبر الله جوارحنا وقوانا الظاهرة وقوانا الباطنة وتكون العظمة والكبرياء فيها محصورة ومقصورة على الذات العليا المقدسة، مما يجعلنا كبشر ندرك البون الشاسع بين ما ننوي فعله من الثناء على الله وتعظيمه كما يليق بجلاله وجماله وبين عجزنا وقصورنا في عبادته حق العبادة والثناء عليه كما يستحق جل وعلا أو كما يجب على هذا المخلوق..

                                       *

هذه المعاني المحدودة القليلة جداً للفظ (الله أكبر) الذي أراد المولى عز وجل أن يبدأ به الأذان للإعلام بدخول وقت الصلاة ويكرره علينا فيه أربع مرات، والتي حاولنا التذكير ببعض معانيه التي لا تساوي شيئاً مما يحمل هذا اللفظ من المعاني اللامحدودة، الذي أراد الحق جل وعلا أن يكون معلناً على أسماعنا ويطرق أسماع قلوبنا خمس مرات في اليوم ونكرره في إقامة الصلاة ونعيده مرات ومرات في صلاتنا وكأنه قوام الصلاة وركنها الأول وأعظم أذكارها والمفهوم الأساس الذي تبنى عليه عباداتنا.

                                       ***

المعنى الثاني في الأذان الشهادة لله بالألوهية والمعلوم لدينا أن الشهادة هي التي تنقل الإنسان من الكفر إلى الإيمان، ومن ولاية الشيطان إلى ولاية الرحمن، وبها يصبح واحداً من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم، فيعصم دمه وماله وعرضه، ويستحق ثواب الله العظيم (الجنة) أو عذابه الأليم الشديد (النار)، والشهادة مقتضاها الإخبار عما يراه الإنسان بعينه فيشهد عليه بلسانه ويكون موقناً به في قلبه.

ومن يقول أشهد ألا إله إلا الله فقد قال الشهادة بمراتبها الأربع وهي الشهادة القولية والفعلية والقلبية والذاتية، وهي تبدأ من المشاهدة بالنظر ثم يعبر عنها باللسان عما شاهده ويكون متيقناً بوقوعها بقلبه لأنه شاهدها بنفسه، والشاهد يأتي بمعنى الحاضر، ولهذا نقول شهدت الواقعة أو المباراة، ولذا يقال في قوله تعالى (لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ)[الفرقان:72]، بمعنى لا يقولون الكذب الذي لم يروه أو لا يحضرون الزور فيشاركون فيه بحضورهم.

وعندما جعل الله الشهادة الموضوع الثاني في الأذان ومن أهم مضامينه فإن الحق عز وجل أراد بذلك حكماً ومصالح وأسراراً في ذلك، لأن تلك الشهادة إذا سمعها المؤمن أولاً ثم رددها مع المؤذن فإنها تحيي في كيانه جميع مصادر الاستجابة فيه من اللسان الذي ينطق بها إلى الجوارح التي تتفاعل مع تلك الشهادة فتنشط وتتشوق للقاء ربها، إلى القلب الذي استيقن بتلك الشهادة، إلى نظر المؤمن وإيمانه اليقيني ووجوده الواقعي في الدنيا الذي يشهد بذاته مع ملائكته بأن لا إله في الوجود ولا مؤثر ولا يستحق العبادة ولا يطاع إلا الله الذي له ملك السماوات والأرض.

                                   ***

وموضوع المعنى الثالث هو الشهادة بأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ومن يشهد بهذه الشهادة فقد ألزم نفسه أمام الله وأمام خلقه وملائكته بالإيمان والعمل بكل ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ونزل عليه من أوامر ونواهٍ، وأولها العمل بمقتضى هذه الشهادة والاستجابة بالاستعداد الكامل للصلاة والمسابقة في إقامتها كما أراد الحق جل وعلا.

                                     ***

أما المعنى الرابع الذي تضمنه الأذان فهو الدعوة إلى الصلاة باسمها أو بكونها الفلاح أو خير الأعمال، واتفقت معاجم اللغة على أن معنى حيَّ على الصلاة معناها هلموا إلى الصلاة وهي دعوة يدعو بها المؤذن بقية المؤمنين باسم الله ونيابة عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كما يقول لهم هلموا إلى خير العمل، ومع أن (حيَّ) تحمل معاني أبعد دلالة من هلموا التي تعني الحثّ من قبل الداعي فإن المستمع مثلاً لمن ينادي ويقول (حي على الجهاد) فإنه يردد نفس الكلمة ويقول مستجيباً (حي على الجهاد) وهنا يتحول معنى (حي) من هلموا إلى معنى الترحيب والاستبشار، ألا ترى أننا عندما نعبر عن فرحتنا وترحيبنا واستبشارنا بأخ عزيز نقول له حيَّ حيَّ.. وكذلك يقول من يسمع المؤذن ينادي (حي على الصلاة حي على الفلاح حي على خير العمل) فإنه يبتهج فرحاً ويسعد بقدوم موعد لقاء الحبيب ويقول مرحباً وأهلاً بالصلاة التي تصلنا بالرحمن الرحيم أهلاً ومرحباً بالفلاح والفوز الذي ينتظرنا ويدعونا إليه رب العزة أهلاً ومرحباً بخير الأعمال عند الله وخير الأعمال الموصلة إليه، وهكذا يرقص قلب المؤمن فرحاً وتغمره السعادة بقرب موعد حضوره في محضر رب العزة، الذي اختصه به وشرفه بهذا اللقاء.

                                      *

أما إذا قال المستمع للأذان لا حول ولا قوة إلا بالله عند سماعه (حي على الصلاة، حي على الفلاح) فإن المعنى الذي يختلج في صدره ويختلط بروحه ودمه أن لا حول له في الاستجابة لنداء ربه ولا قوة لديه تعينه للوصول إلى مرضاة خالقه إلا بالله وبعونه وقوته التي لا يتحرك شيءٌ في الوجود من حال إلى حال إلا بأمره وبقوته.

 

الحلقة القادمة  ( الوضؤ ) الجزأ الثاني من كتاب الصلاة ذكر الله الأكبر ...