جمعة رجب .. مقاربة تأريخية

نشر بتاريخ: جمعة, 26/02/2021 - 9:41ص

اعتاد اليمنيون -وبالأخص قبيلة همدان "بكيل وحاشد اليوم"- أن يحتفلوا في أول جمعة من رجب فرحاً بفضل الله ورحمته وتتويجاً لليوم الذي أسلموا فيه على يد الإمام علي "ع" .. وقد كان هذا اليوم بالنسبة لهم عيداً يشابه عيدي الفطر والأضحى من الناحية الاجتماعية، إذ كان الناس يخرجون من بعد صلاة الفجر لزيارة الأرحام بعد التهيئة لها من الناحية النفسية والشكلية من لبس الجديد وإعداد جعالة العيد وما شاكلها من التجهيزات العيدية .. وقد اختفت هذه الظاهرة من وقت قريب بسبب الظروف الاجتماعية والاقتصادية والهجمة الفكرية النجدية والتبديع الوهابي لها، لكنها مازالت تحتل قلوب اليمنيين من حيث الإجلال والتعظيم لهذا اليوم ، فهم يتذاكرون في هذا اليوم من خلال خطب الجمعة أو المقايل ذلك التأريخ الذي أشرق عليهم بنور الإسلام، وتزداد أهمية تلك الحادثة وجلالتها بالنسبة لهم أنها كانت على يد وصي رسول الله الإمام علي "ع"..

ورغم حساسية الحادثة وأهميتها من الناحية التأريخية ، كون اليمن محادة للحجاز مركز الإسلام ومنبعه  إلا أن المؤرخين أغفلوا تفاصيل هذه الحادثة إلا ما ذكر في مجملها أن رسول الله أرسل علياً إلى اليمن بعد أن أخفق خالد في مهمته ، وقرأ على همدان كتاب رسول الله فأسلمت جميعها في يوم واحد ،  ولم  يعن بذكر التفاصيل المرافقة للحادثة منذ دخوله إلى عودته كما يفعلون مع بقية المبعوثين من قبل رسول الله ، وكذلك ما ورود من أن عليا دخل مذحج وما رافقها من الاختلاف على الغنائم ، وأخرى إلى نجران ..

وقد وقع فيها اضطراب وخلط بين المؤرخين .. حتى لا تكاد تميز بين عدد مراتها وتأريخ وقوعها وكذلك بعض تفاصيلها ، وارتباطها ببعضها البعض ، بسبب تعارض الروايات ، واقتضابها في ذكر الحوادث ..

وما يهمنا هنا: هو القراءة السريعة لتأريخ دخول الإمام علي "ع" إلى همدان ، هل كان في غرة رجب كما اشتهر في أوساط اليمنيين وأجمعوا عليه ، أم أنه لم يكن كذلك كما يرويه أكثر المؤرخين ..

يذكر بعض المؤرخين كابن سعد في طبقاته والواقدي في مغازيه : أنه كان لعلي سريتان إلى اليمن في عهد رسول الله ، بينما يذكر الجندي في السلوك أنه كانت لعلي أربع سرايا إلى اليمن ،  ويذكر ابن دحلان أنها ثلاث  ..

وأياً يكن، فهناك اتفاق بين المؤرخين على أن علياً دخل اليمن أكثر من مرة ، بمعنى أنها لم تقتصر على دخوله إلى همدان ، بل ورد أن رسول الله بعثه إلى مذحج ، وكذلك إلى نجران .. 

ولأننا نبحث هنا عن تأريخ دخول الأمام علي "ع" إلى همدان ، سنقتصر على قراءة السطور في صفحات المؤرخين على تأريخ دخول الإمام علي إلى همدان .

ذكر الطبري أن الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، قَالَ: بَعَثَ رسول الله ص خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ يَدْعُوهُمْ إِلَى الإِسْلامِ فَكُنْتُ فِيمَنْ سَارَ مَعَهُ، فَأَقَامَ عَلَيْهِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ لا يُجِيبُونَهُ إِلَى شَيْءٍ، فبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَقْفُلَ خَالِدًا وَمَنْ مَعَهُ، فَإِنْ أَرَادَ أَحَدٌ مِمَّنْ كَانَ مَعَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ أَنْ يَعْقُبَ مَعَهُ تَرَكَهُ.

قَالَ الْبَرَاءُ: فَكُنْتُ فِيمَنْ عَقِبَ مَعَهُ، فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَى أَوَائِلِ الْيَمَنِ، بَلَغَ الْقَوْمَ الْخَبَرُ، فَجَمَعُوا لَهُ، فَصَلَّى بِنَا عَلِيٌّ الْفَجْرَ، فَلَمَّا فَرَغَ صَفَّنَا صَفًّا وَاحِدًا، ثُمَّ تَقَدَّمَ بَيْنَ أَيْدِينَا، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثم قرأ عليهم كتاب رسول الله ص، فَأَسْلَمَتْ هَمْدَانُ كُلُّهَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَكَتَبَ بذلك الى رسول الله ص، فَلَمَّا قَرَأَ كِتَابَهُ خَرَّ سَاجِدًا، ثُمَّ جَلَسَ، فَقَالَ: السَّلامُ عَلَى هَمْدَانَ، السَّلامُ عَلَى هَمْدَانَ! ثم تتابع اهل اليمن على الإسلام ..

هذه رواية الطبري وغيره من المؤرخين كابن الأثير في الكامل ، ودلائل النبوة للبيهقي ، وغيرهم ممن ذكروا قصة إسلام همدان ، ويكاد يقع الاتفاق بينهم على نص القصة التي رواها البراء بن عازب .

 وقد ذكر الطبري أنها كانت في شهر رمضان من السنة العاشرة، وتبعه بعض المؤرخين ، كما وافقه ابن الأثير  في ذكر السنة دون تحديد الشهر .. و اكتفى البخاري في المغازي  بالقول إنها كانت قبل حجة الوداع ..  وبعض المؤرخين  يذكرون قصة البراء بن عازب من دون تحديد السنة والشهر كما في دلائل النبوة للبيهقي والتدمري في تاريخ الإسلام ،  وبعض يذكرون أن رسول الله بعث علياً إلى اليمن في السنة العاشرة من دون أن يذكروا طبيعة المهمة التي بعث من أجلها كالمسعودي في مروج الذهب والواقدي في مغازيه . 

ومع تداخل الروايات بعضها ببعض ، واضطرابها في تمييز عدد السرايا وتحديد أمكنتها وتأريخ وقوعها إلا أنه قد وقع الاتفاق بين المؤرخين على صحة  بعث علي وإسلام همدان على يديه ..

ويبقى الاضطراب في تحديد التأريخ الذي دخل فيه الإمام علي "ع" همدان ..

فرواية الطبري ومن وافقه أنها كانت في رمضان من السنة العاشرة يناقضها رواية غيره من أن بعثة الإمام علي في السنة العاشرة كانت إلى نجران  كرواية  ابن هشام ، أو إلى مذحج  كما في طبقات ابن سعد .

ويترجح مع ذلك أن دخول علي همدان لم يكن في السنة العاشرة ، وإنما كانت إلى  مذحج أو نجران على اختلاف الروايات .. 

ويتضح ذلك من خلال كثرة الشواهد التي تفيد أن رسول الله بعث علياً لجمع الصدقة أو لأخذ الجزية وما شابههما ، وأنه عاد محرماً بالحج مع رسول الله ، وهذا يخالف طبيعة المهمة التي بعث بها إلى همدان وكانت دعوية وقضائية بامتياز ..كما ورد في تأريخ الإسلام للتدمري بعد ذكر قصة البراء بن عازب :، عَنْ عَلِيٍّ: بَعَثَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ إِلَى الْيَمَنِ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَبْعَثُنِي وَأنَا شَابٌّ أَقْضِي بَيْنَهُمْ وَلَا عِلْمَ لِي بِالْقَضَاءِ. فَضَرَبَ بِيَدِهِ فِي صَدْرِي وَقَالَ: «اللَّهمّ اهْدِ قَلْبَهُ وَثَبِّتْ لِسَانَهُ» . فَمَا شَكَكْتُ فِي قَضَاءٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ..

ومن تلك الروايات التي تفيد أن خروج الإمام علي في السنة العاشرة لم يكن إلى همدان : ما ورد في دلائل النبوة للبيهقي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآلهِ وَسَلَّمَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ إِلَى الْيَمَنِ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ فَكُنْتُ مِمَّنْ خَرَجَ مَعَهُ فَلَمَّا أَخَذَ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ سَأَلْنَاهُ أَنْ نَرْكَبَ مِنْهَا وَنُرِيحَ إِبِلَنَا، فَكُنَّا قَدْ رَأَيْنَا فِي إِبِلِنَا خَلَلًا، فَأَبَى عَلَيْنَا، وَقَالَ: إِنَّمَا لَكُمْ مِنْهَا سَهْمٌ كَمَا لِلْمُسْلِمِينَ.

قَالَ: فَلَمَّا فَرَغَ عَلِيٌّ، وَانْطَلَقَ مِنَ الْيَمَنِ رَاجِعًا أَمَّرَعَلَيْنَا إِنْسَانًا وَأَسْرَعَ هُوَ فَأَدْرَكَ الْحَجَّ.. .إلخ .

فهذه الرواية تفيد أن علياً خرج لجمع الصدقات ، ورجع فأدرك الحج ، بما يدل ان خروجه في السنة العاشرة لم يكن إلى همدان ..

وكذلك في التنبيه والإشراف للبلاذري قال: قدم على بن أبى طالب من نجران اليمن مهلاً بالحج ، فقال له النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: بأي شيء أهللت؟ قال قلت: حين أحرمت اللَّهمّ إني أهل بما أهل به عبدك ورسولك، فقال له هل معك من هدى؟ قال: لا، فأشركه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في هديه، وثبت على إحرامه مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى فرغا من الحج.

وروى ابن هشام : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ بَعَثَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى نَجْرَانَ، فَلَقِيَهُ بِمَكَّةَ وَقَدْ أَحْرَمَ، فَدَخَلَ عَلَى فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وَرِضَى عَنْهَا، فَوَجَدَهَا قَدْ حَلَّتْ وتهيّأت، فَقَالَ: مَالك يَا بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ؟ قَالَتْ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَحِلَّ بِعُمْرَةِ فَحَلَلْنَا.... إلخ .

وفي دلائل النبوة للبيهقي أيضاً قال : فَإِنَّمَا بُعِثَ عَلِيٌّ إِلَى جِزْيَةٍ مَوْضُوعَةٍ هَذَا مَا بَلَغَنَا فِي ذَلِكَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بن يسار .وكذلك ورد فيه : عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: وَبَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ عَلِيُّ بْنُ أبي طالب رضي اللهُ عَنْهُ إِلَى أَهْلِ نَجْرَانَ لِيَجْمَعَ صَدَقَاتِهِمْ وَيَقْدَمَ عَلَيْهِ بِجِزْيَتِهِمْ .

فهذه الثلاث الروايات تفيد أن خروج الإمام علي "ع" في السنة العاشرة كانت إلى نجران ليجمع الصدقات ويأخذ الجزية ، ولم تكن إلى همدان ..

وفي الطبقات لابن سعد قال ٍ: يُقَالُ: سرية علي إلى اليمن مَرَّتَيْنِ، إِحْدَاهُمَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ عَشْرٍ مِنْ مُهَاجِرِهِ، وَعَقَدَ لَهُ لِوَاءً وَعَمَّمَهُ بِيَدِهِ وَقَالَ: امْضِ وَلا تَلْتَفِتُ، فَإِذَا نَزَلْتَ بِسَاحَتِهِمْ فَلا تُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يقاتلوك. فخرج في ثلاثمائة فَارِسٍ، وَكَانَتْ أَوَّلَ خَيْلٍ دَخَلَتْ إِلَى تِلْكَ الْبِلادِ، وَهِيَ بِلادُ مُذْحِجَ ، فَفَرَّقَ أَصْحَابَهُ، فَأَتَوْا بِنَهْبِ غَنَائِمَ وَأَطْفَالٍ وَنِسَاءٍ وَشَاءٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَجَعَلَ عَلِيٌّ عَلَى الْغَنَائِمِ بُرَيْدَةَ بْنَ الْحُصَيْبِ الأَسْلَمِيَّ، فَجَمَعَ إِلَيْهِ مَا أَصَابُوا، ثُمَّ لَقِيَ جَمْعَهُمْ فَدَعَاهُمْ إِلَى الإِسْلامِ فَأَبَوْا، وَرَمَوْا بِالنَّبْلِ وَالْحِجَارَةِ، فَصَفَّ أَصْحَابُهُ وَدَفَعَ لِوَاءَهُ إِلَى مَسْعُودِ بْنِ سِنَانٍ السُّلَمِيِّ....ألخ .

إلى أن قال :، ثُمَّ قَفَلَ فَوَافَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ وَقَدْ قَدِمَهَا لِلْحَجِّ سَنَةَ عَشْرٍ.

وكذلك في السيرة الحلبية إلا أنه أردف قائلاً : وقال بعضهم إنها كانت إلى همدان .. وسرد قصة البراء بن عازب .

 

ومما يفيد أن الإمام علياً لم يكن خروجه إلى همدان في السنة العاشرة : أن بعض المؤرخين يروي أن رسول الله أرسل خالد بن الوليد إلى نجران في جمادى الآخر من السنة العاشرة ليدعوهم إلى الإسلام ويقبض منهم الصدقات والجزية ، ثم أتى بهم إلى رسول الله فلم يرجعوا إلى أقوامهم إلا بقية شوال ..

وهذا يتعارض أن خالداً كان في همدان ، وأقفله علي في رمضان من السنة العاشرة ، كما في رواية الطبري وابن الأثير في الكامل ..

قد يقول قائل ؛ إذا كان رسول الله أرسل علياً إلى نجران في السنة العاشرة ، فكيف يتفق لذلك لخالد بن الوليد ..

نقول : ربما أن رسول الله أرسل كليهما إلى نجران في السنة العاشرة متتابعين ، كما في رواية الترمذي قال : عن البراء رضي اللَّه تعالى عنه قال: بعث رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إلى اليمن جيشين وأمّر عليّا على أحدهما وعلي الآخر خالد بن الوليد. وقال:

«إذا كان قتال فعليّ رضي اللَّه تعالى عنه الأمير» . قال: فافتتح عليّ حصنا فغنمت أواقي ذوات عدد، وأخذ عليّ منه جارية.... إلخ ..

 وروى الإمام أحمد، والبخاري والإسماعيلي، والنّسائي عن بريدة بن الحصيب رضي اللَّه تعالى عنه قال: «أصبنا سبيا فكتب خالدا إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «ابعث إلينا من يخمّسه» . وفي السّبي وصيفة هي من أفضل السّبي. فبعث رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عليّا إلى خالد ليقبض منه الخمس، وفي رواية: ليقسم الفيء. ... إلخ ..

ومن هنا نلاحظ من خلال ما تقدم من الروايات أن علياً لم يخرج إلى همدان في رمضان من السنة العاشرة .. إذن فمتى كانت ؟

قال ابن إسحاق وغيره: غزوة علي بن أبي طالب إلى اليمن مرّتين ، قال في العيون: ويشبه أن تكون هذه السرية( يعني إلى نجران ) الأولى ، وما ذكره ابن سعد( سريته إلى همدان)  هي السرية الثانية .

ونقول : بل هذه ( إلى نجران أو إلى مذحج على اختلاف الروايات) هي الثانية ، وسريته إلى همدان هي الأولى ..كما في حديث الواقدي  وتلميذه ابن سعد : بعث الرسول صلى الله عليه وسلم علياً إلى اليمن للمرة الثانية، وفيها أنه خرج إلى اليمن، بلاد مذحج، في ثلاثمائة فارس، وعندما التقى بجمعهم دعاهم إلى الإسلام فأبوا ورموا أصحابه بالنبل والحجارة، فصف أصحابه، ودفع لواءه إلى مسعود بن سفيان السلمي........ إلى آخر القصة ..

قال الزرقاني في شرح المواهب اللدنية  تعليقاً على رواية المواهب في إسلام همدان :  فهو صريح في أن البعث الأول كان في أواخر سنة ثمان، وأنه إلى همدان، والثاني كان في رمضان سنة عشر إلى مذحج ، كما ذكر ابن سعد وغيره.. إلخ

وهذا هو الأرجح : أن بعث علي إلى همدان كان في السنة الثامنة لا العاشرة لما سبق .. وإن أخطأ في تقديره أنها كانت في أواخر السنة الثامنة ، لأن الإبهام وعدم تحديد الشهر يدل أن المسألة خاضعة للترجيحات لعدم وجود رواية ثابتة .. ولذلك فقد أرجع علة ترجيحه  إلى أن بعث علي إلى همدان  كان بعد رجوعهم من الطائف، وقسمة الغنائم بالجعرانة ، وهي كانت في أواخر السنة الثامنة ..

أي في ذي القعدة من السنة الثامنة ، لأن الجعرانة كانت في أواخر شوال من تلك السنة ، وهذا الترجيح مشكل ، وكذلك من يذكر أن بعث علي إلى همدان كان بعد الفتح أو بداية السنة التاسعة وغيرها من الترجيحات ..

ويأتي الإشكال فيما تقدم : أن خالداً مكث في همدان ستة أشهر يدعوهم إلى الإسلام فلم يستجيبوا له ، وكيف يتأتى أن يكون خالد بن الوليد في ذي القعدة من السنة الثامنة أو أوائل السنة التاسعة في همدان وهو مع رسول الله في فتح مكة إذ بعثه رسول الله مرة ليهدم صنم العزى ، ومرة إلى أسفل تهامة .. فلو قدرنا أن علياً لحق بخالد في ذي القعدة يعني ذلك أن خالداً مكث فيهم من جمادى الآخر إلى ذي القعدة مدة ستة أشهر فيكون في فتح مكة باقياً في اليمن وليس مع رسول الله ..

ولا يمكن القول : إن خالداً تردد على مكة فترة الستة الأشهر ، لأنه ينافي روايات المؤرخين التي تفيد بقاء خالد في اليمن والذي استمر طيلة ستة أشهر حتى أقفله علي ..

وبالتالي ، فلا يمكن أن يكون الإمام علي "ع" أقفل خالداً من همدان في نهاية السنة الثامنة او في بداية التاسعة ، لأن خالداً لم يكن هذه الفترة في همدان كما يترجح ..

إذن ، في أي شهر من السنة الثامنة  كان بعث علي إلى همدان إن لم يكن في نهاية السنة الثامنة وبداية التاسعة ؟  

 لو رتبنا الأحداث لعرفنا في أي شهر دخل الإمام علي إلى همدان ،  سنجد أن علياً في جمادى الأولى من  السنة الثامنة كان في سرية إلى ذات السلاسل ، وفي رمضان شهد مع رسول الله فتح مكة ،  وشارك مع رسول الله حنين في شوال وما تبعها من أحداث الطائف والجعرانة ..

ويبدو أنه بقي مع رسول الله إلى أن عاد إلى المدينة أواخر ذي القعدة من السنة الثامنة،  ولا يمكن التكهن أنَّ بعثَ عليٍ إلى همدان كان من بعد ذي القعدة ، لما يتنافى ذلك من كون خالد مكث في همدان ستة أشهر كما تقدم ، فلو قلنا إن رسول الله بعث خالداً إلى همدان بعد فتح مكة فيعني ذلك أن رسول الله بعث علياً في ربيع الأول من السنة التاسعة .. ولا يمكن هذا مع ما ثبت أن رسول الله أرسل علياً في ربيع الآخر من السنة التاسعة لهدم فلس ، وهو صنم لطيء .. فمدة شهر وربما أقل من ذلك بكثير لا تكفي لذهاب علي إلى همدان ..

ولأن رسول الله استخلف علياً على المدينة في غزوة مؤتة كما هو مشهور، وكان ذلك في رجب من السنة التاسعة .. وهكذا ما بعد رجب إلى نهاية السنة العاشرة  تتعذر عليك المساحات الزمنية التي تتكهن فيها بعث علي إثر خالد الذي مكث فيهم ستة أشهر ، لأنها مليئة بالأحداث والذي كان فيها كلٌّ من علي وخالد على إثر بعثات مختلفة هنا وهناك ..

بقيت مساحة زمنية يمكن القول إن رسول الله بعث فيها علياً إلى همدان ، وهي ما بين جمادى الأولى إلى رمضان من السنة الثامنة ، وهذا التقدير هو الأقرب إذ أنه خال من أي إشكالات واردة على هذه الحادثة الذي دار حولها الغموض نتيجة شحة الروايات عن الأحداث التفصيلية المرافقة لرحلة علي إلى همدان ..

فيمكن القول : إن رسول الله بعث الإمام علياً إلى همدان بعد انتهائه من ذات السلاسل التي كانت في جمادى الأولى من السنة الثامنة .. فيكون رسول الله قد بعثه في جمادى الآخرة إلى همدان ، وبالتالي يكون قد وصل إلى همدان وقرأ عليهم كتاب رسول الله في بداية رجب ، ويمكن القول إنه مكث فيهم شهرين تنقص أو تزداد ، ثم يلحق  برسول الله في رمضان ، ويشهد معه فتح مكة .. وهنا يكون وصول علي إلى همدان في غرة رجب من السنة الثامنة ..

ولو تأمل الباحث لوجد ذلك أقرب في التقدير  مع اضطراب الروايات ، وتشتت الأخبار ، وانعدام الرواية الثابتة في تحديدها بدقة .. خصوصاً وقد اشتهر في أوساط اليمنيين أن إسلام همدان كان في غرة رجب ، ولذا جعلوا أول جمعة منه عيداً لهم ، وتناقلوه فيما بينهم جيلاً بعد جيل .. دون إنكار من أحد ، وكيف وقد توالت على العلماء الأعلام المحققين ، فلم يرد من أحدهم أنه استنكر عيد جمعة رجب ، أو أن إسلام همدان على يد الإمام علي لم يكن في رجب ، بل وقد نحتوا هذا التأريخ في مسجد الإمام علي بصنعاء القديمة منذ عام 1404هـ ، أي قبل 35 سنة .. المسجد الذي روي أنه مكث فيه أربعين يوماً عند دخوله صنعاء ، وكان منزلاً لأم سعيد البرزجية، ثم حولته إلى مسجد وسمته باسم الإمام علي "ع" ..  

فهذه قراءة سريعة لمحاولة فهم عيد رجب ، وبالذات أنه اشتهر في أوساط اليمنيين أن جمعة رجب يوم إسلام همدان ( بكيل وحاشد اليوم ) كان في غرة رجب في السنة

الثامنة ..

الدلالات: