الشخصية القرآنية
الحديث عن شخصية الإمام زيد (ع) وفضله لا يتجه إلى سرد الأحاديث النبوية الشريفة فيه – وهي في حد ذاتها فضل عظيم - ولا إلى التربية التي نشأ عليها في بيت والده زين العابدين (ع) – وهو فضل لا يستطيع أن ينكره أحد - ولا إلى انتسابه إلى أهل البيت (ع) - وهو شرف كبير – وإنما يتجه إلى ارتباطه العملي الوثيق بالقرآن الكريم، وإلى النتيجة العظيمة لهذا الارتباط في واقعه وفي واقع الأمة.
فالارتباط العملي بالقرآن الكريم فضل ليس فوقه فضل، ومن هذا المنطلق كان فضل أهل البيت (ع) هو ارتباطهم بالقرآن الكريم، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً : كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض).
وشخصية الإمام زيد (ع) كانت في عصره أكثر شخصية من بين أهل البيت(ع) عموماً معنية بحديث الثقلين، فقد كانت شخصيته بحق شخصية قرآنية حتى لُقِّبَ بحليف القرآن، وهذه شهادة لها مدلولاتها العظيمة.
فمنذ ولادته (ع) كان له ارتباط بالقرآن الكريم والسنة النبوية حيث وردت الأحاديث الشريفة عنه وعن ثورته واستشهاده، والتي منها أنه صلى الله عليه وآله وسلم نظر يوماً إلى زيد بن حارثة وبكى وقال: (المقتول في الله، المصلوب من أمتي، المظلوم من أهل بيتي سمي هذا), وأشار إلى زيد بن حارثة .. ثم قال: (أدن مني يا زيد زادك الله حباً عندي، فإنك سمي الحبيب من ولدي) وكانت هذه الأخبار النبوية متداولة بين أهل البيت (ع) وحين وُلٍد الإمام زيد (ع) أخذ أبوه زين العابدين (ع) المصحف الشريف, واستفتحه ونظر إلى أول آية فكانت: (وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيما), فأطبقه ثم فتحه فخرج له: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون), فأطبق المصحف, وفتحه مرة ثالثة فكانت: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم), فأطبق المصحف, وضرب بإحدى يديه على الأخرى وقال: (إنا لله وإنا إليه راجعون, عزيت في ولدي هذا, إنه زيد أما والله ما أجد من ولد الحسين في يوم القيامة أعظم منه وسيلة, ولا أصحاباً آثر عند الله من أصحابه).
حليف القرآن
ترعرع الإمام زيد (ع) على القرآن الكريم منذ نعومة أظفاره، وتلقى تربية قرآنية على يد أبيه زين العابدين وأخيه الباقر عليهما السلام، ومن نتائج هذه التربية الحسنة أن عكف (ع) على قراءة القرآن واختلى به يتدبره حتى تشربت به روحه كما تحدث عن نفسه بقوله: (خلوت بالقرآن ثلاثة عشر سنة أقرأه وأتدبره فما وجدت في طلب الرزق رخصة وما وجدت من فضل الله إلا العبادة والفقه).
وكان إذا قرأ القرآن يبكي من خشية الله تعالى حتى يظن من عنده أنه سيموت وكان إذا ذكر الله أو سمع شيئاً من ذكر الله أغمي عليه حتى يقول القائل ما هو بعائد إلى الدنيا وكان إذا سمع آيات الترغيب والترهيب ماد كما تميد الشجرة في اليوم العاصف ولهذا عُرف بين الناس بحليف القرآن، فكان ممن قال الله تعالى فيهم:﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ وقال: ﴿إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا﴾ وقال: ﴿تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾
شهادات بفضل الإمام زيد (ع) وعلاقته بالقرآن
توالت شهادات أكابر العلماء من أهل البيت (ع) ومن غيرهم ممن عاصره بأنه (ع) كان وحيد عصره في علاقته بالقرآن، وكان الأفضل بلا استثناء من أهل البيت على وجه الخصوص ومن علماء وفضلاء الأمة على وجه العموم، فهذا الإمام جعفر الصادق وهو ابن أخيه يشهد بذلك بقوله: (كان والله أقرأنا لكتاب الله وأفقهنا في دين الله وأوصلنا للرحم والله ما ترك فينا لدنيا ولا آخرة مثله). ويقول أيضاً لمن سأله عن البيعة لعمه الإمام زيد (ع): (نعم بايعوه، فهو والله أفضلنا وسيدنا وخيرنا)، وكان الإمام جعفر (ع) يوقر ه ويحترمه كثيراً ويُعَظِّمه فيمسك له الركاب ويسوي له الثياب على السرج.
وشهد بذلك أيضاً سلمة بن كهيل بقوله: (ما رأيت أنطق لكتاب الله من الإمام أبي الحسين) وشهد كذلك سفيان الثوري بقوله: (قام مقام الحسين، وكان أعلم خلق الله بكتاب الله) وشهد الأعمش بفضله على سائر أهل البيت بقوله: (ما كان في أهل زيد بن علي مثل زيد بن علي، ولا رأيت فيهم أفضل منه ولا أفصح ولا أعلم ولا أشجع) ويشهد بذلك ايضاً خالد بن صفوان وهو من مشاهير العرب وفصحائهم وخطبائهم بقوله: (انتهت الفصاحة والخطابة والزهادة والعبادة من بني هاشم إلى زيد بن علي) وقد شهد كذلك أبو حنيفة النعمان بفضله على سائر الأمة في عصره بقوله: (شاهدت زيد بن علي كما شاهدت أهله، فما رأيت في زمنه أفقه منه ولا أعلم ولا أسرع جواباً ولا أبين قولاً، لقد كان منقطع القرين).
الإمام زيد (ع) ومرجعية القرآن
لم تكن علاقة الإمام زيد (ع) بالقرآن نظرية بل كانت علاقة عملية شاملة، فكان القرآن الكريم هو مرجعيته ومحور حركته وجوهر أفكاره، وكان دائماً يستقي منه الهدى ويتحرك في أوساط الأمة متسلحاً به، ينشر الوعي والفكر القرآني الصافي والنقي والثقافة الإسلامية الأصيلة، ويدحض كل الثقافات المغلوطة والأفكار المنحرفة من خلاله مستشهداً بآياته.
فقد دحض كل مزاعم الأمويين الذين تملَّكوا الحكم في الأمة الإسلامية بالحديد والنار والمكر والتدليس والترغيب والترهيب، وارتكبوا جرائم فضيعة ومجازر وحشية بحق أهل البيت (ع) وبحق الأمة بشكل عام، ففنّد كل الأفكار التي اختلقوها من أجل توطيد حكمهم اللاشرعي وتعميده بصبغة دينية، وحاولوا عبرها طلاءه بشرعية إسلامية، فجمعوا حولهم كثيراً من علماء السوء وأجزلوا لهم العطايا واختلقوا كثيراً من الأفكار التي نسبوها إلى الإسلام، والتي بمجملها تدعوا إلى الرضا بهم وبظلمهم وإجرامهم وإلى طاعتهم وحرمة الثورة عليهم، والتي عمدوا إلى تعميمها رسمياً وفرضوها كمنهج حكومي.
ففنّد عقيدة الجبر وقام بحملة توعوية فأفحم علماء السوء الذين كانوا يٌروِّجون لها، وحرّر كثيراً من الناس من رقِّ هذه العقيدة، والتي كان النظام الأموي الغاشم قد أشاعها بين الناس حتى يتقبلوا ظلمهم واستبدادهم وفسادهم.
كما فنّد عقيدة الإرجاء عقيدة أن الإيمان قول بلا عمل والتي هدفوا من خلالها إلى تبرير فسقهم ومجونهم وانحلالهم الأخلاقي، واستشهد بالقرآن الذي تعج آياته باقتران الإيمان بالعمل.
كما فنّد عقيدة طاعة ولي الأمر الظالم وإن أخذ مالك وقصم ظهرك، والتي هدفت إلى إعطاء هم حصانة من المساءلة الشعبية والثورية ودعا إلى التغيير والإصلاح والثورة انطلاقاً من مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يفوح به القرآن الكريم، يقول: (ع): (واعلموا أن فريضة اللّه تعالى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذا أقيمت له استقامت الفرائض بأسرها، هَيِّنُها وشَدِيْدُها، وذلك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو: الدعاء إلى الإسلام، والإخراج من الظُّلْمَة، ورَدّ الظالم، وقِسْمَةِ الفَيء والغنائم على منازلها، وأخذ الصَّدقات ووضعها في مواضعها، وإقامة الحدود، وصِلَةِ الأرحام، والوفاء بالعهد، والإحسان، واجتناب المحَارم، كل هذا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) .
كما فنّد فكرة أن الكثرة هم أهل الحق وأن القلة هم أهل البدع والباطل والتي كانت تهدف إلى شرعنة وجودهم في السلطة، وذلك في مناظرة شهيرة بينه وبين علماء البلاط الأموي الذين انتخبوا أكثرهم علماً وأجلهم قدراً عندهم لعرض هذه الفكرة فرّد عليه الإمام زيد (ع) ردّاً مفحماً من القرآن الكريم فقال: أما بعد فإن أناساً من هذه الأمة يتكلمون في الجماعة ويزعمون أنهم أهل الكثرة، وأنهم حجة اللّه على أهل القلة من الناس، وأن القليلين من هذه الأمة هم أهل البدع والضلالة، وإنا سمعنا اللّه تبارك وتعالى وتقدست أسماؤه وعلا نوره وظهرت حجته، قال - فيما نزل من وحيه الناطق الصادق على محمد عبده ورسوله صلى اللّه عليه وآله وسلم، يخبر الأمم الماضية مثل: أمة نوح وهود وصالح وشعيب وإبراهيم وموسى وداود وسليمان وعيسى ومحمد عليهم السلام، وهم أولوا العزم من الرسل، وغير أهل الكُتُب - إن أهل الحق والجماعة وأتباع الرسل أهل القلة، وإن أهل البدع والضلالة هم الأكثرون، وإنا سمعنا اللّه جل اسمه يثني على أهل القلة ويمدحهم، ويذم أهل الكثرة ويُجَهِّلُهُم ويُسَفِّهُهُم ويكذبهم ويضللهم، وينهى عباده الصالحين عن اتباعهم والاقتداء بهم والأخذ بمقالهم. ثم ذكر الآيات التي في القرآن الكريم التي تثبت ذلك.
فأحجم عالم أهل الشام وسكت الشاميون فلم يجيبوا لا بقليل ولا بكثير، ثم قاموا من عنده، فلما خرجوا قالوا لكبيرهم: فعل اللّه بك وفعل، عزرتنا وزعمت أنك لا تدع له حجة إلا كسرتها فخرست فلم تنطق! قال: ويلكم كيف أكلم رجلاً إنما حآجّني بكتاب اللّه؟ فلم أستطع أن أُكَذِّب كتاب اللّه.
دعوته (ع) إلى الاحتكام إلى القرآن الكريم
وكان (ع) يدعوا إلى جعل القرآن الحكم في الاختلاف والتنازع، وكان يدعو العلماء على وجه الخصوص إلى القبول والرضا والتسليم به، وأبدى استعداده للنقاش حول القضايا التي هي محل خلاف والاحتكام إلى القرآن سواء كانت النتيجة له أو عليه يقول (ع) : (فالله اللّه عباد اللّه أجيبوا إلى كتاب اللّه، وسارعوا إليه، واتخذوه حَكَماً فيما شَجَر بينكم، وعدلا فيما فيه اختلفنا، وإماماً فيما فيه تنازعنا، فإنا به راضون، وإليه منتهون، ولما فيه مُسْلِمون لنا وعلينا).
وكان يحض ويحث على جعل القرآن مرجعية شاملة للأمة كلها، ويؤكد على اتباعه فيما يحب الناس ويكرهون، وعلى اتهام كل رأي وعقيدة تتعارض مع القرآن، ويوضح الطريقة الصحيحة للتعامل الإيجابي معه فيقول: (أوصيكم أن تتخذوا كتاب اللّه قائداً وإماماً، وأن تكونوا له تبعاً فيما أحببتم وكرهتم، وأن تَتَّهِموا أنفسكم ورأيكم فيما لا يوافق القرآن، فإن القرآن شفاءٌ لمن استشفى به، ونورٌ لمن اهتدى به، ونجاة لمن تبعه، من عمل به رَشَدَ، ومن حكم به عدل، ومن خاصم به فَلَج، ومن خالفه كَفَر، فيه نبأُ مَنْ قبلكم، وخبرُ معادكم، وإليه منتهى أمركم، وإياكم ومشتبهات الأمور وبدعها، فإن كل بدعة ضلالة).
وفيما يتعلق باختلاف الناس في السنة النبوية أوضح كيفية كشف الأحاديث المكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك بقاعدة العرض على القرآن يقول (ع) : (ما ذهب نبي قط من بين أمته إلا وقد أثبت اللّه حججه عليهم، لئلا تبطل حجج اللّه وبَيِّناته، فما كان من بدعة وضلالة فإنما هو من الحَدَث الذي كان من بعده، وإنه يكذب على الأنبياء صلوات اللّه عليهم وسلامه، وقد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: »أعرضوا الحديث إذا سمعتموه على القرآن فما كان من القرآن فهو عني وأنا قلته، ومالم يكن على القرآن فليس عني ولم أقله، وأنا بريء منه«.
الإمام زيد (ع) ومكمن الداء والدواء في إصلاح الأمة
لقد درس الإمام زيد (ع) أوضاع الأمة وشخص الفئة التي لها تأثير كبير في أوساطها فكرياً وثقافياً وحتى سياسياً، وكانت هذه الفئة هي العلماء، يقول (ع): (إنما تصلح الأمورُ على أيدى العلماء، وتفسد بهم إذا باعوا أمر اللّه تعالى ونهيه بمعاونة الظالمين الجائرين، فكذلك الجهال والسفهاء إذا كانت الأمور في أيديهم، لم يستطيعوا إلا بالجهل والسَّفَه إقامتها، فحينئذ تَصْرُخُ المواريث، وتضج الأحكام، ويفتضح المسلمون.) وقد ركز (ع) على العلماء لما لهم من أثر كبير في الناس سلباً وإيجاباً، وحيث أن الطغاة يستعملون علماء السوء كأداة فعّالة للتلبيس على الناس وتزييف الحقائق وقلب المفاهيم، ولما لسكوت العلماء من رضى ضمني يفهمه العامة من الناس، فقد أولى (ع) اهتماماً كبيراً بالعلماء وحملّهم المسؤولية وخصّهم برسالة عظيمة وجليلة وضّح فيها دورهم الإيجابي حينما يتحركون في خط الإسلام، ودورهم السلبي حينما يدورون في فلك الظالمين، وأكّد فيها على ضرورة أن يمتلكوا الوعي السياسي والحس الثوري والروح الجهادية.
ولذلك لا عجب أن يكون أبرز العلماء العاملين والفقهاء الفضلاء أبرز مؤيدي الإمام زيد (ع) في ثورته، كالإمام جعفر الذي قال: (هو والله أفضلنا وسيدنا وخيرنا) وكالإمام أبي حنيفة النعمان الذي : (لقد ضاهى خروجه خروج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر) والذي قال حين أتته رُسل الإمام زيد (ع): (هو والله صاحب الحق، وهو أعلم من نعرف في هذا الزمان، فاقرئاه مني السلام، وأخبراه أن مرضاً يمنعني من الخروج معه، وأرسل بثلاثين ألف درهم لإعانته على الثورة، وقال: لئن شُفيت لأخرجن معه)
مكانة العلماء مرتبطة بهداية الناس إلى النجاة
يقول الإمام زيد (ع) في رسالته إلى العلماء وهو يوضح مكانتهم وارتباطها بدورهم: (وأنتم أيها العلماء عصابةٌ مشهورة، وبالورع مذكورة، وإلى عبادة اللّه منسوبة، وبدراسة القرآن معروفةٌ، ولكم في أعين الناس مهابةٌ، وفي المدائن والأسواق مكرمةٌ، يهابكم الشَّريف، ويكرمكم الضَّعيف، ويرهبكم من لا فضل لكم عليه، يُبدَأ بكم عند الدُعْوَةِ والتُحْفَة، ويشار إليكم في المَجَالس، وتشفعون في الحاجات إذا امتَنَعَت على الطَّالبين، وآثارُكم مُتَّبَعَةٌ، وطُرُقُكُم تُسْلَك، كل ذلك لما يرجوه عندكم مَنْ هُوَ دونكم مِنْ النَّجاة في عرفان حق اللّه تعالى).
العلماء المتخاذلون شركاء المجرمين في جرائمهم
سكوت العلماء وتخاذلهم عن نصرة الحق بأي مبرر كان وتحت أي ذريعة كانت هو بمثابة الشراكة مع المجرمين والجائرين والمعاونة لهم في كل جرائمهم من سفك للدماء وظلم العباد ، لأن المجرمين يستغلون هذا السكوت والتخاذل كحجة على عدم قبولهم للحق، حيث يبررون ذلك بموقف العلماء الصامتين، كما أن صمت العلماء وتخاذلهم يجعل كثيراً من الناس يتخذون نفس الموقف ويقولون إذا تحرك العالم الفلاني فسنتحرك فهو أعلم منا، وقد يظن العالم أنه ليس مع المجرمين ولكن نتيجة موقفه السلبي تجعله معهم، وهذا ما أكده الإمام زيد (ع) في رسالته إلى العلماء بقوله: (عباد اللّه إن الظالمين قد استحلوا دماءنا، وأخافونا في ديارنا، وقد اتخذوا خُذْلانَكم حجة علينا فيما كرهوه من دعوتنا، وفيما سفهوه من حقنا، وفيما أنكروه من فضلنا عناداً لله، فأنتم شركاؤهم في دمائنا، وأعوانهم في ظلمنا، فكلُّ مالٍ للَّه أنفقوه، وكل جمعٍ جمعوه، وكل سيف شَحَذُوه وكل عدل تركوه، وكل جور رَكِبوه، وكل ذمة للَّه تعالى أخفروها، وكل مسلم أذلوه، وكل كتاب نَبَذوه، وكل حكم للَّه تعالى عطلوه، وكل عهد للَّه نقضوه فأنتم المعينون لهم على ذ لك بالسكوت عن نهيهم عن السوء.
عباد اللّه إن الأحبار والرُّهبان من كل أمة مسؤولون عما استحفظوا عليه، فأعِدُّوا جواباً للَّه عز وجل على سؤاله)
وهنا فليعد كل عالم لا يتحرك ضد العدوان ولا يقوم بدوره ولا يتحمل مسؤوليته، جواباً لله عز وجل.
فما أتعسها من حالة حين يظن العالم أنه على خير وقريب من الله ويعرف الشريعة ويكثر من الصلاة وقراءة القرآن، ثم يأتي يوم القيامة متحملاً لدماء الشهداء والأطفال والنساء، ويسأله الله تعالى عنها كما يسأل المعتدين ثم يحشره مع المجرمين، كم هي خسارة وندامة وبؤس حسرة، وهذا ما أشار إليه الإمام زيد (ع) بقوله وكأنه يخاطب ويعاتب العلماء الصامتين المتسمين باسمه والحاملين فكره على وجه الخصوص : (لا مالاً تبذلونه لله تعالى، ولا نفوساً تُخاطرون بها في جَنْبِ اللّه تعالى، ولا داراً عطلتموها، ولا زوجة فارقتموها، ولا عشيرة عاديتموها. فلا تتمنوا ما عند اللّه تعالى وقد خالفتموه، فترون أنكم تَسْعَوْن في النُّور، وتَتَلَقَّاكم الملائكة بالبشارة من اللّه عز وجل؟ كيف تطمعون في السَّلامة يوم الطامَّة؟! وقد أخْدَجْتُم الأمانة، وفارقتم العِلْمَ، وأدْهَنتم في الدين، وقد رأيتم عهد اللّه منقوضاً، ودينه مبغوضاً، وأنتم لا تفزعون ومن اللّه لا ترهبون. فلو صبرتم على الأذى، وتحملتم المؤنة في جنب اللّه لكانت أمور اللّه صادرة عنكم، وواردة إليكم. عباد اللّه لا تُمَكِّنوا الظالمين من قِيَادكم بالطمع فيما بأيديهم من حُطامِ الدنيا الزَّائل، وتراثها الآفل، فتخسروا حظكم من اللّه عز وجل).
علماء السوء كرسي يجلس عليه المجرمون
دائماً ما يعتمد المجرمون على فتاوى علماء مقربين منهم، ودائماً ما يتحرك هؤلاء العلماء في أوساط الناس للتعبئة والحشد وكل ذلك مقابل حفنة من المال، وهذه الحالة السيئة تحدث عنها الإمام زيد (ع) في رسالة إلى العلماء والتي خصّ علماء السوء بقفرات منها ، موضحاً الدور الخطير الذي يقومون به، فخاطبهم قوله: (فوالذي نفس (زيد بن علي) بيده لو بينتم للناس ما تعلمون ودعوتموهم إلى الحق الذي تعرفون، لتَضَعْضَعَ بُنْيَان الجبَّارين، ولتهَدَّم أساس الظالمين، ولكنكم اشتريتم بآيات اللّه ثمناً قليلا، وأدْهَنتم في دينه، وفارقتم كتابه.
هذا ما أخذ اللّه عليكم من العهود والمواثيق، كي تتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، فأمْكَنتم الظلمة من الظلم، وزيَّنتم لهم الجَورَ، وشَدَدْتم لهم ملكهم بالمعاونة والمقارنة، فهذا حالكم.
فيا علماء السوء محوتم كتاب اللّه محواً، وضربتم وجه الدين ضرباً، فَنَدَّ والله نَدِيْدَ البَعِيْرِ الشارد، هرباً منكم، فبسوء صنيعكم سُفِكَت دماء القائمين بدعوة الحق من ذرية النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، ورُفِعَت رؤوسهم فوق الأسنة، وصُفِّدوا في الحديد، وخَلَصَ إليهم الذُّل، واستشعروا الكَرْب وتَسَرْبَلوا الأحزان، يتنفسون الصُّعَداء، ويتشاكون الجهد؛ فهذا ما قدمتم لأنفسكم، وهذا ما حملتموه على ظهوركم، فالله المستعان، وهو الحكم بيننا وبينكم، يقضي بالحق وهو خير الفاصلين).
وكم رأينا من العلماء قصفوا الشعب اليمني بفتاواهم قبل طائرات العدوان، فمن هذا التحالف بأمر الله مروراً بتكفير الشعب اليمني في يوم عرفة وصولاً إلى إبادة أربعة وعشرين مليون يمني من أجل مليون عميل وخائن ومرتزق يعيشون.