السيد العلامة أحمد بن محمد عثمان الوزير (أحمد ملك) رحمة الله تغشاه

نشر بتاريخ: سبت, 22/09/2018 - 6:51م

درة الملك في سيرة السيد العلامة أحمد ملك

 

 

نسبه الشريف (رضي الله تعالى عنه)

هو: السيد الفاضل الورع التقي، الزاهد العابد العلامة النحرير المحيط بأنواع الفنون، فارس معقولها والمنقول، ورائض منطوقها والمفهوم: أحمد بن محمد بن محمد بن علي بن يحيى بن حسن بن صلاح بن محُمد –بضم الحاء- بن عثمان بن علي بن محمد بن عبدالإله بن أحمد بن عبدالله بن أحمد بن صارم الدين إبراهيم بن محمد بن عبدالله بن الهادي بن إبراهيم بن علي بن المرتضى بن مفضل بن منصور بن محمد -العفيف (الذي عَفَّ عن الخلافة) وكان وزيراً للإمام عبدالله بن حمزة عليه السلام، ومن هنا كانت كنية آل الوزير– ابن المفضل بن الحجّاج بن علي بن يحيى بن القاسم بن يوسف الداعي بن يحيى المنصور بن أحمد الناصر بن يحيى الهادي إلى الحق بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهم السلام.

مولده ونشأته:

ولد (رضي الله عنه) في هجرة آل صارم الدين إحدى قرى ناحية بني حشيش في اليوم الخامس عشر من شهر جمادى الآخرى سنة 1340هـ أربعين وثلاثمائة وألف للهجرة النبوية.

وقد نشأ في أحضان أسرة فاضلة كريمة عرفت بالعلم والإيمان ومكارم الأخلاق، ودرج بين أحضان البيئة العربية، والتربية الهاشمية العلوية يتلقى المواهب الفطرية السليمة، فصفت سريرته وانطبعت نفسه بمبادئ الخلاصة المصطفاة، وطهرت طفولته الغضة، ورب صغير قومٍ كبير قوم آخرين، فقرأ القرآن العظيم على والده وكان عمره حينذاك سبع سنين .. وقد أخبرني –رضي الله عنه- أنه عندما كان يرسله أبوه مع إخوته للعمل في مزرعتهم أنهم كانوا يتسامعون –أثناء اشتغالهم بالعمل- ما قد حفظوه من المتون،

 وقد أخبرني سلام الله عليه أن سبب حفظه للقرآن العظيم غيباً أنه أراد أن يفتح له درساً في سماع القرآن لدى الصفي أحمد محبوب في جامع شمسان فلما أسمع الثمن الأول انبهر شيخه أحمد محبوب من حفظه للقرآن في تلك السن فقال له: لا تسمع عندي فحزن شيخنا لما سمع فقال لماذا؟ فقال: لا أسمع  لك إلا إذا تغيبت كل معشر (كل درس) فعند ذلك حفظ غيباً فما حفظه غيباً أسمعه على شيخه أحمد محبوب حتى حفظ القرآن العظيم كله.

وفاة والده –رضي الله عنهما-

ما أن بلغ سنه الخامسة عشرة إلا وتوفي والده –رحمه الله تعالى- وبذلك يفقد ركناً أساسياً من أركان أسرته الكريمة ومع فقده لأبيه الذي كان يغمره بحنانه وعطفه ورعايته إلا أن الله الرحمن الرحيم اللطيف بعباده مَنَّ عليه بأخيه الأكبر –علي بن محمد- الذي قام برعايته ورعاية بقية إخوته –عبدالله وحسين وعبدالقدوس- فقد قام –علي بن محمد لطف الله به- مقام الأب الحنون الشفيق كما أخبرني بذلك شيخي رحمة الله تغشاه عدة مرات بل كان يقول لي إن أخي علياً صار لنا أباً بعد أبينا ولم أنسَ فضله حتى أموت، ولذلك كان يدعو له حتى توفي رحمه الله تعالى.

هجرته لطلب العلم:

في سنة 1359هـ تسع وخمسين وثلاثمائة وألف للهجرة انتقل إلى صنعاء للدراسة في المدرسة العلمية التي أسسها الإمام يحيى بن محمد حميد الدين فواظب على الدراسة وشمّر عن ساعد الجد بهمة عالية ونشاط لا يعرف الفتور، وإخلاص لا نظير له، وقد أخبرني سلام الله عليه أنه في خلال هذه الفترة عندما كان يخرج من صنعاء يوم الخميس إلى قريته ثم يدخل يوم السبت بعد صلاة الفجر مباشرة –لأنه يريد أن يدرك الدروس وليس هناك سيارات بل كان يدخل ويخرج راجلاً على قدميه، ومع هذا ما كانت تشرق شمس يوم السبت إلا وهو في غظران ([1]) – وفي أثناء السفر كان يقرأ ربع المصحف إذ قد كان تغيب القرآن كما تقدم- وقد كانت المدرسة العلمية اثنتي عشرة شعبة –التي تسمى الآن صفوفاً- منها ثلاث شعب تمهيدي وتسع أساسية ولما كان رحمه الله تعالى قد حَصَّل من العلم في وطنه على يد والده وغيره ما شاء الله تعالى بدأ دراسته في المدرسة العلمية من الشعبة –الصف- الأول أساسي واستمر على ذلك النشاط وتلك الهمة العالية حتى تخرج من الشعبة الأخيرة التي تسمى شعبة الغاية ([2]) سنة 1367هـ سبع وستين وثلاثمائة وألف هجرية وفي هذه المدة لم يكتف بالدراسة في المدرسة العلمية بل أضاف إليها دروساً أخرى في الجامع الكبير وجامع الفليحي وغيرهما من مساجد صنعاء المحمية حتى صار يشار إليه بالبنان في شتى فنون العلم.

مشائخه وإجازاته:

مشائخه كثيرون ولكن أذكر منهم:

1- والده السيد محمد بن محمد عثمان الوزير

2- الصفي أحمد محبوب وهو الذي أسمع القرآن لديه غيباً

3- العلامة محمد بن يحيى معيض. 

4- المقرئ حسين بن مبارك الغيثي، شيخ القراء في عصره.

5- العلامة علي الحيمي

6- العلامة مُحمد مداعس

7- علامة اليمن السيد علي بن أحمد عقبات

8- العلامة حسين بن يحيى الواسعي صنو عبدالواسع الفلكي المشهور

9- العلامة حسين عامر

10- السيد العلامة عبدالعزيز بن علي بن إبراهيم

11- القاضي العلامة يحيى الأشول

12- السيد العلامة عبدالله بن عباس المؤيد

13- السيد العلامة عبدالقادر بن عبدالله بن عبدالقاد

14- السيد العلامة الشهير أحمد بن علي الكحلاني

15- العلامة قاسم بن إبراهيم بن أحمد

وممن أجازه رحمه الله تعالى السيد العلامة قاسم بن إبراهيم عن شيخه المجاهد والعمري، وفي آخرها ما لفظه:

الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله، وبعد فإنه طلب مني الولد الذي حاز الفواضل والفضائل وبرز في جملة الفنون فلا يناضله فيها مناضل العلامة صفي الدين أحمد صفي الدين أحمد بن محمد بن محمد بن عثمان الوزير أبقاه الله ركناً سامياً في الآفاق وقدوة للطالبين آمين، أن أجيزه في جميع مقروءاتي، وفيما قرأه عليَّ في المدرسة العلمية في شعبة الاجتهاد، وما قرأه عليّ منفرداً في (شرح الأزهار)، و(الكشاف) في علم تفسير القرآن أجبته إلى ما طلب لعلمي باستحقاقه لذلك وحررت له الإجازة في إجازاتي المحررة من شيخي شيخ الإسلام العلامة الحسين علي العمري رضي الله عنه، وإجازاتي المحررة من شيخي العلامة إسحاق بن عبدالله المجاهد المحررتين في الأوراق التي قبل هذا وهي إجازة المجاهد ست صفحات، والإجازة من شيخ الإسلام العمري في أربع وعشرين صفحة وقد أجزته أن يروي عني جميع ما شملتاه زاده الله علماً وفهماً وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين.

وممن أجاز المترجم له أيضاً السيد العلامة المفتي العام أحمد بن محمد زبارة، قال في أولها: بعد الحمد لله والصلاة على محمد وآله وبعد فإن الأخ السيد العلامة أحمد ملك بن محمد .... إلى أن قال: وقد طلب مني الإجازة العامة وهو أهل لها ولما فوقها فأقول: قد أجزته أن يروي عني ما صحت لي روايته عن مشائخي ومجيزيّ ... إلى أن قال في آخرها: وأرجو من المجاز له الأخ العلامة أحمد ملك بن محمد بن محمد بن عثمان الوزير حفظه الله وأدام النفع به وجزاه أفضل الجزاء الدعوات الصالحات في الحياة وبعد الممات، وأسأل الله لي وله وللمؤمنين والمؤمنات التوفيق وحسن الختام وسعادة الدارين وسبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم، 3رجب سنة 1406هـ ألف وأربعمائة وست للهجرة، المفتي العام أحمد بن محمد زبارة.

وممن أجازه من مشائخه أيضاً السيد العلامة عبدالقادر بن عبدالله، والقاضي العلامة عبدالله بن أحمد الرقيحي، والقاضي العلامة عبدالله بن عبدالكريم الجرافي، والقاضي العلامة سيبويه زمانه عبدالله بن أحمد السرحي، والقاضي العلامة محمد بن صالح البهلولي، والقاضي العلامة علي بن محمد فضة، والعلامة الجمالي علي بن هلال الدبب.

تلامذته:

وهب شيخنا سلام الله عليه نفسه للعلم والتعليم وأمضى عمره في الدرس والتدريس –جزاه الله تعالى عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء- ولذلك فتلامذته كثيرون وقد بلغ بعضهم درجة عظيمة من العلم ولمس الناس النفع منهم ومنهم من قد صار طلابه مشائخاً في العلم، ومنهم من قد صار طلاب طلابه مشائخاً.

مؤلفاته:

رغم التقلبات السياسية التي عاصرها المترجم له والأحداث الخطيرة التي عايشها والتنقلات من مكان إلى مكان والخوف الذي ساد البلاد اليمنية في بعض العقود الزمنية إلا أن له بعض المؤلفات فمنها:

1- إرشاد السائل

2- الرسائل الخمس المنتقاة الجامعة لأدلة الجمع في الصلاة

3- هدية المختار لحل مشكلة اضطربت فيها الأفكار والأنظار

إلى غير ذلك مما يصعب عليّ ذكره أثناء كتابة هذه الترجمة.

جوانب من شخصيته سلام الله عليه:

عندما يريد الإنسان أن يتحدث عن هامة علمية عظيمة وطود من أطواد العلم كبير مثل السيد العلامة أحمد ملك رحمة الله عليه فإنه يقف حائراً فلا يدري بِـمَ يبدأ ولا أين يقف وذلك لأن شخصية هذا العلامة العابد الزاهد جسدت النموذج الحي الدال على عظمة الإسلام وبينت المثال الحقيقي لوراثة الأنبياء، نحن أمام سيرة عالم تعلم وعلم واستفاد وأفاد، وغيّر ونوّر، وأصلح وأرشد.

لقد مثّل بسيرته سلوك الصالحين الأخيار من أئمة أهل البيت عليهم السلام، ولا أستطيع أن أوفيه حقه من عبارات إلا ما قال الله تعالى في كتابه العزيز عنه وعن أمثاله حيث يقول عزوجل: ﴿وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما، والذين يبيتون لربهم سجداً وقياما ...﴾ إلى آخر الآيات.

فكان من أشهر صفاته العبادة والصبر والزهد والخشية لله تعالى لا يفتر لسانه عن قراءة القرآن والذكر في البيت وفي المسجد وفي الطريق وقائماً وقاعداً وعلى جنب ومن عرفه أيقن أني في قولي هذا وفي كلما ذكرت عن هذا العالم الجليل.

كان رحمة الله عليه ذا خلق عظيم، وروح لطيفة، وذا أنس أنيس ينبسط بكرم خلقه إلى الضعيف والمسكين ، والصغير والكبير.

كان إذا قسى عليه في كلامه قابل القساوة باللين والمساء بالإحسان، فكان حقاً من الذين ينطبق عليهم قوله تعالى: ﴿والكاظمين للغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين﴾، وكانت جبلّته هي تقدير الناس وتنزيلهم منازلهم، وكان حسن الظن بجميع الناس ويحملهم على السلامة.

كان رحمه الله تعالى في الكرم آية باهرة، وأما شجاعته رضوان الله عليه فقد أخبرني ببعض مواقفه أمام ما يسمى ثورة 26سبتمبر 1962م التي كان الهدف منها في الظاهر تحويل النظام من حكم ملكي إلى حكم جمهوري ولكن جوهرها تغيير ثقافة المجتمع اليمني ومحو الفكر الزيدي، ورحم الله السيد العلامة محمد بن علي الشامي مدير مدرسة دار العلوم العليا الذي كان يهمس في أذني أيام دراستي في هذه المدرسة قائلاً: ثورة 26 سرق ابتر (نعم) فوقف المترجم له مع أمثاله من العلماء والشرفاء ضد الباطل لا يخافون في الله تعالى لومة لائم.

ومن مواقفه الشجاعة ما شهدته أنا وحضرته حينما انتصر لمظلوم ووقف معه حتى حضر شيخ وعقال قرية الظالم يُحَكِّمون ويرضون السيد أحمد ملك بما شاء إلا أن غضبه وشجاعته لم يخرجاه عن الحق ولم يدخلاه في باطل.

تواضعه وزهده:

منذ أن كنت صغيراً وأنا أسمع جدي وأعمامي يشيدون بفضل أحمد ملك ويمدحونه ويثنون عليه ويعظمونه وخرجت إلى أوساط مجتمع بني حشيش فإذا للسيد أحمد ملك في قلوب كبيرهم والصغير مكانة خاصة حتى كبار مشائخ بني حشيش ..

العلامة أحمد ملك كان نموذجاً للعالم العامل الزاهد الذي لم تر عيني مثله في زهده وإعراضه عن الدنيا إلا قليلاً يعدون بالأصابع إذ لم يملك مع شهرته وطول عمره الذي كان قرناً إلا عدة أشهر لم يملك في بني حشيش إلا ذلك البيت الصغير وثمان لبن تقريباً عنباً لتكون خريفاً له ولأسرته، مع أنه كان يستطيع أن يملك من الدنيا ما شاء إلا أنه اتخذ الأبيات الآتية شعاراً له علما وعملاً وكثيراً ما كان يذكرها في خطبه ومواعظه ([3]) وهي:

  إن لله عباداً فطنا طلقوا ***  الدنيا وخافوا الفتنــا

    نظروا فيها فلما علموا  ***   أنها ليست لحي وطنا

       جعلوها لجة واتخذوا   ***   صالح الأعمال فيها سفنا
 

وأما تواضعه: فقد كان متواضعاً في نفسه فينبسط للصغير والكبير، وللفقير والمسكين، والبعيد والقريب. وكان متواضعاً في ملبسه ومظهره، وفي مجلسه ومسكنه، وفي سفره وحضره، لم يطلب الرفعة ولم يرفع طرفه إليها بل لم يرفع بصره إليها ولم ينافس أحداً في الدنيا، عرضت عليه المناصب الحكومية في وزارة العدل وفي مجلس الشورى ثم مجلس النواب وفي وزارة الأوقاف وغيرها إلا أنه رفض ذلك كله، فقد كان بحق عظيم الزهد، كيف لا ومن رآه وجالسه لا يتمالك نفسه أن يقول: أشهد بأن هذا ولي من أولياء الله.

ومن عظيم ورعه: أنه رضوان الله عليه كان لا يأكل من الصدقات التي تأتيه من عدة جهات بل كان يقوم بتوزيعها على الفقراء والمساكين والأرامل والأيتام وذوي الحاجة، مع أن الذين كانوا يعطونه تلك الأموال راضون وبنفوس طيبة أن يأخذ له منها إلا أنه لا يأخذ له شيئاً، ولقد أخبرني يوماً أنه كانت تأتيه الملايين فلا يأخذ لنفسه منها ولا حتى ريالاً واحداً، لذلك قصده المنفقون لزكواتهم وصدقاتهم لعلمهم بحرصه على وضعها في مواضعها مع حرص شديد ورعاية تامة، وقصده أصحاب الحوائج لقناعتهم أنهم أمام من يكرمهم ويتولى إعانتهم وأجرى الله على يديه الخير.

الإصلاح بين الناس:

من كريم سماته وصفاته رحمة الله عليه الإصلاح بين الناس سواء كانوا أفراداً أو جماعات فكم أصلح بين زوجين تأزمت العلاقة بينهما فيعالج المشكلة بحكمته التي آتاه الله تعالى إياها  ﴿ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيرا﴾ وكان له رحمه الله تعاله توجه واهتمام بمعالجة مثل هذه المشاكل، وكم حدثت من حروب بين قرى وقُبُل –جمع قبيلة- في بني حشيش وفي نهم وخولان وحريب مأرب فما إن كان يسمع بحرب إلا ويجمع بني هاشم الساكنين معه في هجرة آل صارم الدين ويذهب بهم إلى المنطقة التي تشتعل فيها الحرب ليصلح بينهم، وقد أخبرني بعض من سار معه إلى حرب اشعلت في حريب مأرب فلما وصلوا وأرادت إحدى القبيلتين المتحاربتين أن تضيفهم لأنهم –الواسطة- من بني هاشم وفيهم واسطة العقد وهم السيد العلامة أحمد ملك لكنه رفض الضيافة وقال: لا نأكل من طعامكم لقمة واحدة إلا إذا قبلتم الصلح.

من عبادته

وكان له رحمه الله تعالى أوراد ثابتة من القرآن الكريم والأدعية والصلوات التي منها مكملات الخميس، وكان من عادته أن يلازم الذكر من بعد صلاة الفجر إلى طلوع الشمس –إذا لم يكن وقت تدريس العلم- وكان يكرم من زاره أو استمد منه الدعاء بدعاء خاص يشعر معه الإنسان بالخشوع والروحانية وسرعة الإجابة وكأنه حين يدعو تكتب الإجابة فلا يخرج الإنسان من عنده إلا منشرح الصدر مسرور الخاطر كما عايشت ذلك بنفسي عشرات المرات عندما كنت أزوره رضوان الله عليه.

التعليم:

كان من أكبر أعمال السيد العلامة أحمد ملك هو التعليم، وأقول بحق لقد كان له الإسهام الكبير في الحفاظ على الهوية الإسلامية الصحيحة في كثير من المناطق اليمنية عامة وبني حشيش خاصة، فلقد كان له الفضل الأكبر في هذا الجانب في حضوره المستمر في أوساط الناس تعليماً وإرشاداً ونصحاً وخطابة وإصلاحاً بين الناس وخاصة بعد خلو الهجرة المباركة –هجرة صارم الدين- من العلماء بسبب موت أكثرهم وفقدان الخلف، وأيضاً انتقال بعضهم إلى صنعاء أو غيرها، ولذلك كان السيد العلامة أحمد ملك رضوان الله عليه آخر هامة علمية كبيرة في العلم والسنّ تودعها ناحية بني حشيش خاصة ومن أكبرها كذلك –في العلم والسن- تودعها اليمن عامة، إذ بلغ عمره قرناً إلا عدة أشهر.

لقد ثابر على تعليم القرآن العظيم والعلوم الشرعية من فقه وأصوله وأصول الدين واللغة العربية من نحو وصرف وبلاغة وتفسير القرآن العظيم وآيات الأحكام والترغيب والترهيب وغيرها ناذراً لنشر العلم وتشجيع العلماء والمتعلمين عمره، باذلاً نفسه ونفيسه حتى تخرج على يديه عدة دفعات، ولولا هذا العالم الفاضل بعد الله سبحانه وتعالى لخلت مديرية بني حشيش من العلم وأهله،

فالمترجم له جعله الله تعالى رحمة لهذه المنطقة وحارساً لها من التيار الوهابي وغيره من التيارات البعيدة عن روح الإسلام وحقيقته، لازم جامع شمسان –في بيت السيد- إماماً وخطيباً ومدرساً ومحاضراً ومفتياً لعشرات السنين لم يحل بينه وبين ذلك ظروف قاصية ولا متغيرات متوالية ولا وظيفة ولا منصب ولا انشغال بأمور المعيشة –بل رزقه الله من حيث لا يحتسب- ولم تضعف عشرات السنين عزمه ولم توهن قواه بل ظل إلى أن قبض الله روحه الطاهرة في السنة المائة من عمره وهو يتمتع بكامل حواسه –مع ضعف في جسمه- وما ذلك إلا أنه حفظ الله تعالى في سره وعلنه فحفظه الله ومتعه بقواه وسمعه وبصره وعقله..

وأما الفتيا: فقد كان قبلة المستفتين ليل نهار، وقد أخبرني أن بعض المستفتين كان يأتيه أحياناً بعد منتصف الليل فيقوم من فراشه –مع كبره ومجاوزته الثمانين من عمره- لأنه يدرك أن ذلك واجب عليه، إذ لم يوجد غيره في المنطقة مثله في علمه.

وأما الخطابة والمحاضرات: فقد كان خطيباً فصيحاً، وإماماً بليغاً في خطبه ومحاضراته قلما تجد له نظيراً في هذا الفن، وكل من سمعه أصغى إليه بسامع قلبه وتشوق لسماع ما يلقي هذا السيد العظيم ويحس المستمع أن كل كلمة يلقيها العلامة أحمد ملك تصل إلى قلبه قبل أن تصل إلى سمعه وهذا يدل على إخلاصه في وعظه وإرشاده لمستمعيه فما كان من القلب وصل إلى القلب وما كان من اللسان بحته الآذان، ولذلك كان يحضر إلى مسجده الذي يخطب فيه الكثير من أهل القرى المجاورة بل والبعيدة عنه وخاصة في شهر رمضان إذ كان في كل شهر رمضان بعد أن يخطب الجمعة وبعد صلاة الجمعة يلقي المحاضرات والوعظ والإرشاد والنصح للمسلمين وتوضيح الحق المبين وينشر عليهم جواهر العلم ودرره، وأصداف الحِكَم ولآلئها، وإني لما سمعته أول مرة حضرت فيها خطبته وذلك يوم الجمعة الثامن عشر من شهر ذي الحجة سنة 1412هـ وكان موضوع الخطبة عن يوم الغدير وخطبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ يوم الغدير انبهرت وتعجبت من فصاحة هذا العالم الجليل وأسلوبه العظيم الذي يجذب المستمع ويشده إليه وتعجبت من طريقة إلقائه الكلام وصياغته للعبارات وتركيبه لها كأنها عجينة بين يديه يشكلها كيفما يشاء فسبحان الله القائل: ﴿يؤت الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً وما يذكر إلا أولو الألباب﴾.

وقد كان رحمه الله تعالى مواظباً على إحياء المناسبات الدينية كالمولد النبوي الشريف ومناسبة الهجرة والإسراء والمعراج وغيرها كمناسبة الغدير ونحوه..

كرامته رضوان الله عليه:

أجرى الله تعالى على يديه وله كرامات تدل على صلته بالله سبحانه صلة وثيقة فمن ذلك: أنه بعد مرور عشرة أيام ونيف من موته رضوان الله عليه مرّ أحد الإخوان ([4]) من الطريق المجاور لقبره وذلك بعد العشاء فشم رائحة طيبة فاقترب من القبر حتى وصل إلى القبر فإذا هي تخرج من القبر فاتصل لي وأخبرني بذلك فشاع الخبر فكل من سمع بهذا الخبر سار إلى القبر وشمَّ تلك الرائحة الزكية وسرت بنفسي لزيارته ولأتأكد من الخبر – مع أن الخبر قد بلغ حد التواتر- .. ولقد كنت أحس مع وجوده -كما كان يحس غيري- ونشع ربطمأنينة وسكينة وأمان رغم بشاعة العدوان السعودي ومن تحالف معه الذي لم ينج من رميه بالصواريخ والأسلحة المحرمة دولياً حتى المقابر.

وفي الأخير لا يسعني إلا أن أقول عذراً سيدي يا من كنت لي خاصة وللجميع عامة أباً وناصحاً ومشفقاً ومعلماً ومحباً ومواسياً، عذراً فإني لن أستطيع أن أوفيك حقك مهما كتبت وقلت فلقد كانت حياتك منذ ولادتك يوم الخامس عشر من شهر جمادى الآخرة سنة أربعين وثلاثمائة وألف للهجرة إلى ليلة وفاتك وهي ليلة السبت 9 شوال سنة 1439هـ تسع وثلاثون وأربعمائة وألف للهجرة 23 يونيو سنة 2018، كانت حياتك حافلة بالطهر والعفاف والعلم والتعليم والتواضع والصدق والأمانة والكرم والجود والوعظ والإرشاد والجهاد والإصلاح بين الناس والروحانية مع أن هناك قصصاً وقضايا كثيرة عشتها وعاشها غيري معه تركتها اختصاراً ولضيق الوقت، وإني على يقين أنه لن يفيك حقك إلا الله عزوجل الذي لا يضيع عنده عمل عامل من ذكر أو أنثى والذي يجازي على الحسنة عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله.

 

فسلام الله عليك يوم ولدت ويوم مت يوم تبعث حيا، سلام عليك يا من أمرت بالمعروف، ونهيت عن المنكر، سلام عليك بما علمت كتاب الله، سلام عليك بما نشرت دين الله، سلام عليك بما علمت سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ، سلام عليك وعلى روحك الطاهرة، جزاك الله عنا وعن المسلمين خير الجزاء.

وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله.


([1]) بينها وبين قرية بيت أظن عشرة كيلو متر.

([2]) وتسمى أيضاً شعبة الإجتهاد.  

([3])  وقد أمرني وبقية الطلاب بحفظها غيباً.

([4])  هو السيد الفاضل زيد بن علي بن يحيى أحسن عثمان.


 

   

 

المرفقات: 
المرفقالحجم
PDF icon dr_lmlk_fy_syr_llm_hmd_mlk.pdf1.68 ميغابايت