وقفة مع دعاء شهر رمضان للإمام زين العابدين "ع"

نشر بتاريخ: أحد, 03/06/2018 - 1:28ص

 

تتجلى في أدعية زين العابدين (ع) فلسفة عميقة، تساعد على تكوين الشخصية الربانية؛ بأرفع المقاييس، وأرقى المستويات.. سواء فيما يتعلق بعلاقة الإنسان بربه ، أو علاقة الإنسان بالإنسان..

وفي دعائيه (دخول شهر رمضان ووداعه) تتجلى أسس التربية، ودعائم التهذيب، التي يبعثها زين العابدين كخطوات عملية، يتبعها القاصد ، و يتلمس نتائجها ليرى ما مدى الأثر الذي تركه الصيام في نفسيته وسلوكه.. والتي ستكون المقياس الذي سينبني القبول من الله أو عدمه..

وعلى الإنسان المتأهب لشهر رمضان المبارك أن يقرأ الدعائين (دعاء دخول شهر رمضان، ودعاء وداع شهر رمضان ) ولا يكتفي بدعاء "دخول شهر رمضان" فقط عند دخول رمضان ويترك دعاء "الوداع" إلى آخر رمضان كما هو المعتاد من الأكثرية ، بل يحتاج الإنسان المتأهب لشهر رمضان أن يتأمل فيهما ، ليأخذ منهما تصوراً عن المفاهيم المتعلقة بشهر رمضان ، وعن البرنامج العملي المطلوب منه في هذا الشهر المبارك .. وخصوصاً أن هذين الدعائين صدرا عن إمام عظيم من أئمة أهل البيت ، بلغ الغاية في العبادة والمنتهى في المعرفة .. وبالتالي يعيش الإنسان أجواء فريدة ، تنقلك تارة إلى المفاهيم القدسية ، وأخرى إلى التجربة العملية ، لتدرك المفاهيم وتفهم العمل ، لأن المفاهيم الإلهية التي يصيغها زين العابدين في أدعيته ليست كلمات عابرة ، وإنما حقيقة ماثلة ، لأن زين العابدين جسدها في واقع حي .. فأنت ترى الفكرة في صورتها المتجسدة لتدرك حقيقتها وترى جمالها وروعتها..

ومن نظرة سريعة لدعائه "دخول شهر رمضان" نلاحظ من الناحية العامة للدعاء أن الله سبحانه وتعالى جعل شهر رمضان محطة لتأهيل النفس وإعادة ضبطها وفق تهيئة المصنع (الفطرة) بعد إصابتها بتراكمات هائلة من الذنوب دنست نقاء فطرتها ، وحرفت مسار سلوكها .. ( وأهلنا فيه لما وعدت أوليائك من كرامتك ) .. فشهر رمضان سبيل من عدة سبل جعله الله فرصة لعودة الإنسان الآبق إلى سيده .. ( والحَمدُ للهِ الَّذي جَعَلَ مِن تلكَ السُبُلِ شَهرَهُ شهرَ رَمضانَ ) ..

وقد تلخصت وظائفه العامة في خمسة أشياء : "الصيام ، والخضوع ، والطهور ، والتمحيص، والقيام" ..

كما ورد في دعائه "ع" : ( شهر الصيام ، وشهر الإسلام ، وشهر الطهور ، وشهر التمحيص ، وشهر القيام ) .. ولو تأملنا في هذه الفقرة لوجدنا أن تعبيد النفس وتطويعها لخالقها تحتاج لهذه الوظائف الخمس .. فهي كفيلة بتوجيه مسار الأخلاق وترويضها على وفق مراد الله ، "فالصيام" يخفف من بعض الشهوات الناتجة عن فضول الأكل والشرب ، "والإسلام"- والذي قد يراد به الخضوع هنا - يعود النفس على الامتثال لآمر واحد بما يحبسها عن التمني والتشهي الخارجين عن الضوابط .. و"الطهور" يزكي النفس ويرفعها من سفاسف الأمور وأحقرها ، كتطهير المال بإخراج الزكوات ، وتطهير البدن بالغسل والوضوء ، وتطهير القلب من الغل والبغضاء .. و"التمحيص" يروض النفس على احتمال المشاق والتزام الصبر ، باعتبار ذلك قاعدة في تحقيق المراتب العالية والمنازل السامية .. و"القيام" تربية للنفس على الاتصال بالله وملازمة ذكره ..

ولو تأملنا في هذه الخمس الوظائف لوجدناها مطلوبة في تحقيق أي نجاح يسعى له الإنسان في أي مجالات الحياة .. فلو نظرت إلى أي المشاهير الذين بلغوا المراتب لوجدتهم قد تخلصوا من فضول الطعام ، وعقدة التعالي ، وارتفعوا عن السفاسف الأمور وطلبوا أعاليها وأزكاها ، وصبروا في رحلة الوصول ، وعملوا بلا كلل أو ملل ..

ولأجل أن تحقق هذه الوظائف نجاحها في ترويض النفس وتعبيدها فقد هيأ الله في هذا الشهر المبارك كل السبل التي تمكن الإنسان من تدارك ما فرط منه في السنوات الماضية من ركوب المعاصي واقتراف الذنوب ..

ومن تلك التهيئة :

- ربط هذا الشهر المبارك بالقرآن الكريم ، والذي ابتدأ الله إنزاله "على أحد الأقوال" في هذا الشهر المبارك ، وفي ليلة القدر منه .. فعظمة هذا الشهر مستمدة من عظمة القرآن ، الدستور الأمثل والمنهج المعصوم لحياة الإنسان ونهضته .. (الَّذِي أُنْزِلَ فِيْهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ ، وَبَيِّنَات مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقَانِ) ..

- أبان الله سبحانه فضل هذا الشهر بما فرض فيه من الأحكام التي تظهر مدى المكانة التي يحمله هذا الشهر كتحريمه لأهم المباحات الملازمة لحياة الإنسان اليومية كالأكل والشرب والنكاح .. ويبدو من ذلك أن هذا الزمان له تأثير في تحريم بعض المباحات بمعنى أن شهر رمضان بلغ قدسيته مبلغاً جعلت من المأكل والمشرب ونحوهما ممنوعاً لا يليق بمقام القدسية التي يحمله هذا الشهر .. (فَأَبَانَ فَضِيْلَتَهُ عَلَى سَائِرِ الشُّهُورِ ، بِمَا جَعَلَ لَهُ مِنَ الْحُرُمَاتِ الْمَوْفُورَةِ ، وَالْفَضَائِلِ الْمَشْهُورَةِ ، فَحَرَّمَ فِيْهِ ما أَحَلَّ فِي غَيْرِهِ إعْظَاماً ، وَحَجَرَ فِيْهِ الْمَطَاعِمَ وَالْمَشَارِبَ إكْرَاماً) ..

- جعل الله له وقتاً بيناً ليس فيه مسرح للاختلاف .. حتى لا يعدم المسلمون خيره ، ويحرمون فضله .. وبالتالي  ليس للإنسان أي عذر في تفويت الفرصة ، وتضييع الحصة، متعللاً بجهل وقته ، واغتنام غير شهره ، (وَجَعَلَ لَهُ وَقْتاً بَيِّناً لاَ يُجِيزُ جَلَّ وَعَزَّ أَنْ يُقَدَّمَ قَبْلَهُ ، وَلا يَقْبَـلُ أَنْ يُؤَخَّرَ عَنْهُ) ..

- تخصيصه بالتجليات الربانية، والنفحات الإلهية، ونزول الرحمة، وعموم البركة، وتضاعف الأعمال ، وتكاثر الألطاف ورقة القلوب .. ( السّلَامُ عَلَيْكَ كَمَا وَفَدْتَ عَلَيْنَا بِالْبَرَكَاتِ، وَ غَسَلْتَ عَنّا دَنَسَ الْخَطِيئَات‏ ) .

- تخفيف منابع الشيطان ، وسد مداخله .. والظاهر من دعاء زين العابدين أن الشيطان ما زال يمارس نشاطه الإغوائي في شهر رمضان .. ( والانخداع لعدوك الشيطان الرجيم ) (وَإنِ اشْتَمَلَ عَلَيْنَا عَدُوُّكَ الشَّيْطَانُ فَاسْتَنْقِذْنَا مِنْهُ) .. إلا أن التهيئة الإلهية لهذا الشهر بما أنزل فيه من الرحمات وعم فيه من البركات أعان على الشيطان وخفف منابعه ..( وَمِن نَاصِرٍ أَعَانَ عَلى الشّيطَانِ ) ..

وكان على الإنسان أن يدرك أولاً هذه التجليات الإلهية ، ويسعى لمعرفة فضل هذا الشهر المبارك المعرفة القلبية الحقة ، لأن عزوف الإنسان عن هذا الشهر وعدم العمل بالطاعات فيه ناتج عن عدم معرفته فضل هذا الشهر ومكانته عند الله .. ولذا بدأ زين العابدين مناجاته بقوله :  (وَأَلْهِمْنَا مَعْرِفَةَ فَضْلِهِ ، وَإِجْلاَلَ حُرْمَتِهِ) ، فأول الطريق لاستغلال هذا الشهر الاستغلال المطلوب هو أن يعرف الإنسان فضل هذا الشهر ومكانته عند الله ، فإذا أدرك ذلك بادر إلى تحقيق الفضائل وبلوغ المراتب ..

ثم يلتفت زين العابدين إلى الجانب العملي للتربية الروحية باعتبار أن شهر رمضان يحمل خاصية تجعل الوقت مهيأ أكثر لتربية النفس وترويضها بما يصل بالإنسان إلى درجة التقوى المقصودة لله بقوله "لعلكم تتقون"

وخصوصاً أن بلوغ التقوى تحتاج إلى برنامج عملي وتدريب مستمر حتى يلتزم الإنسان ذلك السلوك السوي ، وشهر رمضان فرصة مناسبة لأداء التدريب العملي وتطبيقه في الحياة حتى تصير قواماً ينهجه الإنسان في حياته ..

ونلاحظ أن زين العابدين يركز على ثلاث جوانب مهمة في الجانب العملي التدريبي للوصول إلى التقوى :

الجانب الأول : كف الجوارح عن المعاصي واستعمالها في الطاعات .. وخصوصاً أن الجوارح في الغالب تكون قد اعتادت على المعاصي ، فتدريب شهر لكفها عن المعاصي واستعمالها في الطاعات كاف للإنسان السالك (وَأَعِنَّـا عَلَى صِيَـامِـهِ بِكَفِّ الْجَـوَارِحِ عَنْ مَعَاصِيْكَ ، وَاسْتِعْمَالِهَا فِيهِ بِمَا يُرْضِيْكَ ، حَتَّى لاَ نُصْغِي بِأَسْمَاعِنَا إلَى لَغْو ، وَلا نُسْرِعُ بِأَبْصَارِنَا إلَى لَهْو ، وَحَتَّى لاَ نَبْسُطَ أَيْدِيَنَا إلَى مَحْظُور ، وَلاَ نَخْطُوَ بِأَقْدَامِنَا إلَى مَحْجُور ، وَحَتَّى لاَ تَعِيَ بُطُونُنَا إلاَّ مَا أَحْلَلْتَ ، وَلا تَنْطِقَ أَلْسِنَتُنَا إلاَّ بِمَا مَثَّلْتَ ، وَلا نَتَكَلَّفَ إلاَّ ما يُدْنِي مِنْ ثَوَابِكَ ، وَلاَ نَتَعَاطَى إلاّ الَّذِي يَقِيْ مِنْ عِقَابِكَ ) ..

ونلاحظ أن زين العابدين "ع" بعد هذا يشير إلى أنه لابد للإنسان أن يوجه نيته من خلال فعل الطاعات وترك المعاصي إلى الله وابتغاء مرضاته .. لا أن تكون سيراً مع القافلة ، وتماشياً مع البيئة التي اعتادت في شهر رمضان على برنامج معين ، فيتماشى معها الإنسان جسداً دون إفراد الله بالقصد .. وهي لفتة تربوية من زين العابدين "ع" تعلم الإنسان أن يكون يقظاً في عبادته بتجديد نيته في كل خطوة يخطوها ، وتعويدها أن تتجه إلى مسار واحد ، وهو رضوان الله دون ماسواه .. لأن خمول النية دون تحديد وجهتها في كل عمل تجعل الإنسان جسداً قد تنحرف به نيته في أدنى منعطف بسبب شتاتها وعدم تثبيتها على المحور المقصود .. ( ثمَّ خَلِّصْ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ رِئآءِ الْمُرَائِينَ ، وَسُمْعَةِ الْمُسْمِعِينَ ، لاَ نَشْرِكُ فِيهِ أَحَداً دُونَكَ ، وَلا نَبْتَغِيْ فِيهِ مُرَاداً سِوَاكَ ) ..

الجانب الثاني ؛ الاهتمام بالصلاة وأدائها بالشكل المطلوب ، لأن الصلاة لو أُديت بالمستوى المتكامل التي رسمها الله فلا شك أنها ستحدث تغييراً في سلوك الإنسان وتقويماً لأعماله .. وشهر رمضان كاف للتدريب العملي على أداء الصلاة الحقيقية وتحقيق الغاية من تشريعها .. ( وَقِفْنَـا فِيْـهِ عَلَى مَـوَاقِيْتِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْس بِحُدُودِهَا الَّتِي حَدَّدْتَ ، وَفُرُوضِهَا الَّتِي فَرَضْتَ ، وَوَظَائِفِهَا الَّتِي وَظَّفْتَ ، وَأَوْقَاتِهَا الَّتِي وَقَّتَّ ، وَأَنْزِلْنَا فِيهَا مَنْزِلَةَ الْمُصِيْبينَ لِمَنَازِلِهَا ، الْحَافِظِينَ لأرْكَانِهَا ، الْمُؤَدِّينَ لَهَـا فِي أَوْقَاتِهَـا ، عَلَى مَا سَنَّـهُ عَبْدُكَ وَرَسُـولُكَ صَلَوَاتُـكَ عَلَيْهِ وَآلِـهِ ، فِي رُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا ، وَجَمِيْعِ فَوَاضِلِهَا عَلَى أَتَمِّ الطَّهُورِ وَأَسْبَغِهِ ، وَأَبْيَنِ الْخُشُوعِ وَأَبْلَغِهِ) ..

الجانب الثالث : الاهتمام بالآخرين من خلال زيارة الأرحام وصلة الجيران ، ومواساة الفقراء بالنفقة والزكوات ، والمصافاة من الهجران والظلم وغيرها مما تسببه الأنانية والكبر وغيرها من أمراض القلوب ، ويستثنى من ذلك من عودي في الله فإن الاستمرار في عداوته مما يرضي الله .. ويظهر أن الاهتمام بهذا الجانب مهم لأنه جانب عملي في تطهير القلب من الغل والبغضاء والشح وغيرها من أمراض القلوب ، ليبقى الإنسان سليم القلبً يحسن الظن بالناس ، ويحب الخير لهم ، ويسعى لخدمتهم وقضاء حوائجهم وتفريج كربتهم وإعانتهم على نوائب الدهر .. (وَوَفِّقْنَا فِيهِ : لاِنْ نَصِلَ أَرْحَامَنَا بِالبِرِّ وَالصِّلَةِ ، وَأَنْ نَتَعَاهَدَ جِيرَانَنَا بِالإِفْضَالِ وَالْعَطِيَّةِ ، وَأَنْ نُخَلِّصَ أَمْوَالَنَا مِنَ التَّبِعَاتِ ، وَأَنْ نُطَهِّرَهَا بِإخْرَاجِ الزَّكَوَاتِ ، وَأَنْ نُرَاجِعَ مَنْ هَاجَرَنَـا ، وَأَنْ نُنْصِفَ مَنْ ظَلَمَنَا ، وَأَنْ نُسَـالِمَ مَنْ عَادَانَا حَاشَا مَنْ عُودِيَ فِيْكَ وَلَكَ ، فَإنَّهُ الْعَدُوُّ الَّذِي لاَ نُوالِيهِ ، وَالحِزْبُ الَّذِي لاَ نُصَافِيهِ ) ..

ومن خلال التزام الإنسان بالتربية العملية والتدريب المتواصل في شهر رمضان يتجلى أثر ذلك في سلوكيات الإنسان وتعامله ، بمعنى أن تلك الالتزامات التي واظب عليها في شهر رمضان أصبحت منهجاً له وسلوكاً بعد شهر رمضان لأن الإنسان يكون قد نجح في تعديل السلوك وتصحيح مسار الأعمال بعيداً عن التأثر الآني ، قال "ع" :  (وإن نتقرب إليك من الأعمال الزاكية، بما تطهرنا به من الذنوب، وتعصمنا فيه مما نستأنف من العيوب).. فالعصمة من العيوب فيما بعد رمضان.. تأتي نتيجة غفران الذنوب ، وغفران الذنوب نتيجة تقبل الأعمال الزاكية التي عملها الصائم في شهر رمضان.. والتي أثمرت في ترسيخ العمل الصالح في حياته ، وجعلها جزء من طبيعته التي لا يستطيع ممارسة حياته بدونها ..

وهذا أوضح مقياس يقيس به الإنسان مدى فاعلية الطاعات التي مارسها في شهر رمضان، وتأثيرها في سلوكياته وتعامله.. (وَتَعْصِمُنَا فِيهِ مِمَّا نَسْتَأنِفُ مِنَ الْعُيُوبِ)..

 

وفي دعائه "وداع شهر رمضان" تتجلى في مستهلها رعشة روحه ووجيب قلبه .. وقد سقط بين يدي خالقه ضعيفاً خجلاً من تقصيره عن أداء شكر تلك النعم المتواترة التي ابتدأ دعائه بتعدادها .. ليستشعر من خلال تعدادها حجم تلك النعم التي يمتن بها الله على عباده بما يجعل الإنسان قاصراً عن أداء شكرها مهما بلغت درجته في العبادة .. وهذا الشعور لا يدركه إلا أمثال زين العابدين الذين يرون من أنفسهم عصاة مع ما بلغوه من رتبة عظيمة في العبادة .. لكنها المعرفة الحقة التي ترسم للعارف حقيقته أمام خالقه ..

" ما أَفشَى فِينَا نِعمَتَكَ وَأسبَغَ عَلينا مِنَّتَكَ وَأَخَصَّنَا بِبِرّكَ ، هَديتَنَا لدِينَكَ الَّذي اصطَفَيتَ ، وَملَّتكَ الّتي ارتَضيتَ ، وَسَبِيلِكَ الّذي سَهّلتَ ، وَبَصرتَنا الزُّلفةَ لَدَيكَ وَالوُصولَ إِلى

كَرامَتِكَ " ..

واستشعار نعم الله تجعل الإنسان ينشد إلى واهبها ليقابله بالشكر عليها من خلال الامتثال لأمر الواهب ، والظهور الدائم بما يليق أمامه ، وشهر رمضان من أجل النعم التي جعلها الله لأمة محمد خاصة "ثم آثرتنا به على سائر الأمم واصطفيتنا بفضله دون سائر الملل " .. ولهذا توجب على الإنسان أن يستجيب لواهب  هذه النعمة من خلال الامتثال لأوامره والتعرض لرحمته ، وأن لا تذهب به نيته إلى غير الجهة التي أرادها له خالقه " فَصُمْنَا بِأَمْرِكَ نَهَارَهُ، وَ قُمْنَا بِعَوْنِكَ لَيْلَهُ، مُتَعَرّضِينَ بِصِيَامِهِ وَ قِيَامِهِ لِمَا عَرّضْتَنَا لَهُمِنْ رَحْمَتِكَ، وَ تَسَبّبْنَا إِلَيْهِ مِنْ مَثُوبَتِكَ" ..

ولأن زين العابدين يدرك فضل هذا الشهر ، وجلالة هذه النعمة ، فقد جعل من شهر رمضان رجلاً باراً -على أسلوب التجريد المعروف في اللغة - جاءنا زائراً فقام فينا مقام حمد وصحبنا صحبة مبرور ، ثم يبكي على رحيله و يتفجع على فراقه ، ويودعه وداع من عز فراقه ، وغمه وأوحشه انصرافه .. نتيجة ما كان يحمله من نفحات ربانية ونسائم قدسية .. والتي غيرت من نفسية الإنسان ، وأسلوب الحياة ..حتى الأجواء فيها فقد صارت روحانية ، يجد فيها الإنسان الطمأنينة والهدوء والراحة .." السّلَامُ عَلَيْكَ مِنْ أَلِيفٍ آنَسَ مُقْبِلًا فَسَرّ،
وَ أَوْحَشَ مُنْقَضِياً فَمَضّ‏ السّلَامُ عَلَيْكَ مِنْ مُجَاوِرٍ رَقّتْ فِيهِ الْقُلُوبُ، وَ قَلّتْ فِيهِ الذّنُوبُ " .. بالإضافة إلى كونه معيناً على الشيطان ومسهلاً لسبل الإحسان بما يجعل الجو مهيأ لأن يشتغل الإنسان بالطاعات ويترك المعاصي والتفاهات ، ليكون من عتقاء الله من النيران ، الفائزين بجنة الرضوان ..

ولنا هنا وقفتان :

الأولى : بقدر معرفة الإنسان بفضل هذا الشهر تكون همته للعبادة وعدم التفريط في أي أوقاته ، ونلاحظ أننا بعمل بسيط في شهر رمضان نظن أننا قد بلغنا المنتهى في الطاعة .. وهذا للأسف من الشقاء الذي يحجب عن الإنسان إدراك الحقيقة  " اللّهُمّ إِنّا أَهْلُ هَذَا الشّهْرِ الّذِي شَرّفْتَنَا بِهِ، وَ وَفّقْتَنَا بِمَنّكَ لَهُ حِينَ جَهِلَ الْأَشْقِيَاءُ وَقْتَهُ، وَ حُرِمُوا لِشَقَائِهِمْ فَضْلَهُ " فاستحكام الشقاء على الإنسان ينسيه أنه شقي ، ليرى من أعماله الضعيفة منقبة يستحق بها المنزلة الرفيعة .. بينما زين العابدين يقول " وَ قَدْ تَوَلّيْنَا بِتَوْفِيقِكَ صِيَامَهُ وَ قِيَامَهُ عَلَى تَقْصِيرٍ، وَ أَدّيْنَا فِيهِ قَلِيلًا مِنْ كَثِيرٍ. اللّهُمّ فَلَكَ الْحَمْدُ إِقْرَاراً بِالْإِسَاءَةِ، وَ اعْتِرَافاً بِالْإِضَاعَةِ، وَ لَكَ مِنْ قُلُوبِنَا عَقْدُ النّدَمِ، وَ مِنْ أَلْسِنَتِنَا صِدْقُ الِاعْتِذَارِ، فَأْجُرْنَا عَلَى مَا أَصَابَنَا فِيهِ مِنَ التّفْرِيطِ أَجْراً نَسْتَدْرِكُ بِهِ الْفَضْلَ الْمَرْغُوبَ فِيهِ، وَ نَعْتَاضُ بِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الذّخْرِ الْمَحْرُوصِ عَلَيْهِ ،
وَأَوْجِبْ لَنَا عُذْرَكَ عَلَى مَا قَصّرْنَا فِيهِ مِنْ حَقّكَ ....."

الثانية :  أن كل ما عمله الإنسان في هذا الشهر من طاعة وترك معصية، وتلاوة للقرآن وغيرها من وجوه الطاعات، تظل عهداً في ذمة الإنسان يوجب عليه الاستمرار فيه، وعدم الإخلال به بقية سنته.. وإلا خان العهد ونقض الميثاق ، وصار عمله في رمضان هباء منثوراً.. مالم يستمر على منواله في رمضان طيلة سنته..

إلى هذا أشار زين العابدين (وَلَزِمَنَا لَهُ الذّمَامُ الْمَحْفُوظُ، وَ الْحُرْمَةُ الْمَرْعِيّةُ، وَ الْحَقّ الْمَقْضِيّ )..

وبالتالي.. فإن سلوك الإنسان سبيل الطاعة، وخوضه أنواع العبادات في شهر رمضان ليست ممارسات موسمية تنقضي بانقضاء الشهر، بل تبقى في ذمته عهداً موثقاً يتطلب عليه أن يرعاها.. وإلا أحاطت به عاقبة خيانة العهد ونقض الميثاق.. الذي قال الله فيه (وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) ..

الدلالات: