عن العدالة
العدالة أهم ركيزة لأي دولة من الدول قديماً وحديثاً، فلا دولة بدون عدالة ولا عدالة من دون دولة، ولهذا حث الشارع على ذلك في قوله تعالى: { وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} وفي قوله سبحانه: { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}.
وقد وصلت التجربة البشرية على مر الأزمان والعصور إلى تحقيق إنجازات مهمة في جانب العدالة والمساواة، بناء على إدراك أهمية مبدأ سيادة العدالة، وأنها من صلب سيادة الدولة على أراضيها وعلى شعبها، وأنشأت لذلك المحاكم بمختلف أنواعها وعيّنت فيها القضاة ووظفت الكُتّاب والمساعدين، كما أنشأت حديثاً النيابات وعيّنت لها رؤساء ووكلاء ووظفت فيها الكتّاب والمعاونين، ولازال النظام القضائي في تطور وتقدم نحو الأفضل خصوصاً مع توسع الحاجة الماسة لإنفاذ العدالة وتوسع وتطور المجتمعات والمعاملات وتنوع واختلاف التجارب والخبرات..
ومع ذلك التطور وجدت البنية التحتية للعدالة في معظم دول العالم ولو بنسب متفاوتة، غير أن الحد الأدنى منها بات متوافراً في معظم الدول، فإلى جانب تنوع المحاكم وتقسيمها حسب الموضوعات إلى جنائي ومدني وتجاري وأحوال شخصية وغيرها، صارت لبعض أقسام القضاء كيانات مستقلة كما في جانب القضاء الإداري.
ومن المرافق القضائية الضرورية لإنفاذ العدالة الإدارات العامة كأقلام التوثيق والتنفيذ والإثبات والمحضرين التي ملئت بالموظفين والكتاب المتخصصين، وكذا أمناء السر ورؤساء الأقلام الجنائية في النيابات العامة والنوعية.
كما صدرت التشريعات والقوانين المنبثقة عن القواعد والنصوص الدستورية لتنظيم سلطات القضاء في إطار مبدأ استقلال سلطات الدولة الثلاث: التنفيذية والتشريعية والقضائية، وصدرت بناء عليها العديد من الانظمة واللوائح التي عنت بتسيير شئون القضاء بكل مرافقه وأقلامه ومساعديه وبما يضمن حسن سير وإنفاذ العدالة.
ومع ذلك التطور المهم واللافت والتقدم الحاصل الذي وصلت إليه البشرية اليوم سواء في التشريعات والقوانين أو في البنى التحتية وأدوات ووسائل إنفاذ العدالة بشكل عام، إلا أن ظاهرة الفساد المستشرية في العالم وداخل الأنظمة والدول كان لها دور كبير في الحد من تحقيق وإنفاذ مبدأ العدالة على الواقع، وهذه الظاهرة تختلف من دولة إلى أخرى باختلاف عوامل عدة مرتبطة بالقرار السياسي والوعي المجتمعي ومراكز القوى التي تحرص على تحقيق مصالحها الضيقة فحسب.
ولا يختلف الوضع في بلادنا عن ذلك، لا من حيث تطور الأنظمة والتشريعات والمؤسسات التي تخدم العدالة، ولا من حيث التأثير السلبي والبالغ لظاهرة الفساد على واقع القضاء والسلطة القضائية والحد من إنفاذ مبدأ العدالة بشكل عام.
النيابة العامة والعدالة الجنائية
لازال الكثير من الناس في بلادنا ومنهم بعض المثقفين والوجهاء لا يعرفون طبيعة عمل النيابة العامة، وهل هي هيئة من هيئات السلطة القضائية؟ أم أنها سلطة تنفيذية تتبع وزارة العدل، أو جهاز من أجهزة وزارة الداخلية مثل البحث الجنائي وإدارات الأمن؟!
ويرجع السبب في ذلك لعدة عوامل يمكن تلخيص أهمها في النقاط التالية:
حداثة النشأة:
فالنيابة العامة صدر قرار إنشائها في عام 1971م، أخذاً بالتجربة المصرية التي أثبت الواقع جدوائيتها في تحقيق نتائج ملموسة في حماية وصون الحقوق والحريات العامة والخاصة داخل المجتمع، وكممثل ووكيل عن المجتمع ككل أمام أجهزة ومؤسسات الدولة، ويرتبط مجال عملها تحديداً بجهازين يتبع الأول جهاز الأمن وهي أقسام الشرطة والمناطق الأمنية، ويتبع الثاني السلطة القضائية وهي المحاكم بمختلف مستوياتها.
ويقع على عاتق النيابة العامة السهر على حراسة مصالح المجتمع المتمثلة باحترام النظام العام ومن خلال الحرص على تطبيق القوانين النافذة على الكافة، ولهذا فقد حرص المقنن على وضع قاعدة عامة في الدستور تتضمن قيداً هاماً على عمل النيابة العامة هي: "لا جريمة ولا عقاب إلا بنص"، وأصدر بعد ذلك قانوناً مخصصاً حدد فيه كل أنواع وصفات الجرائم التي تضر أبناء المجتمع سواء بشكل عام أو بشكل خاص، كما حدد فيه نوع العقوبة التي يمكن إيقاعها بحق كل من يرتكب أي جريمة من تلك الجرائم، وراعى المقنن أن تتناسب كل عقوبة مع حجم أو مستوى الجريمة التي يرتكبها أي مواطن، وأن تحقق له ولغيره الردع والزجر عن ارتكابها مجدداً.
ولما كانت أجهزة الشرطة تقوم بأعمال ومهام مزدوجة أيضاً: قبل وقوع الجريمة، وبعد وقوع الجريمة، ولما كان منتسبو الشرطة كثيري الاحتكاك بالجناة والمتهمين والمشتبه فيهم ويظهرون دائماً بمظهر القوة والحزم، ويمنحهم القانون الحق باستخدام الأسلحة النارية –استثناءً- ضد المطلوبين الخطرين لحفظ أمن واستقرار الناس والمجتمع، لذلك ظلت أعمالهم ومحاضرهم التي يدونون عليها أقوال الأطراف وأعمال الانتقال والمعاينة والضبط محل تشكيك وإنكار من قبل المتهمين ومن ينوب عنهم من محامين ووكلاء شريعة وغيرهم..
وقد واجه قضاة الحكم هذه المعضلة بشيء من الجدية والمسئولية، فصدرت العديد من الأحكام القضائية ببراءة المتهمين من الجرائم المنسوبة إليهم رغم اعترافاتهم التفصيلية في محاضر الشرطة إلا أنهم أنكروها أمام النيابة والمحكمة، وبدلاً من إنزال العقوبة الرادعة بحقهم، تم تحصينهم من العقاب بأحكام قضائية بالبراءة!
وذلك على اعتبار أن القضاء الجنائي يقوم على مبدأ اقتناع القاضي بحقيقة الواقعة وما ينسب للمتهم من أفعال يجرمها ويعاقب عليها القانون، وليس القاضي "الجنائي" ملزماً بأن يحكم بناءً على الأدلة المقدمة أمامه مجردة عن قناعته القائمة على أساس من العقل والواقع، والتي قد تجعله ينسف الأدلة المقدمة إليه بسبب تعارضها مع قرينة قوية ظهرت وثبتت أمامه في مجلس حكمه (كعلامات تعذيب أو إكراه أو طول فترة الاحتجاز خلافاً للقانون مثلاً) أو قرينة استقاها من محاضر الشرطة نفسها (كمخالفة الإجراءات القانونية مثل: القيام بالضبط أو التفتيش دون مسوغ قانوني أو القيام بأي منهما دون إذن قضائي مسبق، أو مثل عدم توقيع الضابط المختص على المحضر، أو سماع أقوال المتهمين والمشتبه فيهم من قبل جهة غير مخولة قانوناً، أو من قبل جنود وأفراد الشرطة غير الممنوحين صفة الضبطية القضائية وفقاً للقانون.. الخ).
غياب التأصيل:
بنظرة فاحصة لكل ما أورده فقهاء القانون في كتبهم ومؤلفاتهم حول النيابة العامة نجد أنهم شرقوا وغربوا، حيث نقلوا في تلك المؤلفات كل ما قيل عن التأصيل التاريخي للنيابة العامة سواء كان صحيحاً أم فاسدا قريباً أم بعيدا، فمنهم من قال بأن أصلها يوناني قديم، ومنهم من قال بأنها فكرة فرنسية بحتة تطورت في العصر الحديث من مهام محامي الملك الذي كان يحضر أمام المحاكم للدفاع عن ممتلكات وحقوق الملك..
وتناسى هؤلاء أنه يوجد في تاريخنا وتجربتنا الإسلامية الفريدة والغنية نظام خاص يشبه نظام النيابة العامة إلى حد كبير من حيث الأهداف والمهام ومن حيث تحقيق النتائج المرجوّة بشكل عام فيما يتعلق باستيفاء الحق وإنفاذ الردع العام، ألا وهو نظام الحسبة الذي يقوم على فكرة الاحتساب والتطوع لله تعالى في استيفاء الحقوق العامة أو ما يعرف في الفقه الإسلامي بـ"حق الله"، ويدخل ضمن أصل من أصول الدين عند المسلمين وهو: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولا يعني ذلك أن وظائف المحتسب قديماً هي نفس ما تقوم به النيابة العامة اليوم، وإنما نكتفي بما أوردناه هنا للإشارة إلى الأصل التأريخي لفكرة النيابة العامة، ممثلاً بنظام الحسبة الذي يقوم على استيفاء الحقوق وايقاع الزجر والردع وفق الضوابط الشرعية، وبالتالي يوجد لدينا أصل تاريخي وشرعي للنيابة العامة، وليست كما يروّج له البعض من أنها تجربة غربية بحتة ما أنزل الله بها من سلطان، وهذه القناعة للأسف لازالت هي السائدة لدى معظم الناس ممن يعتقدون بأن النيابة العامة مجرد اختراع غربي، بينما الواقع والحقيقة هو العكس تماماً، حيث لا نستبعد أن يكون المستشرقون الغربيون الذين قدموا خلال القرون السالفة إلى البلدان العربية قد عرفوا كل ما يتعلق بنظام الحسبة وأخذوه في كتبه أو نقلوه في كتبهم ثم درسوه وفهموه وأثروه وأطلقوا عليه مسمّيات أخرى وصولا إلى ما بات يُعرف اليوم بالنيابة العامة.
طبيعة المهام:
نص الدستور اليمني في المادة ( 149) على: "القضاء سلطة مستقلة قضائيا وماليا وإداريا والنيابة العامة هيئة من هيئاته.....الخ"، كما نصت المادة (50) من قانون السلطة القضائیة على "أن النیابة العامة ھیئة قضائیة تمارس الاختصاصات المخولة لھا قانوناً"، ونصت المادة (21) من قانون الإجراءات الجزائية أن "النیابة العامة ھي صاحبة الولایة في تحریك الدعوى الجزائیة ورفعھا ومباشرتھا أمام المحاكم ولا ترفع من غیرھا إلا في الأحوال المبینة في القانون".
وباعتبار النیابة العامة وكیلا عن المجتمع يقع عليها عبء السهر على حماية الحقوق والحريات التي قد يتم انتهاكها والتعدي عليها من كل من تسول له نفسه ارتكاب جريمة يحقق من وراءها كسبا مادياً أو مصلحة معنوية؛ وبالتالي يتعين على النيابة العامة العمل على استيفاء تلك الحقوق والحريات المنتهكة وإعادتها لأصحابها وفقاً لمقتضيات ومبادئ العدالة، ابتداءً من تاريخ حصول الجريمة ومباشرة التحقيق والتصرف فيها بالحفظ لعدم كفاية الأدلة مثلاً أو بالإحالة للمحكمة إن كانت الأدلة كافية، ومن ثم القيام بدور الادعاء أمام القاضي المختص، وصولاً لتنفيذ الأحكام الصادرة فيها وفقاً للقانون باعتبار أن ثمرة الأحكام تنفيذها، كيف لا وتنفيذ الأحكام الجنائية هو ما يضمن تحقيق الردع المجتمعي كمقصد هام من مقاصد التشريع.
ولذا نجد أن النیابة العامة تمتلك صلاحيات التحقیق والاتھام والادعاء، وھو ما يمكنها من القيام بمهامها القانونية بالشكل الذي يحفظ ويحمي الحقوق والحريات العامة والخاصة، وبما يضمن في نفس الوقت التأكد من إحاطة المتهم نفسه بضمانات حق الدفاع في كل المراحل التي تمر بها الدعوى الجزائية وهي: مرحلة جمع الاستدلال ومرحلة التحقيق ومرحلة المحاكمة، ووفقاً لصلاحياتها المخولة قانوناً نجد أن النيابة العامة تمارس مهامها وأعمالها بموضوعية تامة، فهي إن لزم الأمر قد تطرح على المحكمة عناصر الدعوى وأدلتھا حتى لو كانت في مصلحة المتھم، لذلك كله تعتبر النيابة العامة خصماً شريفاً.
الاستقلالية:
إن استقلال القضاء هدف ثابت وحتمي لتحقيق العدالة في المجتمع فرضته طبيعة العمل القضائي ذاته وفرضته إرادة الشعوب الحرة تجسيداً لمثلها العليا في العدل وضبطاً لحركتها نحو تحقيق أهدافها في الحياة الكريمة فان لم يكن القضاء مستقلاً فلا يمكن أن تكون هناك عدالة وإذا كان العدل هو أساس الحكم فان استقلال القضاء هو أساس العدل.
وتنبع أهمية استقلال القضاء بشكل عام باعتباره ضرورة لحماية سيادة القانون من تغوّل واستغلال القائمين على باقي السلطات، وباعتباره ضمانا أساسيا لحريات المواطنين وحقوقهم، ويكسب الناس الثقة في نزاهة القضاء وحجية الأحكام القضائية.
وقد حرص الدستور اليمني على مبدأ استقلال القضاء في المادة (149) التي نصت على أن "القضاء سلطة مستقلة قضائيا وماليا وإدارياً ... والقضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون"، ولتحقيق مبدأ استقلال القضاء ونزاهته نص الدستور على أهم مبادئ ضمان استقلاله، كما صدر قانون السلطة القضائية رقم (1) لسنة (91) الذي تولى تنظيم القضاء وأجهزته والوظائف التي يمارسها وضماناتها.
وضماناً لنزاهة واستقلال القضاء يحظر قانون السلطة القضائية رقم (1) لسنة (91) على القضاة مزاولة التجارة، أو الجمع بين وظيفة القضاء وأية وظيفة أخرى أو أي عمل لا يتفق مع واجبات القاضي واستقلال وكرامة القضاء، وأوجب على كل من يتولى وظيفة من وظائف السلطة القضائية قبل مباشرته لأعماله أن يقدم كشفاً بما يملكه من مال وعقار.
يؤكد قانون السلطة القضائية على أن القضاء سلطة مستقلة في أداء مهامه والقضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون، ولا يجوز لأية جهة وبأية صورة التدخل في القضايا أو في شأن من شئون العدالة ويعتبر مثل هذا التدخل جريمة يعاقب عليها القانون ولا تسقط الدعوى فيها بالتقادم .
وتعتبر النيابة العامة وفقاً لنصوص الدستور والقانون هيئة من هيئات السلطة القضائية، بالنظر لدورها الرئيسي في العدالة الجنائية، باعتبارها صاحبة الحق في تحريك الدعاوى الجزائية، ولها إلى جانب مهام التحقيق القيام بمهام الإدعاء العام أمام قضاة الأقسام الجنائية بالمحاكم، ومن ذلك حق تقديم الطعون في الأحكام والقرارات والأوامر القضائية الصادرة بشأنها، وهو ما يترتب عليه آثار مهمة في جانب حفظ الحقوق والحريات العامة والخاصة، وعلى مفاهيم مساواة المواطنين أمام القانون والمحاكم بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية أو الحزبية وكذا نفوذهم ومراكزهم داخل باقي السلطات والهيئات والمؤسسات.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن استقلال النيابة العامة كهيئة قضائية لا يعني منح أعضائها سلطات مطلقة بلا رقابة أو محاسبة، حيث أخضع قانون السلطة القضائية أعضاء النيابة العامة –كغيرهم من القضاة- للتفتيش الدوري والمفاجئ، فيقوم قضاة التفتيش القضائي بمكتب النائب العام للنزول ميدانياً للتفتيش على أعمال أعضاء النيابة العامة داخل نياباتهم والاطلاع على ملفات القضايا التي يحققون فيها وكذا التي سبق التصرف فيها، ويرفعون بناء على ذلك تقارير (سرية) يتم فحصها ودراستها داخل هيئة التفتيش القضائي وتمنح علامات التقييم المستحقة لكل عضو نيابة من واقع تقارير ملفات عمله، والتي يكون لها تأثير ايجابي مباشر على الواقع العملي لأداء النيابة وبما يضمن سلامة سير إجراءات العدالة الجنائية وفقاً للقانون.
صعوبة التأقلم
رغم حداثة تجربة النيابة العامة بالنسبة للدول العربية ومنها اليمن، ورغم الفساد المستشري في أروقة مؤسسات الدول العربية على اختلاف النسب فيما بينها، إلا أن ذلك لم يمنع تلك الأنظمة من محاولة اقتباس تلك التجربة من قبيل التظاهر بالتقدم والازدهار والادعاء بتطوير وتحديث منظومة القضاء بما يواكب الدول المتقدمة والحضارة الغربية، ولهذا السبب نجد أن العقود الخمسة الماضية من تاريخ إنشاء أول جهاز نيابة عامة في العالم العربي، لم تحقق الغرض الرئيس من إنشائها، وإن حققت شيئاً من ذلك فليس بالقدر المطلوب، وإن كان بالقدر المطلوب فلم يكتب له الدوام والاستمرار بل الرجوع والنكوص على عقبيها..!
وأعتقد أن السبب في كل ذلك يرجع لحرمان السلطة القضائية من استقلاليتها وإخضاعها دوماً لسياسات الأنظمة البوليسية الحاكمة، التي لم تقم على أساس من إرادة الشعوب، بل نشأت على الانقلابات وتقاسم المصالح وفرض السيطرة بقوة الحديد والنار، ولهذا نستطيع القول بأن الخلل الناشيء في مشروعية الأنظمة القائمة يمتد أثره إلى سلطات الدولة الثلاث، ويبلغ ذروته في السلطة القضائية التي ما يفتأ جلاوزة الحكم بمد أيديهم إليها بغرض إخضاعها والسيطرة على مفاصلها والتأثير في منتسبيها.
ومع ذلك ولأن هذه التجربة لها أصل في ديننا وتاريخنا الإسلامي، ولأنها جاءت من واقع الحاجة والضرورة، لتؤدي دوراً مهما في تمثيل المجتمع ككل وحماية حقوقه وحرياته..، وبغض النظر عن نسبة نجاحها في تحقيق ذلك الدور الهام نظراً لتدخل أنظمة الجور والفساد في أعمالها ووضع العراقيل والصعوبات أمامها؛ إلا أنها استمرت في العمل والإنجاز ولو بذات القدر السابق أو أقل منه بقليل بسبب العدوان، في الوقت الذي انهارت وسقطت فيه تلك الأنظمة القمعية والدول الظالمة التي كان القائمون عليها يحرصون على إيجاد المؤسسات العامة والهيئات الحكومية ومن ثم إخضاعها لخدمة وحماية مصالحهم الضيقة في المقام الأول ومن ثم يمكن الحديث أمام وسائل الإعلام عن مصلحة الوطن والمواطن، وينطبق ذلك أيضاً على النيابة والقضاء.
وإذا كانت تلك الأنظمة الفاسدة قد سقطت إلا أن تأثيراتها العميقة لازالت قائمة على بعض الهياكل والشخصيات والسلوكيات التي كان لها ارتباط وثيق بالعمل في خدمة مصالح غير مشروعة طوال تاريخها الوظيفي التي نشأت فيه وترعرعت عليه، ولذا لازلنا حتى اليوم نجد من يعمل على عرقلة مؤسسات الدولة، ومنع وصول الخدمات العامة، واستغلال المنصب العام للحصول على مكاسب شخصية، وهؤلاء بالطبع يدركون طبيعة عمل النيابة العامة وخطورة استقلالها، ويدركون أنها تتصادم مع مصالحهم الضيقة باعتبارها حامية الحقوق والحريات العامة والخاصة، وهؤلاء اليوم هم من يشكلون مراكز الفساد في اليمن سواء كانوا أفراداً أو لوبيات (منظمة) تتواجد داخل وخارج مفاصل الدولة، وتمتلك شبكة علاقات شخصية واجتماعية واسعة ومؤثرة، تحرص على إبقاء عناصرها بالقرب من مسئولي الدولة في مختلف المستويات!
ولعمري أن ذلك هو دأب بني البشر في إطار الصراع الدائم والمستمر بين الحق والباطل، غير أنه لا يجوز السكوت عن الانحرافات والأخطاء أو الوقوف موقف المتفرج في هكذا معارك، بل يتوجب على الشرفاء جميعاً الحرص على أداء المهام والمسئوليات على أكمل وجه كل في مجاله، وعدم الرضوخ والاستسلام للفساد والمفسدين، والعمل على توضيح الأمور وكشف الغموض وإزالة اللبس الذي قد يحصل لدى المسئولين عن إدارة المؤسسات والمشاريع والأعمال، وبروح الإخلاص لله ونصرة الحق وحب الخير لهذا البلد وهذا الشعب، لأن غير ذلك يمحق العمل ويمحو الأجر ويردي صاحبه المهالك قبل غيره.
إثراء التجربة:
وهنا يأتي دور القضاة والأكاديميين والمحامين والمهتمين بشؤون القضاء بشكل عام، للجلوس مع بعضهم في نوادٍ أو مقائل أو مجالس أو منتديات مفتوحة، والتحدث إلى بعضهم حديث الباحث المتفهم وليس الفاهم الذي يقطع بكل أمر ويتعنت ويجادل كل أحد بأي شيء!
فتجربة النيابة العامة لازالت حديثة وتاريخنا وديننا غنيان في هذا الجانب، ووعينا بالواقع واطلاعنا على معاناة الناس يدفعنا للاهتمام بإثراء الأمور بطريقة سليمة وبناءة، تساعدنا في النهوض بأداء مؤسسات الدولة وما تقدمه من خدمات، أما التصلب وراء الأوهام والعقد الشخصية أو الانصياع للتوجهات والتكتلات السياسية فسيؤدي لضياع الماضي والحاضر والمستقبل ولا أعتقد أن عاقلاً يرضى لأبنائه والأجيال القادمة أن تلعنه في الدنيا وتخاصمه يوم القيامة بين يدي الله، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
السجون حديث بلا شجون!
السجون المركزية في اليمن دوما مكتظة بالسجناء منذ فترة طويلة، ويعود ذلك لأسباب كثيرة تراكمت منذ عقود وليست وليدة اللحظة.. ومن تلك الأسباب على سبيل المثال: إبقاء السجناء على ذمة الحقوق الخاصة، قبول سجناء على ذمة قضايا تجارية ومدنية وأمنية تحفظية، تأخر الفصل في قضايا السجناء رغم أن القانون خصص لها إجراءات مستعجلة، عدم تنفيذ أحكام القصاص، ..الخ.
كل تلك الأسباب وغيرها تؤدي لتراكم آلاف السجناء لسنوات طويلة تكلف الدولة مليارات الريالات كنفقات تغذية وصحة وحماية وغيرها فيما كان بالإمكان الاستفادة من تلك المبالغ في مشاريع تنموية تعود على البلد بالنفع والفائدة..
ولأن الحديث عن السجون ليس حديثا ذي شجون لن أطيل فيه بل سأقتصر على عدد من النقاط التي أرى أنها قد تفيد القائمين عليها والمهتمين بشئون العدالة وسير إجراءاتها خصوصاً وأن لها علاقة بمن يقبعون خلف القضبان وهم السجناء (رهن التحقيق، رهن المحاكمة، رهن التنفيذ):
عدم التفريق بين السجون المركزية من جانب، وبين الحبوسات الاحتياطية من جانب آخر، حيث أن القانون حدد السجن المركزي للمجرمين المحكومين بأحكام نهائية وباتة، فيما يودع المتهمون أثناء مراحل التحقيق والمحاكمة بمختلف درجاتها في الحبوسات الاحتياطية، وفي حال صارت الأحكام نهائية يتم نقل المحكوم عليه إلى السجن المركزي لاستكمال فترة عقوبته فيه.. غير أن الحاصل اليوم مختلف تماماً فالسجون المركزية تغص بأعداد كبيرة من المتهمين الذين لازالوا رهن إجراءات التحقيق والمحاكمة، فيما النسبة الأقل للمحكومين رهن التنفيذ (أحكام نهائية وباتة).
وهذا الأمر يفقد السجن المركزي دوره الطبيعي والقانوني كمنشأة عقابية تتولى تنفيذ العقوبة السالبة للحرية وتسعى في نفس الوقت لتقويم سلوك المجرمين وإعادة تأهيلهم من جديد كمواطنين صالحين.
عدم الاهتمام بتصنيف السجناء والفصل بينهم حسب خطورتهم وسوابقهم ونوع جرائمهم، الأمر الذي يؤدي لمضاعفات خطيرة جداً، ففضلاً عن إهدار جهود التأهيل والتثقيف؛ يؤدي اختلاط السجناء الخطرين وذوي السوابق بالسجناء غير الخطرين والعاديين لاستقطابهم وتشكيلهم في عصابات منظمة، وتبادل السجناء للتجارب والخبرات والأساليب الإجرامية فيما بينهم، وحدوث صراعات نفوذ بين السجناء على أسس مناطقية، وإشكالات أخرى يصعب على إدارة السجن حلها دفعة واحدة، ومن ذلك على سبيل المثال: الاعتصامات وحوادث الشغب وتسهيل دخول الممنوعات كالحشيش والأسلحة البيضاء والعصي والهواتف الخلوية بمختلف أنواعها (والتي يتم استخدامها للتواصل بغرمائهم أو بالغير لتوجيه السباب والشتائم والتهديد، والتأثير على الشهود، وصولاً لإدارة عمليات إجرامية خطيرة ينفذها أشخاص خارج السجن -يكونون في الغالب ممن تم استقطابهم أثناء تواجدهم في السجن على ذمة قضايا غير جسيمة وعند الإفراج عنهم يتم التواصل بهم من قبل السجناء لتنفيذ وارتكاب جرائم أكثر خطورة).
ازدحام السجون المركزية والاحتياطية بالسجناء، لأسباب كثيرة ومتعددة يمكن أن نناقشها في مقالة مستقلة لأهميتها وتعدد مصادرها وتسهيل الرجوع إليها منفردة مع حلولها.. لكن يمكن إيراد خلاصة بأهم الأسباب فقط، وهي:
1- عدم الإفراج عن السجناء بعد قضاء فترة عقوبتهم بحجة عدم تسديد الحقوق الخاصة، وإيداع أشخاص على ذمة قضايا مدنية تجارية بالمخالفة للقانون ولقيم العدالة التي تمنع وضع المواطن العادي في نفس السجن المخصص للمجرمين الصادرة بحقهم أحكام جنائية، أيضاً تأخر عقد جلسات التحقيق والمحاكمة لأسباب مختلفة منها ما يعود لنقص إمكانات السجن من سيارات نقل ونقص الوقود وعدم توفير أعداد كافية من أفراد الحراسة ونقص البدلات الزرقاء المخصصة للسجناء ونقص في عدد القيود (كلابش)، ومنها ما يعود للبطء في إجراءات التحقيق والمحاكمة لكثرة عدد القضايا الواردة مقارنة بعدد القضاة وأعضاء النيابة أو لإهمال وتقصير من بعضهم في بعض الحالات، أو لثغرة تشريعية يستغلها المحامون والمتهمون لتطويل الإجراءات ومحاولة تضليل العدالة، وتوجد أسباب أخرى كثيرة تركتها لعدم أهميتها مقارنة بهذه.
3- عدم وجود كادر طبي متخصص في (المصحة النفسية والعقلية) الخاصة بالسجون المركزية، وهو ما يشكل عائقاً كبيراً أمام الرعاية الصحة المقدمة لهم من جانب وأمام سير إجراءات المحاكمة من جانب آخر.
وفي الختام يجدر بنا الإشادة بالخطوة المباركة التي نفذتها الهيئة العامة للزكاة قبل عدة أسابيع بتفعيل مصرف (الغارمين) لمصلحة السجناء المعسرين الذين قضوا فترة عقوباتهم وعجزوا عن دفع الحقوق الخاصة للمحكوم لهم، حيث قامت بدفع تلك الحقوق لأصحابها عبر النيابة العامة، وأفرجت عن عشرات السجناء من مختلف المحافظات، وهذه خطوة متقدمة لم يسبق إليها في تاريخ اليمن الحديث، ونحث على مواصلتها حتى استكمال الإفراج عن كل السجناء المعسرين، وبما يضمن تصحيح الأوضاع مستقبلاً ليقوم كل بدوره وعدم القبول بإبقاء أي سجين داخل السجن بعد مضي فترة عقوبته ما لم يكن ميسوراً ويماطل في إرجاع الحق لأصحابه.. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.