في ذكرى رحيل العالم الرباني «أبو المساكين» السيد العلامة حمود بن عباس المؤيد

نشر بتاريخ: خميس, 25/02/2021 - 9:41ص

المتأمل في حياة العظماء يجدهم متفاوتين فيما بينهم قوة وضعفاً واختلافاً في جوانب الارتقاء ومجالاته فمنهم من برز في جانب أو جانبين ومنهم من استكمل أكثر الجوانب أو كلها، وبحجم العطاء ونوعيته تكون درجات العظمة وبقدر التضحية يكون الجزاء، وعالمنا الذي نتكلم عنه اليوم ارتقى في درجات العطاء وأسمى مدارج الكمال، سار بسيرة الأنبياء والأولياء، وذكرنا بالأئمة العظام كزين العابدين عليه السلام، وعبدالله بن الحسن (الكامل) عليه السلام، وعكس صورة مشرفة غراء عن عظمة تعاليم الإسلام وشاهداً على جمال وروعة أحكام هذا الدين الحنيف.

وأنا في هذا المقال أقر بقصور باعي عن الكتابة في سيرة هذه العالم الجليل وأني لست في مستوى نقل الصورة الكاملة عن هذه الشخصية الفريدة والمتميزة ولكن كما يقال "ما لا يدرك كله لا يترك كله" لعل بركاتٍ من مسيرة هذا العالم أدركها، ورجاء عفو الله ورحمته بنشر فضائل أمثال هؤلاء الأولياء.

طفولته ونشأته:

نشأ السيد حمود بن عباس المؤيد في أسرة علمية تقدس العلم وتعرف أنه سر تكريم الإنسان فأبوه كان عاملاً للإمام في أكثر من منطقة وكان يضـرب بأحكامه المثل، وأخوه الأكبر هو العلامة الزاهد الكبير عبدالله بن عباس المؤيد، ومن هذين المنهلين العظيمين استقى العلامة المؤيد أوائل دروسه وأولى خطواته العلمية ثم درس مبادئ العلوم الشرعية على غيرهم وبعدها انتقل إلى المدرسة العلمية المستوى الثاني سنة 1350هـ وعمره أربعة عشر سنة وفيها ظهر تميز هذا الشاب طالب العلم فقد كانت نفسه عصامية إلى حد أنه يأبى أن يطلب من أبيه مصاريف دراسته أو تكاليف شراء الكتب بل كان يقوم بنسخ دروسه بيده ثم يستغل أوقات الفراغ وكذا يومي الخميس والجمعة لنسخ كراريس علمية وبيعها والاستعانة بثمنها على مسيرته العلمية، ولما رأى مشايخ المدرسة العلمية همة هذا الطالب وإخلاصه كان من القلائل المسموح لهم بالخروج من المدرسة العلمية لمعرفتهم أنه لن يخرج إلا لطلب علم أو إرشاد وتعليم، ولأن هذا الطالب ذو همة سامية فقد كان استعداده للتعلم والاقتداء بمشايخه كثيراً جداً فقد كان يلاحظ أسلوب حياتهم، طريقة تفكيرهم، قوة إيمانهم، عظيم إخلاصهم، فيتأثر بهم تأثراً كبيراً، ويعمل على إجهاد نفسه في سبيل ترقيتها إلى أعلى المقامات الروحية والعلمية، لم يترك لحظة من وقته تضيع سدى إلى أن تخرج من المدرسة العلمية والأنظار إليه مشدودة وقلوب مشايخه به معلقة، فكان ممن تم اختيارهم للنزول إلى القرى للتخفيف من ظاهرة غلاء المهور.

وبعد ذلك اختاره الحسن بن الإمام يحيى لتدريس أولاده وتهذيبهم، ثم بعد ذلك اختاره  الإمام أحمد ليقوم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في لواء إب، فقام بذلك الواجب خير قيام، فلم يترك قرية ولا عزلة إلا ونزلها خطيباً أو واعظاً مرشداً، وكان يقسم بعد كل كلمة أن لا يأخذ منهم ما قيمته كدمة واحدة لئلا يدع فرصة لمرافقه أن يأخذ شيئاً باسمه، وفي سنتين تقريباً كان أثره كبير في (إب) فكم هدى من أناس وكم صحح من أخطاء كانت منتشرة بين الناس فأحبه أبناء (إب) حباً كبيراً حتى عندما قامت الجمهورية وهو في (إب) دافع عنه أبناء تلك المناطق وحموه حتى ضمنوا سلامته وحتى اختار هو العودة إلى صنعاء.

بعد قيام الجمهورية:

كان الوضع بعد قيام الجمهورية مأساوياً بالنسبة إلى العلماء فقد تغير كل شيء في الواقع وتغيرت وسائل وأدوات التأثير على المجتمع فبعضهم لم يستوعب المتغيرات فاختار العزلة عن الواقع والانكفاء في البيت وبعضهم انخرط في السلك القضائي وبعضهم كان يدرس العلم بصورة فردية في منزله أو مسجده ولكن العلامة المؤيد تحمل المسؤولية الكبرى في نشر العلم وتدريسه وإحياء مجالسه وربط الناس بأهل البيت ورد الناس إلى أحكام الشريعة عندما ظهرت كثير من المنكرات علانية في ذلك الوقت العصيب.

ونستطيع أن نحدد ثلاث مجالات رئيسية؛ عمل العلامة المؤيد على التحرك فيها بكل إخلاص وتفاني.

  1. إحياء الحركة العلمية.
  2. الجانب الدعوي.
  3. جانب الإحسان والصدقات.

1- إحياء الحركة العلمية

أخذ العلامة المؤيد على عاتقه مسؤولية إحياء الحركة العلمية في صنعاء وما جاورها من المحافظات فالتف حوله كثير من كبار العلماء وكبار القراء للقرآن في جامع النهرين، واستطاع أن يخرج أجيالاً من العلماء الذين لهم التأثير الكبير في الساحة اليوم واستطاع كذلك أن يؤسس بيئة حاضنة لأي حركة تأتي من بعده، فقد كان له الفضل بعد الله في إحياء الحركة العلمية وتحريك المياه الراكدة وإعادة الروح فيها بعد أن كادت أن تموت فقد داوم على التدريس في كل أيامه حتى أيام العيد وكان لا يتخلف عن حلقات التدريس إلا لمرض شديد وكانت هذه المداومة العجيبة مع الإخلاص لله هي السبب في بركة أعماله وثمرة جهوده، فقد كان جل اهتمامه تعليم الناس أحكام دينهم وكان يحث الناس وبالأخص طلاب العلم على الاهتمام بالعلم وعدم تركه وكان يرغبهم بالآيات والأحاديث وحكم أمير المؤمنين، وعندما يذهب إلى أي قرية يوصيهم أن يدفعوا بأبنائهم لطلب العلم الشرعي بل كان يقول إن من العلم ما هو واجب على كل مكلّف كأصول الدين، وأحكام الطهارة والصلاة، وكان سلام الله عليه الداعم الأكبر للحركة العلمية في الجامع الكبير بصنعاء لأكثر من ثلاثين عاماً، وكذا فروع الجامع في أكثر من محافظة، وكان الراعي لطلاب العلم يسد حاجتهم، يغيث مكروبهم، ويعيش همومهم وربما غادره المنام طوال الليل إذا سمع أن طالباً به أذى أو ضرر، وبلغ من اهتمامه أن بنى المراكز العلمية حتى في المحافظات البعيدة عن صنعاء.

كان العلامة المؤيد يشعر أنه مسؤولٌ عن تعليم كل إنسان جاهل يبحث عن طريقة لتعليمه الأمور الضرورية حتى السائلين الذين يأتون يسألونه من الصدقات كان يعلمهم الفاتحة ثم يعطيهم من الصدقات وبلغ من حرصه على تعليم المجتمع أن وضع شريطاً صوتياً يعلمهم الأحكام الضرورية في الوضوء والصلاة وقراءة بعض السور الصغار بشكل صحيح وكان يحث الناس على نشر هذا الشريط في أكثر من مناسبة، ومن حرصه أيضاً أنه أسهم في إنشاء مركز الزهراء لتعليم النساء العلم النافع بجوار النهرين والذي تخرج منه كثير من النساء العالمات بأمور الدين.

وكان يكرر كثيراً على مسامع زائريه هذه المقولة: (أفضل وظيفة تحت أديم السماء هي طلب العلم) وكان يشكو ويتألم ممن يطلب العلم حتى إذا وجد وظيفة أو عملاً ترك طلب العلم، وكثيراً ما كان يرغب الطلاب الصغار إلى العلم فقد كان يشتري لهم الحلوى أو أي شيء يشجع على طلب العلم، وكان يجيب أي دعوة لتكريم طلاب العلم حتى ولو كانت المسافة بعيدة تستدعي سفراً طويلا.

وفي مجال الإفتاء فقد كان يجيب على الفتاوى التي ترد إليه من مختلف أصقاع اليمن لثقة المجتمع بعلمه ودينه وورعه، ومرة كان مريضاً في بيته وهو يكتب الجواب على أوراق الفتاوى فقال له ولده: (ارتاح يا والدي أنت مريض) فأجابه بقوله: (ما بش راحة في الدنيا الراحة في الآخرة في الجنة)، ويكرر تلك الحكمة: (الراحة في ترك الراحة)، وعندما قال له ولده: (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها) أجاب بقول الإمام علي عليه السلام: (امش بدائك ما مشى بك) ثم قال: (طالما وأنا لا زلت قادراً على الإمساك بالقلم فلا زلت بالوسع وإذا لم أعد قادراً على الإمساك بالقلم فهناك لا ضير عليَّ من تأخير عمل الناس).

2- الجانب الدعوي

العلامة المؤيد من القلة الذين جمعوا بين إخراج العلماء  وتدريس الطلاب وبين العمل الدعوي ووعظ الناس، فقد كانت القلوب تصغي بإنصات إلى مواعظه وخطبه التي كانت تأسر القلوب وتنشرح لها الصدور، ويأتي إلي سماعها المريدين من مسافات بعيدة حرصاً على الاتعاظ وأخذ العبرة؛ لأن كللامه كان نابعاً من القلب، وأتذكر خطبة الجمعة في جامع الشوكاني كيف كان يتوارد الناس لسماع خطبه بمختلف طبقاتهم وأطيافهم كلهم يريد سماع مواعظه التي ترق لها القلوب وتزكوا بها النفوس، وكل من يحضـر تلك الخطبة يزداد حباً للموعظة؛ لأن خطبه كانت خطباً حية تعالج مشاكل المجتمع وتلامس قضاياهم، وكانت خطبه مميزة لأنه كان يجمع فيها بين المواعظ وبين تعليم الأحكام الشرعية، فكم تكلم عن أحكام الطلاق، وكم حذر الناس من قول (حرام وطلاق)، وكم نصح الناس من خطورة حرمان الناس من مواريثهم، وكم حذر من الغش في البيع والشراء وتطفيف الميزان، وقد تعلَّم الناس كثيراً من الأحكام الشرعية من خلال خطبة الجمعة.

لقد كان النظر إلى وجهه المتلألئ  بالنور عبادة، ومشاهدة الناس لسلوكياته وبرنامجه موعظةً كافية، فقد تأثر به الناس في الجانب العبادي، ففي النهرين مثلاً: جاءت فترةٌ والمسجد يتعبد فيه قبل الفجر وقت التسبيحة الثالثة حوالي صفين من الناس والطلاب ببركة حثه على قيام الليل، وكذا صوم أيام البيض في كل شهر صارت عادة عند الكثير بسبب مواعظه ومداومته الشديدة عليها، وكذا صلاة الشعبانية والفرقان، وكثير من السنن الحسنة التي غرسها في مجتمعه؛ مثل استقبال وتوديع رمضان، وراتب الأذكار والدعاء بعد كل صلاة، وكان أكثر مواعظه التي يرددها على من حضر عنده (أن لا ننسى ذكر الله طرفة عين لا في حضر ولا في سفر ولا نغفل عن ذكر الله أبدا) ظلت هذه الموعظة على لسانه إلى توفاه الله، بل كان يطبقها خير تطبيق في كل أوقاته وحالاته حتى حين يصعد فوق سيارة مثلاً يظل تالياً لسورة (يس) وتوابعها، وأذكارٍ أخرى، وكذا حين يعود إلى بيته من المسجد يقرأ سورة الواقعة ويرتلها حتى وصوله إلى منزله.

ولقد ذكر كثيرٌ ممن رافقه في رحلته إلى الحج أنه منذ أن يصعد إلى السيارة إلى حين الوصول إلى مكة ولسانه يلهج بذكر الله بصوتٍ مرتفع لكي يردد الحاضرون الأذكار معه، لا يمل ولا يكل عن ذكر الله وتذكير الناس، بل لقد تعب بجانبه كثيرٌ من طلابه الشباب بسبب السفر وهو لا يفتر عن الأذكار، ولقد سمعت بعض طلابه يقول: إنهم عندما كانوا معه في مكة وكانوا ينامون معه في نفس الغرفة أنه كان يستيقظ من نومه كل ربع ساعة تقريباً لينظر إلى الساعة هل حان موعد قيام الليل؟

ولك أخي القارئ أن تتصور خشية هذا العالم وشوقه إلى مناجاة الله ، الشوق الذي حرمه من لذة المنام حتى صار يستيقظ بين كل فينة وأخرى كي لا يفوته أجر قيام الليل، فهو بحق من أهل التقوى الذي وصفهم الله في سورة الذاريات بقوله: ﴿كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُون * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُون﴾.

مكانته الاجتماعية:

إن إخلاص العلامة المؤيد وتفانيه في سبيل نشـر العلم والدين وعمله الدؤوب المتواصل بدون انقطاع جعل منه مرجعاً كبيراً بين الناس، وكان محل إجماع بين مختلف الفئات الاجتماعية، ولقد شكل بحضوره توازناً بين كثير من التيارات الموجودة في الساحة اليمنية بل اعتبره الكثير في وقته صمام أمان للمجتمع من الفتنة الطائفية، وقد تعامل بحكمة وذكاء مع مختلف المذاهب حتى عدّه كثير من علماء الشافعية والصوفية مرجعاً من مراجعهم.

وكان العلامة المؤيد عامل إصلاح بلسان صدقٍ وحكماً في كثيرٍ من المخاصمات، وكم انطفأت ببركته كثيرٌ من المشاكل الكبيرة التي كادت أن تؤدي إلى حروبٍ قبلية دامية، فقد كان الكثير من قبائل صنعاء أو من غيرهم يرتضونه حكماً في حل مشاكلهم، ويعتبرون حكمه هو القول الفصل، بل لقد كان الحكم منه يلقى من القبول والطاعة بين المتخاصمين ما لا تلقاه أحكام المحكمة العليا نفسها، فلقد ملك العلامة المؤيد قلوب الناس ومشاعرهم بلا قوة ولا سلطان، ولا مالٍ ولا أعوان، بل رغب الناس إليه ووثقوا به لما لمسوه منه من إحساس بالمسؤولية ومصداقية في تطبيق ما يدعو إليه.

3- جانب الإحسان (الصدقات والنذور والمحاسن ...الخ)

لقد كان العلامة المؤيد يسمى (أبو المساكين) وكان يضرب به المثل بزين العابدين علي بن الحسين عليه السلام، فقد كان همزة الوصل بين الفقراء والأغنياء، فالأغنياء وجدوا فيه ضالتهم المنشودة فلن يجدوا مثل أمانته وورعه وتقواه، وكذلك الفقراء كانوا يرونه مفزعاً لهم عند النوائب، وغوثاً لهم عند الشدائد، ولعل الكثير ممن خالط أو جالس هذا العالم يعرف كم من المساكين كانوا يتواردون عليه من كل حدبٍ وصوب، غير أولئك الذين كان يرعاهم إلى بيوتهم، فلقد أخبرني بعض كبار السن أن العلامة المؤيد كان يأتي إليهم وهم صغار أيتام كل شهرٍ تقريباً بمصروف الشهر، وقد ذكر بعض طلابه أنه كان يعول أكثر من مائتي امرأة شريفة متعففة غير الأسر التي كان يأتيها بكسوة العام سنوياً كل رمضان، ولقد أنفق من ماله الخاص الكثير في سبيل سد حاجة الفقراء، ومن المعروف أنه ورث من أبيه ثروة كبيرة منها أراضٍ كثيرة أنفق معظمها على طلبة العلم والمحتاجين، وكذا على كثيرٍ من المحاسن في محافظة صنعاء وما جاورها، ولم يدع لورثته شيئاً ذا بال، ووصل اهتمامه وإحسانه إللى أحفاد بلال، ففي مرة من المرات دخل إلى مساكنهم ووعظهم موعظة بليغة وتبرع لهم بـ(تُوزَته) مع (الجنبية) ذات الثمن المرتفع ليستعينوا بها على بعض أمورهم.

وأما جانب بناء المساجد؛ فالكثير من القرى اليمنية شاهدة على محاسنه العظيمة، فقد بنى من المساجد ما لا يعلم عدده إلا الله، بعضها من ماله الخاص والبعض الآخر سعياً منه عند التجار والمحسنين.

وكذلك بنى السدود والبرك في المناطق التي تحتاج إلى الماء، وما زال أصحاب تلك المناطق يدعون له إلى اليوم بكل خيرٍ، وهذا غير نشاطه في تزويج الكثير من الشباب، فقد ساهم في دفع مهورهم، وإعانتهم على الزواج، بكل ما أوتي من جهد ومال.

وأما المدارس ومراكز التحفيظ فقد بنى الكثير الطيب منها واشترى بيوتاً ليسكن فيها طلاب العلم ما زالت عامرة إلى اليوم، ولا يوجد اليوم حصـرٌ لكل مآثره ومحاسنه لأنه سلام الله عليه كان يخفيها ولا يحب ظهورها، وكلها معلومة عند من لا تخفى عليه خافية سيجازيه سبحانه بها الجزاء الأوفى، فهو ممن يذكرنا بقول الحق سبحانه: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِين﴾.

من أخلاقه وصفاته:

كان العلامة المؤيد ممن تنطبق عليه صفات عباد الرحمن التي ذكرها الله سبحانه في سورة الفرقان، كان كثير العبادة، كثير الذكر، وعلى سبيل المثال؛ ذكر لي أحد طلابه أنهم صلوا صلاة الشعبانية (مائة ركعة) ثم أخطأوا في حساب الشهر وكانت ليلة النصف هي الليلة التي بعدها فأعادها العلامة المؤيد (مائة ركعة) رغم أنه طاعنٌ في السن، بينما كثيرٌ من الشباب اكتفوا بصلاتهم الليلة الأولى ولم يعيدوها.

وكان العلامة المؤيد كثيراً ما يركز على الدعاء وينصح به ويذكر قصة أصبعه عندما توقفت عن الحركة وهو بحاجة إليها في جواب الفتاوى رغم عجز الأطباء عن علاجها فقام ليلة كاملة يدعو الله ويقرأ سورة (الفاتحة) و(يس) وغيرها حتى قام الصباح وأصبعه معافاة سليمة -يذكر هذه القصة من باب التعليم وتعزيز الثقة بالله سبحانه-.

طاعته لوالديه:

وكان العلامة المؤيد  يُضرب به المثل في برِّه وطاعته لوالديه وذلك لأنه ابتلي بمرض والديه مرضاً مزمناً وذلك بعد تخرجه من المدرسة العلمية فاضطر إلى الانقطاع عن الدرس والتدريس ومكث في جوارهما يمرضهما بصبر ورضى بقضاء الله حتى اختارهما الله إلى جواره.

كان العلامة المؤيد سلام الله عليه الغاية في صفاء القلب وشدة التواضع يسعى في حاجة المحتاج حتى أن بعضهم كان يأتي إليه كي يتوسط به في مسائل كثيرة وكان لا يرد سائلاً.

ومما يذكره بعض طلابه أنه مكث فترة يذهب بعد العشاء إلى طفل مريض بالسرطان يقرأ لله سورة (يس) وتوابعها وبعض الأذكار والأدعية.

ومما يذكر من أخلاقه أنه حصلت مشكلة في جامع النهرين كادت أن تشعل فتنة كبيرة فكان أن لطم أحد أحفاده ثم اليوم الثاني يعتذر في خطبة الجمعة لحفيده ولكل لمن عليه حق ويقول: (من له عليَّ حق فليقتص مني) وهذا يبيّن لنا طريقة تفكير هذا الرجل وأنه يريد أن يلقى الله بصحيفة نقية بيضاء.

ومما اشتهر به سلام الله عليه صفة الشكر لكل من أسدى له إحساناً أو معروفاً، فقد كانت له قائمة بأسماء كل من أحسن إليه ومن ضمنهم مشايخه يدعو لهم بالاسم فرداً فرداً ويقرأ الفاتحة وما تيسر إلى نيتهم في أوقات السحر بعد أن يصلي صلاة الليل الثمان الركعات ثم صلاة الوتر ثم يفتح قائمة الأسماء تلك ليدعو لهم.

وقد تحدث بعض طلابه أنهم رأوه يحتفي ويكرم أحد كبار السن فلما انصرف قال لهم سيدي حمود: (هذا شيخي درست عنده الآجرومية) لم ينس له المعروف عبر عقود من الزمن فهو بحق ممن ينطبق عليهم وصف القرآن الكريم (صبار شكور).

أبرز ما كان يردد من الحكم والأشعار:

كان كثيراً ما يردد بعض الحكم والأشعار حتى حفظها منه طلابه بل حتى العامة ممن يحضرون محاضراته وخطبه ومن تلك الحكم:

قول الإمام علي عليه السلام (الفرصة تمر مر السحاب فاغتنموا فرص الخير) (ترك الفرصة غصة).

وقوله (الحذر فوالله لقد ستر حتى كأنه قد غفر) وكذا:

اقرع الباب وناد
 

 

يا رفيقاً بالعباد
 

أنا عبدٌ وابن عد
 

 

وإلى الحفرة غاد
 

ليس لي زاد ولكن
 

 

حسن ظني فيك زاد
 

 

   وقول الشاعر:

النفس كالطفل إن تهمله شب على
 

 

حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
 

 

 وقوله:

فيا رازقي جد لي بحسن الخواتم
 

 

 وقوله:

هكذا هكذا وإلا فلا لا
 

 

  وقوله:

واس المساكين أضياف الإله ولا
 

 

تنهر ملّحاً وخل الشُح للبخلا
 

 

 وقوله:

إذا كنت حاذق مهذب لبيب
 

 

فلا تفعل إلا الذي ينفعك
 

 

 وغيرها من الحكم التي كان يرددها حتى صارت ثقافة عند طلابه ومجتمعه.

إن من يتأمل حياة هذا العالم الجليل وكثرة الأعمال التي كان يقوم بها لا يملك إلا أن يتذكر قول مفتي الجمهورية السابق العلامة أحمد زبارة رحمه الله (إن أعمال العلامة حمود بن عباس المؤيد لا تقوم بها إلا وزارة كاملة).

فعلاً لقد شغل حياته وأوقاته كلها بمختلف أنواع البر والصلاح، فمن تدريس العلوم الشرعية إلى توزيع الأئمة والخطباء على المساجد إلى رعاية طلاب العلم في كثير من المناطق إلى جانب تنقله بين القرى والمحافظات للوعظ والإرشاد كل ذلك إلى جانب أعمال الفتاوى ومشاغلها ويضاف إلى ذلك إصلاحه بين الناس وحل مشاكلهم وجمع كلمتهم وتوحيد صفهم إضافة إلى أعمال الصدقات وتوزيعها على الفقراء والمساكين ومما يجدر أن نذكره هنا المحافظة الدقيقة على كل نوع من أنواع الصدقات فإذا دخلت إلى غرفته ستجد كل نوع على حده فهذه أموال مكتوب عليها زكاة وأموال مكتوب عليها طلاب علم وأخرى مكتوب عليها دريس قرآن وأخرى مكتوب عليها اسم كل أسرة يريد أن يوصل ذلك المال إليها وأخرى مكتوبة هذه لبناء جامع في قرية كذا وغير ذلك الكثير الكثير من الأعمال التي لا تقوم بها إلا مؤسسات عملاقة وقد قام بها خير قيام.

إن تجربة هذا العالم في دعوته وحياته تجربة ثرية فريدة طيلة ما يقارب قرن من الزمان وهو عليها لم يغير ولم يتوان أو يضعف أو يعتذر عنها بكبر سنه وضعف جسده بل استمر عليها إلى أن أقعده المرض، فلهذه الأسباب أحبه الناس وتعلقوا به ونال من القبول ما لم ينله عالم في عهده تقريباً لأنه عاش مع الناس وقلبه معلق بالمحل الأعلى لم يكن همه إلا رضوان الله عليه والدار الآخرة ولذلك كثيراً ما كان يردد (المهم أن ينجينا الله من النار لأن النار ما أحد يقدر يصبر عليها أو يطيقها) وكثيراً ما يدعو الله أن يعتق رقبته من النار.

ومن يتأمل حياته يقول هذا ممن يصدق عليه قول الله سبحانه: ﴿إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّار﴾ فكل تفكيره وعمله وهدفه هو الدار الآخرة سلام الله عليه .

ولهذا قال أحد المعاصرين: لو لم نعرف العلامة المؤيد وأمثاله لما صدقنا الروايات التاريخية عن زين العابدين وغيره من أهل البيت فهو نموذج معاصر يحكى بصورة راقية عظمة أهل البيت عليهم السلام ويجسد عملياً أخلاق وسلوك العلماء الربانيين ودورهم في تمثيل وتجسيد تعاليم الإسلام بصورة صادقة صافية نقية فهو من العلماء الذين عزفت قلوبهم عن الدنيا، واتجهت عقولهم وطاقاتهم نحو إصلاح المجتمع ونشر الدين وتعليم أحكامه فكانت ثمرة جهوده مباركة ملموسة في أرض الواقع.

وهنا أتساءل كيف نستطيع أن ننشأ جيلاً أو علماء كالعلامة المؤيد وأقرانه من العلماء الربانيين الذين نحن في أمس الحاجة إلى من يسير بسيرتهم وصدقهم وما هو دورنا تجاههم وتجاه الفكر الذي حملوه والدعوة التي بدأوها وكيف نكون أوفياء لهم ونحن نرى تناقص العلماء بشكل مخيف ونرى الكثير يقول في الدين بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، ونرى موجة كبيرة من تغريب المجتمع والتأثر باليهود والنصارى في أفكارهم وثقافتهم وتعاليمهم حتى صار الإسلام غريباً في موطنه وبين أبنائه وهل نظل نندب الماضي دون عمل حقيقي ومراكز تعليمية وجامعات تخرج كفاءات جديدة تجمع بين الفهم العميق للشريعة والواقع المعاصر وبين الزهد في حطام الدنيا والتوجه نحو الدار الآخرة.