الذي يميز الناس بعضهم عن بعض، ويميز الشعوب بعضها عن بعض هو إدراك الناس لكل ما يحيط بهم من قضايا ومن مشكلات عديدة لا يكاد يدرك أقل القليل منها من لم تكن لهم معرفة بحركة مسيرة الحياة، ومنطق الأمور التي تصاحب هذه الحركة التي لا تنقطع ولا يمكن لها أن تتوقف أو تتراجع، لأنها هكذا تظل يقظة الحركة، دائبة التقدم إلى الإمام.
والذين يقرأون ما بين السطور يدركون المقصود وما هي الأهداف التي يتوجب علينا كبشر نعيش في هذا الزمن أن نعيها ونفهمها ونتعايش معها. ولقد أوضحت القدرة الإلهية عندما خاطبت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)[سورة العلق: 1] .. إلى آخر السورة، هذا الإلزام القوي إنما يدل على أن القراءة هي أول الأشياء ولا شيء يأتي قبلها، ومن لم يعرف القراءة لا يمكن له أن يكون لديه اليقين بأن أفعاله كلها سليمة من الخطأ والزلل والعِثار.
ولأن القراءة من حيث الأساس مهمة في حياة الأفراد والجماعات، فإن من بين صفوف من يقرأون لا يفهمون الأشياء على ما هي عليه من دلالات، أو ما تحمل من رسائل أو إشارات تنير الطريق للسائرين نحو الأفضل في حياة مليئة بالأشواك والعقبات والمحبطات. وبالطبع فإن الناس بكونهم مختلفين في قدراتهم الذهنية والفكرية والجسمانية، فإن القراءات قد تتعدد بتعدد المناهج والمفاهيم التي يمتلكها البعض ولا يمتلكها البعض الآخر، ولكن أين يكون موقع من يعرف أو يقرأ ولكنه لا يمارس القراءة ولا يحبها ولا يستفيد منها؟ والجواب بكل تأكيد، أنه إذا صح هذا الافتراض وأن من بني البشر أو من بعض بني البشر من تكون لديهم القدرة على القراءة ولكنهم لا يستثمرون إمكانياتهم الفكرية في إحداث بعض الصداقات مع الكتاب، ومع ما يمكن أن يكون ذا فائدة ثقافية أو علمية من نتاج الفكر الإنساني سواء أكان ذلك النتاج قد جاء ضمن حركة الثقافة الإنسانية التراكمية، أم أنه جاء كنتيجة لطفرة فكرية فاضت بها عبقريات إنسانية فأضافت جديداً إلى المحصول الأول بكل ماله من أصالة وعمق.
ومن هنا فإن الأسئلة التي تتسابق إلى البوح بها ووضعها على الورق كثيرة جداً، إلّا أن بعضها أكثر إلحاحاً من البعض الآخر. ومنها التفاوت القائم اليوم بين المجتمعات البشرية في مختلف مجالات الحياة الإنسانية، العلمية منها أو الثقافية أو الاجتماعية أو غيرها، ما هو مصدر هذا التفاوت؟
لماذا نرى شعوباً لا تستطيع أن تقرأ حتى اليوم؟ بينما نرى شعوباً وأمماً بلغت من التطور والازدهار والنمو الحضاري مالم تتصوره العقول؟ وكيف استطاعت تلك الشعوب أن تنهض بحيث صارت محط أنظار الآخرين في الوقت الذي نرى فيه أمماً وشعوباً تزحف إلى الجهل زحفاً سريعاً، وبخطىً تدعو إلى الضيق وإلى القنوط؟ ثم هل بالإمكان أن نفترض أسباباً نطمئن إليها، وتستقر عليها أفكارنا وهي أن تلك الأمم التي انطلقت نحو المستقبل بخطىً ثابتة كانت قارئة، وأنها فهمت أن بلوغها إلى الحياة الكريمة إنما كان بالمداومة على القراءة، والبحث والاستنباط والتجريب وترك الكسل الذهني والفكري وراء ظهرها. نعم، يمكن أن تكون المبررات للانطلاق نحو التقدم أن تلك الأمم والشعوب قد قرأت بعقلها أكثر مما استمتعت بوجدانها، ولهذا تقدمت في مجالات المعرفة كما تقدمت في مجالات الصناعة، وطبقت قواعد البحث العلمي بصدق، وواصلت المسيرة إلى أن بلغت هذه الدرجات في سلم الحضارة الإنسانية.
لذلك فإن من حق أي انسان أن يقول: إن من يعرف كيف يطبق منهجه القراءآتي على أسلوب حياته يقدر على معرفة موقعه في مجتمعه، لأنه بالقراءة المتأنية والمستمرة يستطيع أن يعرف موقعه الاجتماعي من جهة، ويحافظ على هويته الوطنية، وأن يتعهد ما يؤمن به من فكر ذي خصوصية ملحوظة كجزء من الهوية العامة للوطن من جهة أخرى.
ولعل من أبرز مظاهر إشكالية الهوية هي الوقوع تحت تأثير القراءة القوية المفروضة بفعل سيطرة اللغة البدلية للغة الأم. وقد رأينا شعوباً فقدت جزءاً من كياناتها الثقافية الأصل أو الأولي مهما كانت متواضعة، والذي أعنيه هنا أن تلك الشعوب أو الأمم التي وقعت أو تقع تحت تأثير حكم أجنبي أكثر تحضراً من الثانية شاءت أم أبت، لا بد أن تكون مسلوبة التفكير في الحفاظ على الهوية. ولنضرب مثلاً بالشعوب الأفريقية التي لم تكن قبل مجيء الدول الاستعمارية إلى أراضيها غازية قد امتلكت قوةً مناخيةً تعصمها من الوقوع تحت سيطرة اللغة الوافدة بما تتضمنه من معارف جديدة لا عهد لتلك الأمم أو الشعوب بها. ومنها على سبيل المثال ما يسمى اليوم بـ(الفرانكفونية) أي اللغة الفرنسية المغروسة في وجدان الشعوب الأفريقية، وكان من جملة هذه الرابطة اللغوية (بلاد الشام، لبنان، وسوريا) قبل الاستقلال والعودة إلى حظيرة التاريخ العربي والإسلامي. ومنها دول المغرب العربي (تونس، الجزائر، المغرب، وموريتانيا) وهذه الشعوب كادت أن تفقد هويتها العربية الإسلامية بفعل الغزو الثقافي اللغوي والفكري والحضاري، وما ذلك إلا لأن المهزوم، أو الضعيف، أو التابع، إنما يكون كذلك بسبب الهيمنة للقوي عليه. ثم يأتي عامل آخر في هذه المسألة، وهو عامل الانبهار بالشيء الجديد الوافد من أي نوع كان. ولقد تطورت وسائط السيطرة اللغوية على جموع أجيال المهاجرين من بلدان جنوب الكرة الأرضية إلى الشمال، ثم إلى الشمال الغربي. فهنالك قاعات العروض المسرحية والسينما والانترنت والوسائل الترفيهية الأخرى، بالإضافة إلى إعداد المناهج الدراسية التي يتم اختيارها بعناية، وحينئذٍ فلا مجال لأبناء الجيل الذين وجدوا في هذه المناطق الغربية إلا أن يغترفوا رضوا أم لم يرضوا من مناهل الزاد المعرفي لهذه الدول التي يعيشون بين ظهرانيها.
ولا غرابة في ذلك فالإنسان بطبيعته يتأثر بما حوله ويؤثر فيما حوله، ولكنه أحياناً يكون من عدم القدرة على التأثير على غيره أبعد ما يكون، لأنه أقل من أن يعطي ولو جزءاً ضئيلاً مما يأخذ من الدروس الموجهة إليه وإلى غيره من أبناء الجيل المهاجر. وهذه مشكلة تؤرق الجاليات العربية والإسلامية في دول الشمال الأوربي والغرب الأوربي (الولايات المتحدة) لأن جيل الآباء غير قادر على ربط أبنائهم بهويتهم بسبب تلك المؤثرات القوية على سلوكياتهم وتصرفاتهم الحياتية، وقد رأينا عديداً من الدول التي لها جاليات في البلدان الأخرى تقوم بإحداث مدارس خاصة يتعلم فيها أبناء مهاجريها اللغة الأم تحصيناً لهم من الاستلاب والتبعية للغات الأخرى، وتمكيناً لهم من معرفة ثقافات آبائهم الأصلية، وارتباطاً لهم بهويتهم الأصلية أيضاً.