القصص القرآني له خصائص تميزه عن غيره من القصص سواء من ناحية الهدف أو من ناحية الشكل أو من ناحية المضمون، فإذا ساق القرآن الكريم قصة من القصص فله أهداف من وراء تلك القصة، التي يعرضها عرضاً يختلف عن كل قصص البشر مهما بلغت بلاغتهم.
فلم يرد القصص في القرآن بغرض الإلهاء أو لمجرد تحريك العاطفة كما تفعل الروايات وغيرها بل هناك أغراض يساق لأجلها هذا القصص فقد قال سبحانه: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ﴾[يوسف:111]، ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ﴾[هود:103]،﴿كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرً﴾[طه:99].
فالاعتبار والاستبصار وتثبيت القلوب من أهم الأغراض التي لأجلها قص الله علينا ما قص في كتابه الكريم.
ومن هنا نفهم لماذا القرآن الكريم في أسلوبه العظيم والراقي كان يغفل كثيراً من الأسماء أو الأشخاص أو الأماكن التي لها بعض الأدوار وذلك في الظاهر لأنه لا يتعلق بذكر الاسم أو الشخص أو المكان كثير فائدة أو مزيد عِظة أو اعتبار فترى بعد ذلك كثيرًا من المفسرين يختلفون في اسم هذا الشخص أو هذا المكان أو هذا العدد وما شابه ذلك وصرف بعضهم جل اهتمامه لإثبات ما تعمد القرآن إغفاله غير متنبه إلى الفائدة أو الفوائد العظيمة والدلالات القيمة التي عليه استخراجها مما ذكر في القصة.
ومن طبيعة القرآن في قصصه أن يترك مساحات فنية بين مشاهد القصة يتجول فيها الخيال ويتحرك فيها العقل من خلال الدلائل المذكورة، فلا يفوت القارئ شيء من الأحداث والمناظر المتروكة بين المشهد والمشهد مع الاستمتاع الفني بحركة الخيال الحية وبين كل مشهد ومشهد فجوة كبيرة أو صغيرة كما يسدل الستار ويرفع عن المنظر أو المشهد بما يناسب أهداف السورة أو أهداف القصة وبما يناسب السياق التي ذكرت فيه ([1]).
وفي القصة هذه التي يتكلم فيها القرآن عن نبي الله موسى مع ابنتي الشيخ الكبير شعيب في مدين نسلط الضوء على ما في هذه القصة من العبر والعظات والمعاني السامية والقيم الرفيعة التي يتحلى بها أفراد هذه القصة، كما صورها القرآن في مشهد حيٍّ يمثل صورة واقعية عن حالة اجتماعية من زمان غابر ينفعنا في زماننا.. وذلك لأن القيم لا تموت ولا تتبدل بتبدل الأزمان أو تغير الأشخاص ومكارم الأخلاق قانونٌ ثابتٌ، رغم تغير الزمان والمكان، فالكرم والمروءة ، والنجدة والشجاعة، والعفة والحياء، والإحسان، معانٍ ثابتة لا تقبل المراوغة بشأنها أو التنصل عن مضمونها، فالظاهر أن الهدف من سرد هذه القصة في سورة القصص هو أن يبين لنا الله سبحانه عظيم رعايته وجليل رأفته بعباده المستضعفين وكيف يسخر لهم عوامل القوة وهم في أشد لحظات الضعف، وكيف يقوض سلطان الجبابرة والفراعنة وهم في أعتى لحظات القوة.
ولهذا جاء في أوائل هذه السورة (سورة القصص) قوله تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ﴾[القصص: 5، 6].
هذا هو أحد الأغراض الهامة التي سِيقت أحداث وقصص هذه السورة للتدليل عليها.
وهنا أيضاً هدف آخر وهو أن يبين لنا الله النفسية التي يحملها نبيه موسى عليه السلام والروحية السامية التي كان يتمتع بها ألا وهي الإحسان إلى من حوله قال تعالى: ﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾[القصص:14] أي وكذلك نجزي كل محسنٍ نؤتيه علماً وحكما.
ثم أورد القرآن قصة القبطي مع الإسرائيلي وكيف بادر موسى إلى نصرة ذلك المستضعف، ثم قضية القتل الخطأ والتآمر على قتل موسى وكيف خرج موسى خائفاً يترقب وهو يعتصم بخالقه وربه قائلاً: ﴿رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِين﴾[القصص:21] بعد ذلك قال الله تعالى: ﴿وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيل﴾[القصص:22] أي جهة مدين، والظاهر من التعبير القرآني أن موسى يعرف جهة مدين ولكن لا يعرف الطريق الموصل إليها.
فمثلاً يعرف أن مدين تقع إلى جهة الغرب ولكنه لا يعرف الطريق الموصل إليها بالتحديد، فقال سبحانه: ﴿تِلْقَاء مَدْيَنَ﴾ ولم يقل: (ولما توجه إلى مدين).
وعندما توجه موسى صوب مدين التجأ إلى مولاه الذي رعاه بلطفه وبرّه فقال وهو الخائف المطارد الذي لا يملك زاد السفر ولا راحلة الطريق ولا المعرفة الكافية للطريق فقال بثقة العارفين ويقين العالمين ﴿عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيل﴾[القصص:22] إنه يؤمل في الله الذي لم يرَ منه إلا الخير، ولم يخلُ من نعمه طرفة عين أن يهديه سواء السبيل، أي وسط الطريق، فلا ينحاز عن الحق في كل الأمور.
﴿وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِير* فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِير﴾[القصص:23، 24]، بلغ موسى مدين وحضر إلى مكان الماء الذي يستقي منه أهل القرية ﴿وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً﴾ أي جماعة من الناس يسقون دوابهم ومواشيهم ﴿وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ﴾ أي بجانبٍ منفصل عنهم تذودان أغنامهما أي تمنعان وتدفعان أغنامهما من ورود الماء، وهذا أمر غريب يشاهده موسى فيشعر أن في الأمر شيءٌ وربما أن الفتاتين تحتاجان إلى المساعدة، يذهب موسى ويسألهما ﴿مَا خَطْبُكُمَا﴾ أي ما شأنكما ﴿قَالَتَا لاَ نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء﴾ أي نحن من عادتنا المستمرة ومن قيمنا أنا لا نسقي حتى يصدر الرعاء (الرعاء جمع راعٍ) أي يخرج الرعاء بمواشيهم ويخلو المكان ثم نسقي، ومعنى (صدر) خرج، عكس ورد.
ثم قالتا: ﴿وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِير﴾ وهذا القول اعتذار وتعليل منهما في ممارستهما لهذا العمل فلا يوجد معنا رجل يزاحم الرجال وإنما والد قد بلغ في السن عتيا ﴿فَسَقَى لَهُمَا﴾ موسى عليه السلام ولم يقل إني متعب من عناء السفر أو مرهق من شِدة الجوع لأن المسافة التي قطعها موسى ثمانية أيام كما يقال ولم يختلق لنفسه الأعذار والمبررات كما يفعل أكثرنا عندما تلوح له فرص فعل الخير بل سارع إلى السقي لهما في أدب جم فلم يكلمهما بكلمة ولم يطلب منهما مساعدته في غربته ولم يستغل ذلك الإحسان للتقرب والتزلف والتعارف كما يحصل هذه الأيام بل فعل الخير لوجه الله وانصرف ﴿تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ﴾ أي أن الجو كان حاراً ما يزيد من معاناته انصرف إلى الظل ليناجي مولاه الذي أحبه وفعل الإحسان لوجهه؛ لأن موسى قطع على نفسه عهداً بأن لا يعين الظالمين فقال ﴿رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِين﴾[القصص:17] بما أنك يا رب قد أعطيتني هذه القوة فلن أساعد المجرمين بل سأسخر ما أعطيتني لنفع المستضعفين والمحتاجين وهاهو يفي بعهده ويحسن إلى المحتاج قاصداً وجه الله قائلاً ﴿رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِير﴾[القصص:24] فأنت يا رب أنيس كل فريد وأنت ملجأ كل طريد وأنت مغني كل محتاج، هاهو موسى يستعمل السلاح الذي لا يخطئ ولا يخيب إنه يلجأ إلى الدعاء في كل موقع من مواقع حياته، فعندما قتل الرجل خطأ لجأ إلى التوبة قائلاً ﴿رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم﴾[القصص:16] وعندما خرج خائفاً قال: ﴿ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِين﴾[القصص:21] وعندما توجه إلى مدين قال: ﴿ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيل﴾[القصص:22] وهاهنا يقول: ﴿ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِير﴾[القصص:24].
حقاً ما شقى بالدعاء عبد من عباد الله لأنه قال: ﴿ وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا﴾[مريم:4].
قال الإمام علي عليه السلام: أن موسى عليه السلام عندما قال: ﴿رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِير﴾: (والله ما سأله إلا خبزاً يأكله لأنه كان يأكل بقلة الأرض ولقد كانت خضرة البقل ترى من شفيف صفاق بطنه لهزالة وتشذب لحمه)، ومعنى كلام الإمام أن الجوع قد بلغ من موسى مبلغاً عظيماً، وكذلك التعب والإعياء بحيث أنه يأكل من بقل الأرض أي حشائشها، ومع ذلك ساعد من يحتاج إلى المساعدة دون أي مقابل، ومعنى (فقير) محتاج، وعدي بـ(اللام) لا بـ(إلى) لتضمينه معنى سائل وطالب، أي لم يقل (إني إلى ما أنزلت) فجيء باللام لتفيد معنى الافتقار، ومعنى الطلب والسؤال معاً، وهذا أسلوب من أساليب القرآن يسمى (التضمين)، وتحتمل الآية معنىً آخر، وهو إني فقير من الدنيا لأجل ما أنعمت به عليَّ من خير الدين، وهو النجاة من الظالمين، لأنه كان عند فرعون في ملك وثروة، هكذا ذكره الزمخشري.
فيكون معنى الآية على الاحتمال الأخير أنه يحمد الله ويشكره على النجاة بدينه رغم فقره الدنيوي، وهذا يبين لنا عظمة نبي الله موسى، فقد كان في قصر فرعون في رخاء ودعة، ولو شاء لاستمر على تلك الحال، ولكن نفسه الأبية للظلم الرافضة للاستضعاف تأبى المداهنة في مصير أمة موسى وهم بنو إسرائيل.
ومن هذه الآيات نستطيع أن نلحظ من ثناياها شروط عمل المرأة خارج المنزل وواجب المجتمع الإيماني تجاهها فأول شرط ذكرته الآية هو عدم الاختلاط بالرجال أو مزاحمتهم وذلك من قوله تعالى حاكياً عنها ﴿لاَ نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء﴾ أي أننا معتادتان على عدم السقي حتى يخلو المكان من الرعاء، وجاءتا بالفعل المضارع (نسقي) لتبينا أن ذلك عادة مستمرة لا حدث عابر.
الشرط الثاني: هو الضرورة، أي لا يوجد لديها من يعولها أو يقوم بعملها، ويستخلص هذا الشرط من قوله تعالى: ﴿وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِير﴾ أي لا يستطيع أن يسقي لنا لكبر سنه وضعف بدنه، فهاهنا شرطان أساسيان لكل امرأة تعمل خارج بيتها ألا وهو الضرورة وعدم الاختلاط بالرجال.
أما واجب المجتمع الإسلامي تجاه هذه المرأة العاملة فهو مساعدتها والعمل على إيجاد حلول تكفيها مؤنة العمل الشاق ومشقة الطلب كما فعل موسى عليه السلام عندما ساعد هاتين الفتاتين.
ونستفيد من هذه الآية أن من آداب الدعاء أن يقدم الإنسان قبل دعائه إحسانًا ما يتقرب به إلى الله في استجابة دعائه فقد قدم موسى عليه السلام مساعدة الفتاتين ثم توجه إلى الله سبحانه بدعائه.
ومما نستفيده من هذه الآية أيضاً هو جواب الفتاتين عندما سألهما موسى ﴿مَا خَطْبُكُمَا﴾ فقد كان جواباً حازماً حكيماً يدل على رجاحة عقل وثقة نفس؛ حيث جائت بالنتيجة والسبب وذكرت الشيئين معاً ﴿ لاَ نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِير﴾ فلم تترك مجالاً لسؤال آخر ولم تفتح الباب لكثرة الكلام، ولم تتعلثم أو تتردد في جوابها، وهذا كله يدل على عفافها وحزمها وثقتها بنفسها.
﴿فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ﴾ الفاء تدل على سرعة الاستجابة لدعاء موسى وسرعة الفرج من الله لعبده المخلص المتيقن الواثق به سبحانه ﴿ تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ﴾ جملة فيها الكثير من المعاني، فلم يقل (جاءته على استحياء) وإنما قال تمشي ليصف مشيها ويصف قولها لأن ﴿عَلَى اسْتِحْيَاءٍ﴾ يصح أن يتعلق بكلمة تمشي أو بكلمة قالت، فإذا وقفت على كلمة تمشي سيكون المعنى (على استحياء قالت) فاحتمل أن الاستحياء للمشي والقول، والظاهر أنه للمشي والقول معاً، ثم إن القرآن عبّر بحرف الجر (على) ليفيد أنها متمكنة من الحياء، وأن الحياء أصبح ملكة في طبعها وجزءًا من حياتها، فلم يأت مثلاً بالباء (باستحياء) ولا غيرها من حروف الجر وإنما أتى بكلمة (على) التي تفيد التمكن المعنوي من هذه الصفة، فليست صفة متكلفة بل راسخة في نفسها ثابتة في قلبها حتى كأنها كلها حياء فملبسها حياء، ومشيها حياء، وقولها حياء، حتى كأن الأرض تحتها حياء وهي تمشي عليه.
إن القرآن عندما يركز على صفة واحدة من بين بقية الصفات هو يرشدنا إلى أهمية هذه الصفة بل إلى عظمة هذه الصفة بالنسبة للمرأة، فإذا كان الحياء رأس الإيمان للذكر والأنثى فإنه في الأنثى أهم وأشد لما منحها الله من الخصائص التي يجب أن تحافظ عليها.
إن الحياء في المرأة أهم وصف بل أهم خلق، فإذا زال حياء امرأة استحقرها الرجال قبل النساء، وابتعد عنها القريب قبل البعيد، ونزلت بقدرها إلى الحضيض، فقدر المرأة في حياءها، فبقدر حيائها يكون قدرها، وبقدر حياءها تكون عفتها.
﴿قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا﴾ قالت: إن أبي الذي يدعوك، فهي مجرد رسول من أبيها ﴿لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا﴾ تعليل لسبب الدعوة دفعاً للريبة التي يمكن أن تخالج موسى عليه السلام.
قبل موسى هذه الدعوة فهو في غربة ويمكن أن تفتح له هذه الدعوة باباً للتعرف على شخص، وتكون بداية الفرج لموسى عليه السلام.
وصل موسى إلى أبيها، ويظهر من الآيات أنه رجل صالح يحب الخير، جاء في أكثر التفاسير أنه نبي الله شعيب، وفي بعضها أنه ابن أخ لشعيب النبي، وأي كان فهو رجل كريم محسن تظهر عليه آثار النبوة، فإن لم يكن نبياً فهو من (ذرية الأنبياء)، أو خلص التابعين لهم، وصل إليه موسى وقص عليه القصص، أي ذكر له قصته مع فرعون وقصته مع القبطي، ومن عادة الضيافة أن يتبادل الحديث بين الضيف والمضيف عن سبب المجيئ وعن الوجهة وعن ما شابه ذلك، فقال له ذلك الشيخ: ﴿لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ ينهاه عن سبب الخوف وهو الظن أن لهم قدرة على هذه المدينة فيزيل ذلك الظن بقوله قد نجوت منهم فلا سلطان لهم على هذه المدينة، هذا أهم ما يطلبه أي شخص هارب مطارد، ألا وهو الأمان، فهاهو يحصل على الأمان من القوم الظالمين الذين يدبرون قتله على الفعل الخطأ الذي لا يوجب القتل.
﴿قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ﴾.
هذا القول من هذه الفتاة يدل على حسن تربية وسرعة بديهة وشجاعة أدبية، فقد سارعت لانتهاز الفرصة فهي لا تحب الخروج إلى المرعى وتبحث عن من يكفيها الخروج والعمل، فبادرت لتنصح أباها أن يستأجره، ثم أعقبت كلامها بالتعليل والحجة فقالت: ﴿إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ﴾ أي خير من تستأجر يا أبي هو الرجل المتصف بالقوة مع الأمانة، وهو هذا، فقالت بتلك العبارة لترسلها مثلاً وقاعدة أقرها القرآن ولم يعترض على هذا القول لأن أهم شرطين يجب توافرهم في أي أجير أو عامل أو مسؤول هو القوة في عمله (وقد تكون قوة بدنية أو قوة ذهنية علمية) والأمانة، فلا ينفع الأمين فقط كما لا تنفع القوة فقط، فلابد من اجتماع الشرطين وتكامل الخلقين، وهذه إشارة قوية تفيدنا نحن في إدارة الدولة أو أي عمل آخر أن نركز في اختبار الأشخاص على هذين الشرطين ألا وهو الكفاة والتي تعني القوة، وكذا الأمانة فلا فائدة من قوي خائن، كما لا فائدة من أمين لا قوة له في شيء.
وهنا يتبادر سؤال؛ كيف عرفت هذه الفتاة أن موسى عليه السلام قوي وأمين.
لقد قال المفسرون في ذلك أقوالاً كثيرة، ولكن الراجح أنها عرفت ذلك من خلال تعامل موسى مع الرعاء ومع الفتاتين، فقد استنتجت من خلال انزياح الرعاء عنه ورهبتهم له قوة بدنه وقوة قلبه أيضاً.
ومن خلال تعامله مع الفتاتين تظهر أمانته، فلم يتطاول بنظره إليهن ولم يحاول التقرب إليهن وعندما حافظ على الأغنام خلال السقي كل ذلك يدل على أمانته وعفته، وكم من مواقف وإن كانت قصيرة الزمن تدل على عظمة أصحابها وعلى كثير من الصفات التي يحملونها.
سمع الشيخ الكبير نصيحة ابنته ولمح بذكاء إلى أن الوضع داخل الأسرة يحتاج إلى خطوة أخرى غير الاستئجار ليكون وضع الجميع أكثر استقراراً، مع ما رأى وسمع من موسى من كريم الأخلاق فقرر أن يعرض عليه الزواج بإحدى ابنتيه، فقال: ﴿قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَةَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ﴾ لقد عرض على موسى عليه السلام الزواج بإحدى ابنتيه، وليس في عرض الفتاة للزواج من رجل صالح أي عيب، بل العيب أن تمنع الفتاة من حقها في الزواج لأعذار واهية كما يفعل كثير من المسلمين اليوم ناسين أو متناسين قول رسول الله صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ: «إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير».
هاهو الشيخ الصالح يقدم عرضًا لموسى عليه السلام هو أحسن عرض لخائف غريب فلا أحسن من أن يجد الغريب بيتاً يأوي إليه، وزوجاً يسكن إليها، وعملاً يسعى فيه بيديه.
حقاً لقد اكتملت النعمة من الله على هذا العبد الذي يحب الخير والإحسان للناس، ثم قال هذا الشيخ الصالح: ﴿وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ لا أريد أن أشق عليك بإلزامك بالأجل الأعلى بل الأمر إلى اختيارك يا موسى، أو ما أريد أن أشق عليك في هذه الإجارة بالخدمة المتواصلة أو الرقابة الشديدة في الأوقات أو الأعمال بل ستجدني سمحاً سهلاً.
ما أعظم هذا الكلام وما أحلى هذا المقام، فأين شباب وشابات هذا الزمان من هذه المواقف الإيمانية والقيم النبيلة التي ذكرها الله في كتابه لتكون مصدر إلهام ومحطة تزود للآباء والأبناء والفتيان والفتيات الذين يتعرضون لحرب ناعمة تستهدف الحياء والعفة وتسعى لكسر الحواجز بين الرجال والنساء.. أين أخلاق الناس اليوم من تلك الأخلاق التي تصون العرض وتحرس الشرف، وتحافظ على القيم.. أين المغالين في المهور من الاعتبار بقصص القرآن لينظروا كيف سهل هذا الرجل على موسى موضوع المهر ولو شاء لشق عليه بأن يطلب منه مالاً في الحال أو يطلب منه أن يوفر لابنته منزلاً أو غير ذلك مما يشق على موسى في تلك الحالة، بل إن الشيخ طمأن موسى بقوله: ﴿سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ ستعرف يا موسى بإذن الله أني لا أريد إلا الصلاح لك والخير والبركة لزواجك وإجارتك هذه.
قَبِلَ موسى عليه السلام هذا العرض فقال: ﴿ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ﴾ ذلك عهد وعقد بيني وبينك لا يُنقض لا مني ولا منك، ثم أكد أن له الخيار في الأجلين بقوله: ﴿ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ﴾ أي لا يعتدى علي في طلب الزيادة لأنها موكولة إلى اختياري، ويحتمل أن معناه (فلا أكون معتدياً) كما تقول: (فلا إثم علي).
ثم قرر وأكد كل ما سبق بقوله: ﴿وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ﴾ أي شاهد ومهيمن.
وما أحوج الناس اليوم لاستحضار رقابة الله في القول والعمل وأنه شاهد على كل صغيرة وكبيرة.
إن هذه القصة على صغر حجمها تبين لنا كيفية التعامل بين الرجل والمرأة وكيف تكون العلاقة بينهما، وتبين لنا أهم صفات الرجل عند المرأة (القوة والأمانة) وأهم صفات المرأة بالنسبة للرجل (الحياء).
إنها لترسم مشهداً حياً عن عظمة الأنبياء وعن سرعة إجابة الله سبحانه لعباده المحسنين، وأن الإحسان سبب مهم في سرعة الفرج والغوث الإلهي، وأن الدعاء سلاح فعال في كل الأزمان، وأن العفة سبب من أسباب تسهيل الزواج وتيسيره، وأن الزواج هو الحل الأمثل للعلاقة بين الرجل والمرأة لتكوين حياة مستقرة هانئة، وأن على المجتمع أن يسعى لتيسير هذه الطاعة طاعة الزواج بكل السبل الممكنة من محاربة التقاليد الباهظة التي مصدرها التفاخر والتكاثر، ومن تخفيف أعباء المهور وذلك لكي نصل إلى مجتمع مملوء بالطهارة والنقاء والعفة والهدى.
وصلى الله وسلم على محمد وآله
([1]) في ظلال القرآن، سورة القصص، سيد قطب. بتصرف.