لا شك أن الأرض تحب مثلما نحب، وتكره مثلما نكره، فمن أحبته تمسكت به، ومن كرهته لفظته خارجها، وهذا ما حدث مع السيدة نفيسة، التي أحبت مصر قبل أن تزورها، فعندما جاءت إليها، أحبها الشعب والأرض، فمكثت في مصر حتى ماتت، ثم دفنت فيها.
نفيسة العلم وكريمة الدارين ..
هي نفيسة بنت الحسن الأنور بن زيد الأبلج بن الحسن بن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ سيدة من سيدات أهل البيت، اشتهرت بالعبادة والفطانة والزهد، كرمها المصريون إلى حد أن لها مسجدًا وحيًّا يسمى باسمها.
ولدت في أرض الحجاز بمكة عام 145 هـ، ثم انتقل بها أبوها إلى المدينة المنورة وكانت في سن الخامسة؛ فبدأت تذهب إلى المسجد النبوي، وتستمع إلى شيوخه، وتنهل الحديث والفقه من علمائه، فبدا عليها النبوغ والعلم، وأطلق عليها الناس لقب “نفيسة العلم”.
كان لنفيسة بنت الحسن نصيب من نسبها، فزهدت وورعت وحسنت عبادتها، ورووا أن أكثر وقتها كان تعبدًا في المسجد النبوي، وهذا ما قالته زينب بنت أخيها، التي تفرغت لخدمتها : “خدمتُ عمّتي السيدة نفيسة أربعينَ عامًا، فما رأيتها نامَت بلَيل، ولا أفطرت إلا العيدين وأيام التشريق، فقلت لها: أمَا ترفُقِين بنفسِك؟ فقالت: كيف أرفُق بنفسي وأمامي عَقَبات لا يقطَعُهُنّ إلا الفائزون؟”.
وأضافت “كانت عمتي تحفَظ القرآن وتفسِّره، وكانت تقرأ القرآنَ وتَبكي”..
ويقال أيضًا : إنها حفرت قبرها بيدها، وكانت تنزل فيه وتصلي كثيرًا، وقرأت فيه المصحف مائة وتسعين مرة وهي تبكي بكاءً شديدًا. ويذكر أيضًا أنها حجّت أكثر من ثلاثين مرة أكثرها ماشية، كانت فيها تتعلق بأستار الكعبة و تقول “إلهي وسيدي ومولاي، متعني وفرحني برضاك عني، ولا تسبب لي سببًا يحجبك عني”.
نشأتها :
نَشأَت السّيدة نَفيسة في جَوٍّ يَسُودُه العِلمُ والوَرعُ والتّقوى، وفي وسطٍ يَزخَرُ بالعُلَماء والعُبّادِ والزُّهّادِ، فقَرأتِ القُرءانَ وحفِظَتهُ، ودَرستِ العِلمَ ووَعَتْهُ، وسمِعَت مَسائلَ الحديثِ والفِقه ففَهِمَتها. وكانَت رضيَ الله عنها مُجابةَ الدّعوةِ، أَظمَأت نهَارَها بالصِّيام، وأقَامَت ليلَها بالقِيام، عَرفَتِ الحَقَّ فوقَفت عِندَه والتَزمَت به، وعَرفَتِ البَاطِلَ فأَنكَرتْهُ واجتَنَبتْه، واجتَهدَت بالعبادةِ حتى أكرَمهَا اللهُ بكرَاماتٍ عدِيدةٍ.
زواج السيدة نفيسة :
تزوجت السيدة نفيسة رضي الله عنها ، من إسحاق المؤتمن بن جعفر الصادق رضي الله عنه ، وكان زوجها إسحاق مشهوداً له بالصلاح ، وبهذا الزواج اجتمع نسل الحسن والحسين ، فالسيدة نفيسة حفيدة الإمام الحسن ، بينما زوجها حفيد للإمام الحسين ، وبهذا صارت السيدة نفيسة كريمة الدارين ، ثم أنجبت طفلين هما القاسم وأم كلثوم .
صفاتها الشخصية:
كانت من أفضل النساء في رعاية زوجها وبيتها وأسرتها، ومن أحسنهنَّ اتقاناً لفنِّ إدارة المنزل الذي كانت تعمره بالعبادة والذكر والتربية الحسنة، وحسن التعامل مع زوجها الذي كان يسعد بها كلَّ السعادة ويصرِّح لها بجمال ما أودع الله فيها من صفات حسنة شكلاً ومضموناً، فما تردُّ عليه إلا بوجهٍ بشوش، وكلماتٍ راقيةٍ تدل على أدبها الجم.
وكانت صاحباتها يجدن من الأنس بمجلسها ما لا يجدنه عند غيرها، وتجد صدورهنَّ من الانشراح، وقلوبهنَّ من الارتياح ما يجعلهن ينظرن إليها نظر التلميذ بشيخه، وكانت تغمر من يجلس إليها بالمودة، وتُفيض عليهن من التوجيه والعلم .
السيدة في مصر وأحمد بن طولون
أحب المصريون أهل البيت، فكانوا يشتاقون لأي شخص منهم ، وفي عهد السيدة نفيسة كان المصريون يلقونها بمكة في أشهر الحج، فيطلبون منها زيارة مصر، فتقول لهم “سأزور بلادكم إن شاء الله..
وصلت السيدة نفيسة إلى القاهرة وزوجها إسحاق، وابناها القاسم وأم كلثوم، وغيرهم من أبناء آل البيت، فاستُقبِلوا بحفاوة كبيرة من المصريين، الذين تسابقوا لإكرامهم. ومنذ البداية بدأ الود بينهم، وذابت السيدة نفيسة في المصريين، وذاب المصريون فيها.
ولم تكن السيدة نفيسة بمعزل عن العامة عندما أقامت بمصر، بل كانت قريبة جدًّا منهم، تهتم بأمورهم.. ولا أدل على ذلك من موقفها عندما استعان بها العامة حتى تقف أمام جور وظلم السلطان أحمد بن طولون، فما كان منها إلا أن وقفت موقفًاً يدل على معدن نفيس لا يخشى في الله لومة لائم..
يذكر المؤرخون : أنها كتبت رسالة للسلطان، وانتظرت موكبه، ثم سلمتها له، وكان نصها “ملكتم فأسرتم، وقدرتم فقهرتم، وخوّلتم ففسقتم، ورُدَّت إليكم الأرزاق فقطعتم، هذا وقد علمتم أن سهام الأسحار نفّاذة غير مخطئة، لا سيّما من قلوب أوجعتموها، وأكباد جوّعتموها، وأجساد عرّيتموها، فمحال أن يموت المظلوم ويبقى الظالم، اعملوا ما شئتم، فإنَّا إلى الله متظلِّمون، "وسيعلم الذين ظلموا أيَّ منقلب ينقلبون".. فلم يكن من السلطان إلا أن انتبه لأفعاله، وعدل عنها.
الشافعي والإمام القاسم بن إبراهيم "ع" ..
هناك نموذجان ممن وفد على نفيسة وقرأ عليها أو استفاد من علمها .. فقد روي أن الإمام الشافعي رحمه الله أخذ عن السيدة نفيسة بنت الحسن بن زيد عندما ارتحل إلى مصر، وقد روي أيضاً أن الإمام القاسم بن إبراهيم "ع" كان يزورها في مصر وقد روي عنه قوله :( قرأت مُصْحَفَ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضوانَ الله عَليه عِند عَجوزٍ مسنة - السيدة نفيسة - من ولد الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب، فوجدته مكتوباً أجزاء بخطوط مختلفة، في أسفل جزء منها مكتوب وكتب علي بن أبي طالب، وفي أسفل آخر وكتب عمار بن ياسر، وفي آخر وكتب المقداد، وفي آخر وكتب سلمان الفارسي، وفي آخر وكتب أبو ذر الغفاري، كأنهم تعاونوا على كتابته. قال جدي القاسم بن إبراهيم صلوات الله عليه: فقرأته فإذا هو هذا القرآن الذي في أيدي الناس حرفًا حرفاً، لا يزيد حرفاً ولا ينقص حرفاً، غير أن مكان ?قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ?، ?اقْتُلواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ ?، وقرأت فيه المعوذتين ) .
وفاة السيدة نفيسة :
سقطت السيدة نفيسة رضي الله عنها ، فريسة للمرض في عام مائتين وثمانية من الهجرة ، واشتد عليها المرض كثيرًا وتمكّن منها حتى حلول شهر رمضان المبارك ، فبلغ المرض والداء مبلغه منها ، فقعدت في تلك الفترة عن الحركة.
فلما حضر الطبيب إليها وفحصها نصحها بأن تفطر ، فتمتمت متعجبة بأنها ظلت طوال ثلاثين عامًا ، تدع الله وتتوسل إليه أن تلقاه وهي صائمة ، وسألته متعجبة فهل أفطر الآن ؟ ورفضت أن تنفذ ما أوصاها به الطبيب.
ثم ظلت تقرأ خاشعة من سورة الأنعام ، حتى بلغت الآية مائة وسبعة وعشرون من السورة ، عند قول الله تعالى ؛ {لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِندَ رَبِّهِمْ ۖ وَهُوَ وَلِيُّهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} حتى فقدت وعيها ، فضمتها زينب ابنة أخيها إلى صدرها ، ولقّنتها الشهادتين ثم صعدت روحها إلى بارئها.