وقفات تأملية .. في الصحيفة السجادية ..

نشر بتاريخ: خميس, 17/05/2018 - 6:29م

 

استطاع الإمام زين العابدين عليه السلام بمهارة فائقة – وهو في قيد المرض وأسر الأمويين – أن ينشر أهداف الثورة العظمى التي فجرها أبوه الإمام الحسين عليه السلام.. فأبرز قيمها الأصلية بأسلوب مشرق.. كان في منتهى التقنين والأصالة والإبداع.

لقد قام الإمام زين العابدين عليه السلام ببلورة الفكر العام، وإزاحة التخدير الاجتماعي ؛ الذي منيت به الأمة أيام الحكم الأموي الأسود ؛ الذي عمد إلى شل الحركة الثورية في الإسلام.. فأحال المسلمين إلى أشلاء مبعثرة.. ما بها من حياة وإحساس.. لقد وضع هذا الإمام العبوات الناسفة في أروقة السياسية الأموية.. حتى نسفت معالم زهوهم ، وجبروتهم ، وأعادت للإسلام حياته ونضارته.

لقد حققتها تلك التأثيرات العميقة في قلب المجتمع.. من خلال تلك الفلسفة التي اتخذها بأسلوبه الإبداعي المتميز ليوقظ الهمم ، ويشعل فتيل الثورة.. من دون أن يشعر الأميون ، أو حتى يخالجهم الشك في ذلك..

 ومن أساليبه المؤثرة سلوكه طريق العلم والتربية .. كيما يهيئ لحركة كبيرة تثمر في المستقبل  تجاه ظلم بني أمية واستبدادهم.. وما تلك الثورة التي قادها ابنه الإمام الأعظم زيد بن علي عليه السلام من بعده  إلا من نتاج تلك التربية والتعليم الذي ركز عليها بشكل مباشر في ذلك العصر الذي كانت الحياة العلمية شبه معدومة.. حيث اقتضت مصلحة الدولة الأموية آنذاك إقصاء الوعي الثقافي في الأمة وإركاسها في منحدر سحيق من الجهل.. لأن بلورة الوعي العام وإشاعة العلم بين المسلمين يهددان مصالحها وملكها القائم على الجهل.. فقد كان الناس آنذاك لا يعرفون كيف يصلّون، ولا كيف يحجون ، كما ورد في تاريخ ذلك العصر.

 وقد رأى الإمام زين العابدين عليه السلام محنة الأمة وسعى إلى تحريرها من قيود الجهل.. حيث قام بتأسيس مدرسته الفكرية الإسلامية من أجل هذا الهدف .. فكان المسجد النبوي  وداره يشهدان نشاطاً فكرياً من الطراز الأول.

وكان إلى جانب ذلك أسلوبه التربوي الروحي العميق من خلال تلك الأدعية المباركة التي تجلت  فيها فلسفته العميقة، وتوجيهاته التي تساعد على تكوين الشخصية الربانية؛ بأرفع المقاييس، وأرقى المستويات.. سواء فيما يتعلق بعلاقة الإنسان بربه ، أو علاقة الإنسان بالإنسان.. والتي جمعها بنفسه لتعرف فيما بعد بـ (الصحيفة السجادية).

وسنقف هنا مع بعض محطاتها التربوية:

(1)

يخصص الإمام زين العابدين عليه السلام في صحيفته دعاءً خاصاً لرسول الله صلى الله عليه وآله.. باعتباره المنة الكبرى.. التي امتن الله بها على هذه الأمة دون سائر الأمم..

لكن الإمام عليه السلام.. هنا.. في ذكره لرسول الله ، يختلف عن بقية الوصاف.. الذين تعرضوا لذكر رسول الله، فقد اعتادوا - أي من تكلموا عن رسول الله - أن يذكروا الأوصاف والشمائل.. التي اتصف بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم : من كرم وشجاعة، وحلم .. الخ.. فيأتي الإمام  زين العابدين بلغة راقية وأسلوب جذاب وحركي متجاوز العرض التقليدي لتلك الشمائل المحمدية ليتحدث عن أفعاله صلى الله عليه وآله وسلم .. والتي اتسمت بالحركة المستمرة ، والعمل المتواصل.. وبالتالي عَرَّض نفسه للأذى ، ودفعها للمكروه .. من أجل إعزاز الدين ، وتثبيت الشريعة.... (كَمَا نَصَبَ لاِمْرِكَ نَفْسَهُ، وَعَرَّضَ فِيْكَ لِلْمَكْرُوهِ بَدَنَهُ)..

ويبدوا أن الإمام زين العابدين عليه السلام نحى هذا المنحى في دعائه ؛ ليلفتنا إلى عدة أشياء:

الشيء الأول : ليُشعرنا بتلك المنة الإلهية ، والهبة الربانية .. التي اختصنا بها الله دون سائر الأمم.. ببعثة رسول الله بأن جعلنا من أمته.. وذلك من خلال عرضه لمعاناةِ رسول الله المعاناةِ الشديدة ، ومكابدته الرهيبة من أجلنا نحن.. ليخرجنا من الظلمات إلى النور، ومن الشقاء إلى السعادة.. وبالتالي ، نقدر تلك النعمة ، ونستعظم تلك المنة .. لنسعى لأداء شكرها من خلال الاقتفاء بأثره ، والسير بسيرته.. (وَالْحَمْدُ للهِ الَّذِي مَنَّ عَلَيْنَا بِمُحَمَّد نَبِيِّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ دُونَ الاُمَمِ الْمَاضِيَةِ وَالْقُـرُونِ السَّالِفَةِ بِقُدْرَتِهِ الَّتِي لاَ تَعْجِزُ عَنْ شَيْء وَ إنْ عَظُمَ، وَ لا يَفُوتُهَا شَيءٌ وَإنْ لَطُفَ، فَخَتَمَ بِنَا عَلَى جَمِيع مَنْ ذَرَأَ وَ جَعَلَنَا شُهَدَاءَ عَلَى مَنْ جَحَدَ وَكَثَّرَنا بِمَنِّهِ عَلَى مَنْ قَل).

الشيء الثاني : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قدوة عملية .. وليس فقط شمائل تُزين بها المجالس ، وتستعرض بها الخطب .. دون واقع يجسد ، وحياة تمثل.. فمن يقتدي برسول الله.. فهو يتحرك بحركته ، ويسعى بسعيه .. من أجل إرساء الهدى، وإعزاز الدين..

أضف إلى ذلك .. أنه يضع أنموذجاً عملياً للدعاة إلى الله ، وأن الدعوة إلى الله ليست راحة ودعةً بقدر ما هي عناءٌ ومشقة من خلال ما سيواجهه الداعية  من مختلف المصاعب ، وشتى المتاعب .. وبالذات من ذلك الكيد الذي  سيجدها من الأقارب والأباعد الذين سيقفون تجاه دعوته..(وَكَاشَفَ فِي الدُّعَآءِ إلَيْكَ حَامَّتَهُ وَحَارَبَ فِي رِضَاكَ أسْرَتَهُ وَقَطَعَ فِىْ إحْياءِ دِينِكَ رَحِمَهُ وَاقصَى الادْنَيْنَ عَلَى جُحُـودِهِمْ، وَقَرَّبَ الاقْصَيْنَ عَلَى اسْتِجَابَتِهِمْ لَكَ وَ والَى فِيكَ الابْعَدِينَ، وَعَادى فِيكَ الاقْرَبِينَ، وَأدْأبَ نَفْسَهُ فِي تَبْلِيغِ رِسَالَتِكَ وَأَتْعَبَهَا بِالدُّعآءِ إلَى مِلَّتِكَ وَشَغَلَهَا بِالنُّصْحِ لاَِهْلِ دَعْوَتِكَ..).

الشيء الثالث : أن الأخلاق الفاضلة التي يرتفع بها الإنسان إلى ذروة العلياء.. لا تترسخ إلا من خلال الحركة المستمرة ، والعمل المتواصل  من أجل الله ، لأن من لا يتحرك تكون مداخل الشيطان عليه كثيرة ، لكونه خالي البال ، قليل العمل.. بينما الذي يتحرك تكون مداخل الشيطان عليه قاصرة ، ونفوذه أقل .. وذلك لأن المتحرك في سبيل الله يكون قد وجه فكره وعمله إلى اتجاه واحد ، وهو السعي لإرضاء الله بما لا يدع مجالاً لأي فكر آخر، وعمل آخر قد يستولي على فكره ، ويسيطر على عمله.. وهذا ما يظهر من قوله عليه السلام (اللَهُمَّ فارْفَعْهُ بِمَا كَدَحَ فِيكَ إلَى الدَّرَجَةِ الْعُلْيَا مِنْ جَنَّتِكَ..).

(2)

الإمام زين العابدين في دعائه (لأهل الثغور) يرسم رؤية متكاملة عن حيثيات النهوض في وجه أعداء الدين ، وإن بثها هنا على شكل دعاء ومناجاة .. لكنها لم تغفل الجانب التربوي والمنحى الإرشادي ..

ولن نأتي على جميع دعائه لأهل الثغور.. ولكن نقتبس منه بعض الملامح .. التي ترسم المنهجية المؤثرة في جهاد أعداء الله ، والوقوف في وجه الظالمين ..

فمن يقف في وجه أعداء الله لا بد له في أولى خطواته أن يرسم أهدافاً حقيقية لثورته.. والتي لا بد أن ترتبط بذات الله من إعلاء كلمته ، وإرساء دينه ، ونشر العدل ، وقمع الظلم..

والهدف – بطبيعته – هو من يحدد منهجية العمل ، وخطوات التنفيذ ، وآلية التعامل..

فإذا خرجت الأهداف عن نطاق الله فإن الخلل سرعان ما سيظهر في المنهجية ، وتبدوا الشخصنة  في ملامح التحرك ، بما يضرب الثقة في قلوب الناس.. وبالتالي يصير الواقع غير مهيأ لنجاح الثورة..

ولهذا.. نلاحظ الإمام زين العابدين بدأ بذكر الأهداف التي لا بد أن تكون لمن يقف في وجه الظالمين (وَأَيُّمَا غَاز غَزَاهُمْ مِنْ أَهْلِ مِلَّتِكَ أَوْ مُجَاهِد جَاهَدَهُمْ مِنْ أَتْبَاعِ سُنَّتِكَ لِيَكُونَ دِينُكَ الاعْلَى وَحِزْبُكَ الاقوَى).

فإذا ما ارتسمت هذه الأهداف الربانية فإن الواقع مرتهن بهذه الأهداف ، لأنها سترسم الثقة في القلوب ، وتوجد الهمة في النفوس.. بما يجعلُ الواقع مهيأً لحركته ، ومُيسراً لخطواته..

إِنْ مِنْ جهة الناس.. فهم على قسمين:

- الذين يقفون معه في أرض المواجهة .. فهم من يحملون نفس التوجه ، وذات الأفكار بما يتولد معها حركة واحدة ذات توجه قوي ومنظم  (وَتَخَيَّرْ لَهُ الاصْحَابَ)..

- والذين لم يكونوا معه في أرض المواجهة.. فهم قوة له ، لأنهم سيرفدون من الناحية الإعلامية ، والتأييدية بما يقوي ظهره (وَاسْتَقْوِ لَهُ الظَّهْرَ).

وإِنْ مِنْ جهة المادة .. فإن الناس إذا لمسوا الأهداف الربانية.. فإنهم سرعان ما يتسابقون لدعم تلك الحركة بسخاءٍ كبير..

ومن هنا.. يكون الواقع أكثر تهيئة لتحقيق أهم مصدرين من مصادر القوة وهما :

 

التأييد الشعبي ، ووجود المادة ..

ولهذا الإمام زين العابدين يردف بعد ذكر الأهداف الربانية.. ما يترتب عليه من تهيئة الواقع.. (فَلَقِّهِ الْيُسْرَ، وَهَيِّئْ لَهُ الامْرَ، وَتَوَلَّهُ بِالنُّجْحِ، وَتَخَيَّرْ لَهُ الاصْحَابَ، وَاسْتَقْوِ لَهُ الظَّهْرَ، وَأَسْبِغْ عَلَيْهِ فِي النَّفَقَةِ).

ثمّ يردف الإمام زين العابدين دعاءه بالصفات العملية.. التي لا بد أن تُتخذ بعد صياغة الأهداف ، وتهيئة الواقع ، وإكمال مسيرة الجهاد لتحقيق تلك الأهداف المرجوة.. (وَمَتِّعْهُ بِالنَّشَاطِ، وَأَطْفِ عَنْهُ حَرَارَةَ الشَّوْقِ، وَأَجِرْهُ مِنْ غَمِّ الْوَحْشَةِ، وَأَنْسِهِ ذِكْرَ الاهْلِ وَالْوَلَدِ وَأَثُرْ لَهُ حُسْنَ النِّيَّةِ وَتَوَلَّه بِالْعَافِيَةِ، وَأَصْحِبْهُ السَّلاَمَةَ، وَأَعْفِهِ مِنَ الْجُبْنِ، وَأَلْهِمْهُ الْجُرْأَةَ وَارْزُقْهُ الشِّدَّةَ وَأَيِّدْهُ بِالنُّصْرَةِ، وَعَلِّمْهُ السِّيَرَ وَالسُّنَنَ، وَسَدِّدْهُ فِي الْحُكْمِ، وَاعْزِلْ عَنْهُ الرِّياءَ، وخَلِّصْهُ مِنَ السُّمْعَةِ وَاجْعَلْ فِكْرَهُ وَذِكْرَهُ وَظَعْنَهُ وَإقَامَتَهُ فِيْكَ وَلَكَ).

(3)

يشير  الإمام زين العابدين عليه السلام: في دعائه (دفع كيد الأعداء ورد بأسهم) إلى أن الظالمين لا ينتهي جبروتهم إلا على ذروة الاستطالة ، وقوة الملك .. وفي حالةٍ يصبح التفكير في هلاكهم ضرباً من الخيال، واعتقاد فنائهم نوعاً من المحال..

وبالتالي ، كلما اشتد ملكهم ، وقوي نفوذهم ، واستحكمت سيطرتهم كان أجلهم أقرب ، وموعدهم أحين ..

ومن هنا يقول عليه السلام ذاكراً نعمة الله عليه في استنقاذه من عدوه : (ثُمَّ فَلَلْتَ لِيَ حَدَّهُ، وَصَيَّرْتَهُ مِنْ بَعْدِ جَمْع عَدِيْد وَحْدَهُ) (فَانْقَمَعَ بَعْدَ اسْتِطَالَتِهِ ذَلِيلاً) ..

 فهلاك الظالم كان بعد أن كان ذا قوة ، وجمع عديد ، واستطالة .. لأن هلاك الظالمين يصاحب ذروة القوة ، وقمة الملك ..

وهذه النظرة للإمام زين العابدين عليه السلام نظرةٌ استقاها من كتاب الله الذي يعرض حال الأمم الماضية ، والحكام الظالمين ، وكيف كانت نهايتهم .. بالإضافة إلى ذلك الواقع الذي عاشه الإمام آنذاك ، ورأى فيه أولئك الظالمين الذين انتهى ملكهم ، وتهاوت عرشهم ، وهم في ذروة الملك ، وقمة السيطرة ..

وتلك هي النتيجة الطبيعة لهذه الحياة ، لأن الارتفاع إذا بلغ الذروة ، لم يبق معه إلا السقوط   ومن هنا .. إذا رأى الإنسان أياً من الممالك ، أو الامبراطوريات ، أو الدول ، أو الحكام..ألخ  قد بلغوا ذروة الحضارة ، وقمة السيطرة ، وغاية التكبر .. فمن البساطة  أن يتنبأ أن تلك  قد أوشكت على السقوط ، وقاربت على الانتهاء ، كما قال الله (حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ )..

ومن خلال ذلك يتضح مقياس العزة والذلة .. والَّذَينِ لا يرتسمان بكثرة المال ، وقوة النفوذ .. بقدر ما يرتسمان بالمعنى الذي يحمله الإنسان في داخله ..

فإذا كان الإنسان يحمل بداخله معانٍ مقدسةً ، وقيماً ربانية ، فإنه يحمل العزة بكل مقوماتها ، وإن ظهر أنه ذليلٌ  لسيطرة أعدائه عليه ..

وبالمقابل .. فمن يحمل بداخله ، خبث الشيطان ، ومعاني الشر ، فإنه يحمل الذلة وإن رأى أنه عزيزٌ لأنه يملك القوة المادية ..  لأنه يكون معرضاً لضربة الله القاسية ، وهلاكه المتوقع ..

وهذا ما أشار إليه الإمام زين العابدين بقوله : (لَمَّا رَأَيْتَ يَا إلهِي تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ دَغَلْ سَرِيرَتِهِ، وَقُبْحَ مَا انْطَوى عَلَيْهِ، أَرْكَسْتَهُ لاِمِّ رَأْسِهِ فِي زُبْيَتِهِ، وَرَدَدْتَهُ فِي مَهْوى حُفْرَتِهِ، فَانْقَمَعَ بَعْدَ اسْتِطَالَتِهِ ذَلِيلاً فِي رِبَقِ حِبالتِهِ...)

ففساد الضمير ، وقبح السريرة هي التي ترسم الأجل ، وتكشف العاقبة لنهاية الظالم البشعة .. والتي تجعل كل إمكانياته التي كان يسخرها لقمع الضعفاء ، وقتل الأبرياء مردوة عليه ، ومسخرة ضده ..

وهذا ما أشار إليه الإمام عقيب ما تقدم من دعائه : ( فَانْقَمَعَ بَعْدَ اسْتِطَالَتِهِ ذَلِيلاً فِي رِبَقِ حِبالتِهِ الَّتِي كَانَ يُقَدِّرُ أَنْ يَرَانِي فِيهَا، وَقَدْ كَادَ أَنْ يَحُلَّ بِيْ لَوْلاَ رَحْمَتُكَ مَا حَلَّ بِسَاحَتِهِ).

 

(4)

يعتبر دعاء (يوم عرفة) من أطول أدعية الصحيفة السجادية .. التي صاغها الإمام زين العابدين عليه السلام بعاطفته الجياشة ، وقلبه المتوقد.. ليجمع فيها بين التربية والدعاء ، والإرشاد والمناجاة .. والذي يبدو أنه انجذب بكل حواسه ، وانشد بكل مشاعره ..في تلك اللحظات التي تُعتبر من أفضل لحظات التجلي عند الإمام زين العابدين عليه السلام..ليبث شكواه لمولاه ، ويبعث حزنه إلى خالقه .. حتى نسي نفسه ، وغفل ذاته ، ولم يعد يشعر بشيء من حوله سوى ما يسيطر على قلبه من ذلك الحب المطلق ، والعشق الشديد..

ولن نأتي هنا على كل دعائه ..التي ترسم فلسفته فيما يتعلق بأبعاد الحج وغاياته ..

لكن يكفي أن نشير هنا إلى قضية مهمةٍ ، أشار إليها الإمام زين العابدين عليه السلام بشكل مباشر ومركز ، باعتبارها أهم مفصل يمس وجود المسلمين ، إن لم تكن هي الأساس ..التي ترسم بقاء المسلمين من فنائهم ، وعزهم من ذلهم ..

وتلك هي قضية : اختيار ولاة الأمر .. فيما يتعلق بمؤهلاته ، وصفاته ، ومن يكون..

وخصوصاً أن الإمام زين العابدين عليه السلام عاش في مرحلة غاب فيها الولاة الشرعيون ، ليتبؤَ العرشَ حكامٌ متسلطون ، انتهكوا الحرمات ، واستولوا على الحقوق ..

وبالتالي .. استطاعوا من خلال حكمهم أن يرسخوا في الوسط الإسلامي ثقافةً منحرفة ، مفادُها تغييب القضية الأساسية  فيما يتعلق بمؤهلات الوالي الشرعي ..الذي اقتضته الحكمة الربانية ، ورسمتها الشريعة الإسلامية ..ليكتفوا بتلك المؤهلات الطبيعية من كونه ذكراً ، ومن نفس البلد ولادةً ونشأة ....ألخ ..ومن ثَمَّ الاختيار عن طريق الترشيح ، أو الوراثة ..

وأعرضوا صفحاً عن المؤهلات العلمية ، والمعرفية ، والإيمانية ..التي لابد أن تتوفر في الحكام ، أو الرؤساء ، أو الملوك ... ألخ.

وكذلك ماهية التكاليف التي تُلقى على عاتقهم ، وتختص بإمرَتِهم .. وقد حصروها خارج نطاق الإسلام ، وغايات الشريعة ..

ولأن الإمام زين العابدين عليه السلام يُدرك ما مدى الخطورة في أن يعيش الناس أمثال هذه الثقافة التي تمس كيان الإسلام ، ووجود المسلمين .. فقد وجد في هذا اليوم – الذي يجتمع فيه المسلمون من كل أقطار الأرض – فرصةً لأن يردهم إلى النهج الأصيل، والنبع الصافي ، عن طريق عرضه لرؤية الإسلام ، وهدي خيرالإنام ..

وتفادياً للتطويل في عرض هذه المسألة .. نترك القارئ الكريم  يتجول في ثنايا المناجاة ويتلمس الحقيقة الربانية ..فيما يتعلق بمؤهلات ولاة الأمر ، وصفاتهم ، والتكاليف المُلقاة عليهم ، وواجب الناس تجاههم..

قال عليه السلام : (أللَّهُمَّ إنَّكَ أَيَّدْتَ دِينَكَ فِي كُلِّ أَوَان بِإمَام أَقَمْتَهُ عَلَماً لِعِبَادِكَ وَّمَنارَاً فِي بِلاَدِكَ، بَعْدَ أَنْ وَصَلْتَ حَبْلَهُ بِحَبْلِكَ، وَجَعَلْتَهُ الذَّرِيعَةَ إلَى رِضْوَانِكَ، وَافْتَرَضْتَ طَاعَتَهُ، وَحَذَّرْتَ مَعْصِيَتَهُ، وَأَمَرْتَ بِامْتِثَالِ أَمْرِهِ وَالانْتِهَآءِ عِنْدَ نَهْيِهِ، وَأَلاَّ يَتَقَدَّمَهُ مُتَقَدِّمٌ، وَلاَ يَتَأَخَّرَ عَنْهُ مُتَأَخِّرٌ، فَهُوَ عِصْمَةُ اللاَّئِذِينَ، وَكَهْفُ الْمُؤْمِنِينَ، وَعُرْوَةُ الْمُتَمَسِّكِينَ، وَبَهَآءُ الْعَالَمِينَ. أللَّهُمَّ فَأَوْزِعْ لِوَلِيِّكَ شُكْرَ مَا أَنْعَمْتَ بِهِ عَلَيْهِ، وَأَوْزِعْنَا مِثْلَهُ فِيهِ، وَآتِهِ مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً، وَافْتَحْ لَهُ فَتْحاً يَسِيراً، وَأَعِنْهُ بِرُكْنِكَ الاعَزِّ، وَاشْدُدْ أَزْرَهُ، وَقَوِّ عَضُدَهُ، وَرَاعِهِ بِعَيْنِكَ، وَاحْمِهِ بِحِفْظِكَ، وَانْصُرْهُ بِمَلائِكَتِكَ، وَامْدُدْهُ بِجُنْدِكَ الاَغْلَبِ وَأَقِمْ بِهِ كِتَابَكَ وَحُدُودَكَ، وَشَرَائِعَكَ وَسُنَنَ رَسُولِكَ صَلَوَاتُكَ اللَّهُمَّ عَلَيْهِ وَآلِهِ، وَأَحْيِ بِهِ مَا أَمَاتَهُ الظَّالِمُونَ مِنْ مَعَالِمِ دِينِكَ، وَاجْلُ بِهِ صَدَأَ الْجَوْرِ عَنْ طَرِيقَتِكَ، وَأَبِنْ بِهِ الضَّرَّآءَ مِنْ سَبِيلِكَ ، وَأَزِلْ بِهِ النَّاكِبِينَ عَنْ صِرَاطِكَ، وَامْحَقْ بِهِ بُغَاةَ قَصْدِكَ عِوَجاً، وَأَلِنْ جَانِبَهُ لاِوْلِيَآئِكَ، وَابْسُطْ يَدَهُ عَلَى أَعْدَائِكَ، وَهَبْ لَنا رَأْفَتَهُ وَرَحْمَتَهُ وَتَعَطُّفَهُ وَتَحَنُّنَهُ ...) ألخ.