تفسير سورة القدر للسيد العلامة/ بدرالدين الحوثي

نشر بتاريخ: ثلاثاء, 07/07/2015 - 5:12م

{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} يقول اللّه ـ جلَّ جلاله ـ : {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ أي أنزلنا القرآن {فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} قال (صاحب الكشاف): ((عظم القرآن من ثلاثة أوجه، أحدها: أن أسند إنزاله إليه وجعله مختصاً به دون غيره، والثاني: أنه جاء بضميره دون اسمه الظاهر شهادة له بالنباهة والاستغناء عن التنبيه عليه، والثالث: الرفع من مقدار الوقت الذي أنزل فيه)) انتهى.

قلت: وفي الوجه الأول زيادة الإسناد إلى عظمته وجلاله حيث قال: {إِنَّا} ولم يقل: (إني أنزلت) فأفاد: أنه من مقتضى عظمته وجلاله مثلاً لكرمه وفضله ورحمته وعدله وحكمته وعلمه وقدرته، وفيه زيادة التأكيد بـ(إن) في قوله تعالى: {إِنَّا} فهو تأكيد لمضمون الجملة، وما تدل عليه من عظم شأن القرآن.

و{لَيْلَةِ الْقَدْرِ} من ليالي شهر رمضان، بدليل قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} وقد عظم اللّه شأنها بهذه السورة.

{وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} هذا تعظيم لها، كما قال تعالى في تعظيم القيامة: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} وفي (تفسير الإمام القاسم (ع)): ((وتأويل {وَمَا أَدْرَاكَ} فهو: ما يدريك لولا ما نزلنا من البيان فيها عليك {مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} في القدر والكبر، وما يضاعف فيها لعامله من الأجر والبر)) انتهى، فأثبت تعظيمها، وزاد جعل الإخبار بها من دلائل النبوة.

{لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} في (تفسير الإمام القاسم ): ((فهي ليلة خير من ألف شهر جعلت لبركتها ويمنها في التضعيف لها وبالأضعاف، كعشرة آلاف ليلة وعشرة آلاف ليلة وعشرة آلاف ليلة، فذلك ثلاثون ألف ليلة ونحوها تامة جعلت مقداراً مضاعفاً لليلة القدر، تشريفاً لها وكرامة، وهي ليلة مقدسة يضاعف فيها كل بر وعمل صالح لمن عمل به فيها من أهلها، فيزاد على تضعيفه من قبل ثلاثين ألف ضعف لقدرها وفضلها، ونحمد اللّه في ذلك وغيره رب العالمين على ما أنعم به من ذلك خير المنعمين)) انتهى.

قال في (الكشاف): ((ومعنى {لَيْلَةُ الْقَدْرِ} ليلة تقدير الأمور وقضائها)) انتهى، وهذا مناسب لقول اللّه تعالى: فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان:4] قال في تفسير (الغريب) للإمام زيد بن علي إ: ((معناه: يقضى ويدبر في الليلة المباركة، وهي ليلة القدر يقضى فيها أمر السنة من الأرزاق وغير ذلك إلى مثلها)) انتهى.

 {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} تتنزل في ليلة القدر الملائكة وجبريل وهو من الملائكة «، وذلك لبركة ليلة القدر وما ينزلون به بإذن ربهم، أي يتنزلون بإذن ربهم ينزلون إلى الأرض من كل أمر، هنا قال تعالى: {مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} وفي (سورة الدخان): فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان:4] فيمكن ـ والله أعلم ـ أن أمور السنة المقبلة تقضى فيها وتفصل في كتاب في السماء تقرؤه الملائكة «، وتنزل الأرض تهيئها له وتعدها بما تنزل به من أسباب ومعان تخفى علينا، وتؤدي ما يكون بطريق التسبيب أو التهيئة، فكأن الأمور التي ستكون في الأرض مصدرها السماء، ونزل منه في ليلة القدر ما نزل، فكان ابتداء نزول الملائكة من مصادر الأمور الحكيمة التي في السماء ـ والله أعلم.

لكن يلزم على هذا: أن تكون نزلت منها لا أنها أنزلت منها، فمن أين دلت الآية على ما قلنا؟

فالأقرب ـ والله أعلم ـ أن المعنى: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ} أي في ليلة القدر؛ لأنه تفسير لها فلم يلزم ذكر ضميرها، وقوله تعالى: {وَالرُّوحُ فِيهَا} أي في الملائكة، ومعنى الروح: الخير والحياة والبركة الأمر الحكيم في الملائكة، كقوله تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } [النحل:2] وبهذا لا يبقى إشكال في معنى {مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} أنها للتبعيض، وهذا أحسن عندي من جعل {مِنْ} للتسبيب، أي بسبب كل أمر؛ لأنه ليس محل (من) التي للتعليل؛ لأنك لا تقول: جئت من الصلاة أي لأجل الصلاة، وإنما تستعمل في الدوافع النفسية، مثل: جئت من الخوف، أو فررت من السبع، أو جئت من الجوع.. من العطش.. من الحر.. من البرد، تعبت من العمل ..غضبت من الباطل، فما ذكرته أخيراً هو أرجح، وهو من تفسير القرآن بالقرآن.

فالمعنى: أن الروح في الملائكة بإذن ربهم الذي جعله فيهم بحكمته فهي تتنزل في ليلة القدر، في حال كون الروح من كل أمر فيها بإذن ربهم ـ والله أعلم ـ والروح من كل أمر: هو خيره، وهو ما اقتضته الحكمة وأحكمه اللّه، فالروح من كل أمر هو الحكيم من كل أمر.

 {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} {سَلَامٌ هِيَ} أي (ليلة القدر) {سَلَامٌ} أي سالمة مسلمة، قال الإمام القاسم ×: ((وتأويل {سَلَامٌ} فهي سلامة حتى طلوع الفجر، فليلة القدر سالمة مسلمة، ليس فيها عذاب من اللّه تبارك وتعالى ولا نقمة، جعلها اللّه بفضله بركة وسلامة ورحمة للعباد إلى الفجر دائمة)).

{حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} حتى وقت طلوع الفجر، أو حتى طلوع الفجر، فأفاد أن (ليلة القدر) كلها سلام، لا ينقص منها شيء؛ لأن طلوع الفجر نهاية الليل.

                                              [من كتاب التيسير في التفسير للسيد العلامة بدر الدين الحوثي]

الدلالات: