كرم الله الإنسان بالعقل الكاشف له عن الحق، المبَين من المولى سبحانه بإرسال رسله وإنزال كتبه، وبذلك تمت حجة الله على العاقل، بتكليفه بفعل الخير وترك الشر، غير أن النفس تميل بطبعها إلى الشهوات، وقد لا ترضى بالحق في إشباع رغباتها، بل تتعداه إلى الباطل مما أوجد الخلافات وأذكى الصراعات بين الأفراد وفي الجماعات، لذلك أصبح من الضروري وجود سلطة تحمي الحقوق وتكفل الحريات وفق تعاليم الشرع فكان القضاء هو الجهة المكلفة بالفصل في المنازعات أي كان طرفاها - من سلطات الدولة أو من غيرها- وضماناً لقيام القضاء بدوره كان مهماً استقلاله عن غيره.
المقصود باستقلال القضاء:
لما كانت ساحة القضاء عبارة عن معركة يحاول كل خصم فيها إثبات أحقيته أو دفع التهمة عنه بما يستطيعه، وكان القصد من محاولته التأثير على سير العدالة التي يمثلها القاضي باعتباره المختص بفض المنازعات، كان لا بد من أن يحاط القاضي بضمانات، تمنع الآخرين سواء كانوا سلطةً أو أفراداً من التدخل في شؤون قضائه. ولأهمية هذا المبدأ أصبح من الأمور المعلومة، النص في دساتير الدول على مبدأ الاستقلال القضائي ومنها الدستور اليمني الذي نص في المادة (147) على أن (القضاء سلطة مستقلة قضائياً ومالياً وإدارياً ... والقضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون ولا يجوز لأية جهة وبأية صورة التدخل في القضاء أو في أي شان من شؤون العدالة ويعتبر مثل هذا التدخل جريمة يعاقب عليها القانون ولا تسقط الدعوى فيها بالتقادم) من خلال ذلك يتبين أن المقصود باستقلال القضاء هو أن تقوم المحاكم بعملها باستقلالية تامة بعيداً عن تأثير الهيئات الحكومية الأخرى والقوى الاجتماعية والأفراد وذلك لايتم الابالاتي.
مظاهر استقلال القضاء:
من خلال التامل للنص الدستوري السابق يتبين ان جوانب استقلال القضاء ثلاثة:
والسؤال المهم الذي يفرض نفسه عن مدى تحقق تلك الجوانب في الواقع العملي.
حقيقة الالتزام بمبدأ الاستقلال:
إستقلال القضاء مبدأ دستوري، والتدخل في شؤون العدالة -بحسب الدستور- جريمة يعاقب عليها القانون ولا تسقط بالتقادم.
ومن المعلوم ان إعمال المبدأ في الواقع يسبقه بالضرورة نصوص قانونية تقرره وتبين أحكامه، وقد أحال الدستور الأمر في ذلك إلى القانون.
فهل تضمن القانون ما يكفل تحقيق ذلك؟
للإجابة لابد من التذكير بأنه وفي الأعوام الأخيرة ارتفعت الأصوات المطالبة بالإصلاح القضائي، وقام المهتمون بإعداد مشروع خطة لذلك الإصلاح ، وتم من مجلس الوزراء إقرار المعالم الرئيسة لخطة الإصلاح في عام 1997م وبهدف نقل تلك المعالم إلى واقع عقدت المؤتمرات القضائية الفرعية في المحافظات تلاها عقد المؤتمر القضائي العام بالعاصمة.
لم يتحسن الوضع كثيراً حيث استمر التدخل في شؤون القضاء، الأمر الذي دفع بعض القضاة لرفع دعوى أمام المحكمة العليا بعدم دستورية (36) مادة من قانون السلطة القضائية،وقد اصدرت الدئرة الدستورية حكمها بعدم دستورية (34)مادة من ذلك القانون.
تم بعد ذلك تعديل نصوص قانون السلطة القضائية من قبل السلطة التشريعية، حيث تم سحب معظم الصلاحيات الممنوحة لوزير العدل ومنحها لرئيس مجلس القضاء الأعلى غير أن القانون أبقى على بعض المواد التي تحد من استقلال القضاء ومنها المادة (89) التي تمنح وزير العدل حق الإشراف الإداري والمالي على جميع المحاكم والقضاة، والمادة (67) التي جعلت للسلطة التنفيذية الحق في تعديل جدول المرتبات والبدلات الخاصة بالسلطة القضائية.
الأمر الذي أثر على مدى الالتزام باستقلال القضاء عملياً
ويبقى السؤال عن دور القضاء في تحقيق استقلاله.
دور القضاء في تفعيل المبدأ:
من الناحية العملية:
التفتيش القضائي ودوره في تعزيز مبدأ استقلال القضاء:
مبدأ استقلال القضاء -كما سبق- يعني عدم التدخل في شؤون القضاء لغير الجهات القضائية المحددة والمبين اختصاصها بالقانون ومنها التفتيش القضائي.
وبالتأمل لطبيعة عمل هذه الجهة يتبين الدور الهام التي تقوم به في سبيل تفعيل وتعزيز جوانب الاستقلال المختلفة -قضائياً وإدارياً ومالياً- وعلى النحو الآتي:
أولاً: في جانب الاستقلال القضائي:
يتمتع القاضي باستقلال تام في قضائه وذلك حين قيامه بالفصل في الخصومات المعروضة عليه، لا رقيب عليه في ذلك إلا لسلطان القانون الشرعي، وبذلك يتضح أن الاستقلال القضائي لا يعني تحصين أعمال القضاة بشكل مطلق بل أنها تخضع لرقابة داخلية صادرة عن الجهاز القضائي ذاته، ولا يعني هذا الإخلال بمبدأ الاستقلال بل يعد حماية له وضمانة هامة لعدم تدخل الآخرين في شؤونه. غير أن هذه الرقابة يجب أن تُحدد مواضعها وكذا الجهات القائمة بها، لذلك تم إنشاء هيئة التفتيش القضائي باعتبارها إحدى وسائل الرقابة على أعمال القضاة يُختار أعضائها من بين القضاة العاملين وقد حددت اختصاصها المادة (94) من قانون السلطة القضائية، ومن خلال التأمل لهذه الاختصاصات يتبين أن الهدف منها مراقبة القضاة في مدى التزامهم بتطبيق النصوص القانونية وحسن توليهم لأعمالهم وتقدير كفأتهم. وبذلك يتبين دور التفتيش في تعزيز مبدأ الاستقلال القضائي.
ثانياً: في جانب الاستقلال المالي:
الاستقلال المالي أحد المعالم الرئيسة لاستقلال القضاء كما يفهم من المادة الدستورية السابقة بل أن الدستور قد حسم في المادة 125 الجانب الأهم في موضوع الاستقلال المالي للقضاء وذلك حين نص على أن (يتولي مجلس القضاء دراسة وإقرار موازنة القضاء تمهيداً لإدراجها رقماً واحداً في الموازنة العامة للدولة)، وللتفتيش القضائي دور في ذلك حيت لا يتم للمجلس دراسة موازنة السلطة القضائية بغير معطيات ميدانية وذلك ما يوفره التفتيش القضائي بحكم عمله، كما يشمل الاختصاص القيام بالدراسة الدورية لنظام المرتبات والحوافز المالية للقضاة وتقديم المقترحات بشأنها، ولا يخفى ما في ذلك من تقرير لمبدأ الاستقلال المالي للسلطة القضائية.
ثالثاً: في جانب الاستقلال الإداري:
الاستقلال الإداري للسلطة القضائية يتمثل في مجموعة من الاختصاصات التي يباشرها مجلس القضاء الأعلى بموجب المادة (109) من قانون السلطة ومنها وضع السياسة العامة لتطوير شؤون القضاء وإبداء الرأي في مشروع السلطة القضائية.
وبحكم عملها وبموجب اللائحة القائمة تقوم هيئة التفتيش القضائي بجمع البيانات الوظيفية اللازمة لمشروع الحركة القضائية وتنفيذ القرارات المتعلقة بالتعيين والندب والترقية ومحاسبة القضاة كما تقوم الهيئة بتلقي تظلمات القضاة المتعلقة بشأن التعيين والنقل والندب وتأخير الترقيات واستحقاق العلاوات وعرض ذلك على مجلس القضاء، كما يكون للهيئة الحق في المشاركة في لجان قبول المتقدمين للدراسة في المعهد العالي للقضاء، وذلك من خلال فحص ملفاتهم وإجراءات قبولهم، ومن ضمن اختصاص الهيئة متابعة التزام القضاة بالتواجد في مقار أعمالهم.
ومما لاشك فيه أن تخويل التفتيش القضائي مسؤولية رقابة الجوانب المسلكية وتقدير كفاءة القضاة قد عزز مبدأ الاستقلال لدى القضاة خاصة مع النص على تشكيل الهيئة من بين القضاة العاملين في المحاكم. حيث لا يخفى الشعور المتولد لدى القضاة نتيجة لذلك مما يعزز الاستقلال وعدم الخضوع لغير الرقابة القضائية إذ هي الأقدر على فهم واقعهم وتقدير ما يبذلونه من جهد في الواقع، الأمر الذي يعني إدماج المحاكم في تفعيل مبدأ الاستقلال.
الخاتمة بالرأي:
من خلال ما سبق يتبين الدور الهام للقضاء في حياة الفرد والجماعة باعتباره الجهة المسئولة بشؤون العدالة. مما يظهر أهمية استقلال القضاء في القيام بأعماله في حفظ الحقوق وحماية الحريات. لذلك فإن على مجلس القضاء السعي الجاد لتحقيق مبدأ الاستقلال نظرياً وعملياً، وذلك بالقيام بدوره خاصة بشأن:
هذا ويبقى النجاح مرهون باالله ثم بتوفر النية لدى قيادة الدولة بمنح القضاء استقلاله بما يمكنه من أداء رسالته إقتداء بقول الامام علي كرم الله وجه فيما يجب للقاضي (وأفسح له في البذل ما يزيح علته وتقل معه حاجته إلى الناس، وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك)، وذلك بعد قوله عليه السلام : (إختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك..الخ).
ويبقى ضمير القاضي هو الأساس في تحقيق الاستقلال القضائي والمانع للمطامع غير المشروعة من التأثير على قضائه ،إستشعاراً منه لقوله تعالى {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ۚ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [سورة النساء 105] {إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [سورة ق 37] صدق الله العظيم
هذاوبالله التوفيق،،،
أهم المراجع: