مبحث مفيد في مسألة القضاء والقدر

السؤال

لدي سؤال عن التخيير والتسيير للإنسان ومسألة القضاء والقدر !! وما صحة وجواز القول من عدمه؛ « قدر الله وما شاء فعل» وأيضاً القول : اللهم لا أسألك رد القضاء ولكن أسألك اللطف فيه» وهل هناك اختلاف في الرد بين المذاهب ؟! جزاكم الله خيراً..

 

 

الإجابة: 

الجواب وبالله التوفيق :
القضاء والقدر من المسائل الشائكة التي ينبغي على الإنسان أن يتثبت فيها و ينظر فيها بإنصاف وتمعنٍ ليهديه الله فيها إلى الحق والصواب فعلى الإنسان أن يسلك فيها إحدى طريقتين :
الطريق الأول : الإيمان الجملي بحكمة الله و رحمته وأنه لا يظلم مثقال ذرة وأن أفعاله كلها حكمة فيرضى بقضاء الله و قدره و حكمه ، وأنه قد ترك للإنسان حرية الاختيار ﴿فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ﴾ ، وعلى هذا يحمل ما روي أن الرسول صلى الله عليه واله وسلم مر على قوم يخوضون في القدر فنهاهم عن ذلك.
الطريق الثاني : أن يكون الإنسان من أهل التعلم والمعرفة والقدرة على فهم الأدلة و معرفة التفاصيل ، فعليه البحث عن هذه المسألة وأمثالها من المسائل الأصولية التي تتعلق بمعرفة الخالق جل شأنه ومسألة القضاء والقدر من أهم المسائل المتعلحقة بالعدل الإلهي ، والخلاصة في المسألة : أن الله خلق الإنسان وأعطاه القدرة على الأفعال والتروك وأعطاه عقلاً يدله على الحسن والقبيح ﴿أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ﴾ ، ﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَاْ﴾ ، ثم لم يكتف سبحانه بذلك بل أرسل اليه الرسل وأنزل عليه الكتب ودله على طريق الخير والشر و بين له ماهي الحكمة من خلقه ، فقال: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ ، و العبادة إنما هي سبب للثواب وإلا فليس لله حاجة في عبادة الإنسان ، وإنما ليبلو الإنسان و يختبره ليتميز الخبيث من الطيب : ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيراً﴾ ، وجعل الله في الإنسان شهوات تدعوه إلى إشباعها، و إشباعها قد يكون في الحلال وقد يكون في الحرام ، ثم ترك الله للإنسان حرية اختيار أفعاله والقيام بما يحب سواء كانت خيراً أو شراً ﴿فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ﴾ وهيأ الخالق سبحانه هذا العالم ليكون ساحة الامتحان والاختبار، وجملة ما يدور في هذا العالم على أقسام :
الأول : أعمالك التي جعلك الله قادراً عليها و مسئولاً عنها ولك الاختيار في تحديدها و إيجادها وهي الأفعال الاختيارية التي كلفك الله بها فعلاً أو تركاً : كالصلاة والصيام و الزنا و السرقة.
والثاني : ما هو خارج عن قدرة الإنسان وتصرفاته بل هو من فعل الخالق جل و علا كخلق الأجسام و إنزال الأمطار والأرزاق وغيرها من كل ما يدور في هذا الكون من أفعال الله و تدبيره لمخلوقاته فهو من الخالق جل شأنه كما قال تعالى : ﴿وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًاْ ﴾ وقد تكون هذه الأشياء من الله ابتداء كالحسنة ، وقد تكون عقاباً على بعض معاصي الإنسان فيكون الإنسان هو المتسبب فيها فيصح نسبتها إليه باعتبار أنه المتسبب كما قال تعالى : ﴿مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ ﴾ أي بسبب عصيانك ، والمراد بالسيئة الخوف والقحط و نحوها وليس المعصية.
الثالث : ما ليس من الخالق جل شأنه ولا من الإنسان نفسه بل من غيره من المخلوقين كما يقع على الإنسان من ظلم أو قتل أو نحو ذلك .
فالقسم الأول الذي هو من أفعال الله تعالى يطلق عليه أنه بقضاء الله وقدره بلا إشكال كما قال تعالى : ﴿فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنْ ﴾، ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ﴾ وكما ورد عن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم في أركان الإيمان : ( وأن تؤمن بالقضاء خيره وشره ) ، وفي الحديث القدسي : (من لم يرض بقضائي ويصبر على بلائي فليتخذ له رباً سواي ).
وأما القسم الثاني : وهو أفعال الإنسان التي يحاسب عليها و يتحمل مسئوليتها كالصلاة والزكاة والزنا والسرقة فلا يصح أن نطلق أنها بقضاء الله و قدره ؛ لأن العبارة توهم الجبر وأن الإنسان غير مختار فيها ، وهذا يجعل العقاب والثواب عليها ظلماً وخارجاً عن الحكمة ، وهذا لا يعني أن الله سبحانه ليس له أي تدخل في هذه الأفعال بل له تدخل غير مباشر بمعنى أن هذا التدخل لا يسلب الإنسان الحرية والاختيار سواء في جانب الخير أو في جانب الشر إلا أن التدخل في جانب الخير قد يكون ابتداء من الله كما قال تعالى : ﴿إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَىْ﴾ ﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىْ﴾ ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ ويسمى الهدى الأول.
وقد يكون بسبب تقبل الإنسان للهدى الأول واستجابته لله فيسمى الهدى الثاني كما قال تعالى : ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًىْ﴾، ﴿وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ﴾ فيسمى التدخل الالهي غير المباشر هدايةً و لطفاً و توفيقاً ، وأما التدخل غير المباشر والذي لا يسلب الإنسان الحرية والاختيار في جانب الشر فلا يكون من الخالق سبحانه ابتداء بل يكون بسبب إعراض الإنسان عن الهدى الأول و تكذيبه به وعصيانه لخالقه و مخالفته لهداه فيستحق من الله الخذلان وأن لا يمده بالألطاف والعون والرعاية التي يمد بها المؤمن فيسمى خذلاناً و إضلالاً و غيرها من العبارات التي ورد بها القرءان الكريم.
وأما القسم الثالث : وهو أفعال الآخرين التي تقع عليك ، فلها جهتان :
جهة باعتبار فاعلها كالقاتل والزاني و نحوه وهذه حكمها كالقسم الثاني لا يجوز إطلاق القضاء والقدر عليها من هذه الجهة.
الجهة الثانية : جهة الشخص الذي وقعت عليه كالمقتول والمظلوم مثلاً ، فمن جهته قد يطلق أنها ابتلاء من الله أو أنها بإذن الله أو أنها بقضاء الله و قدره بمعنى أنها بعلمه وأنه خلَّى بين القاتل والمقتول أو بين الظالم والمظلوم ولم يدفع هذا عن الإضرار بهذا مع قدرته وعلمه كما قال تعالى للمؤمنين الخارجين لقتال الكفار: ﴿قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَاْ ﴾، ﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ و كما قال صلى الله عليه وآله وسلم : ( واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك).
الخلاصــة :
إن على الإنسان المؤمن أن يقوم بما هو مكلف به من الأعمال و يجتهد فيما هو تحت قدرته و اختياره ، وما خرج عن قدرته و استطاعته من الأمور فليكلها إلى خالقه وليتوكل عليه وليعلم أنه هو ممن بيده مقاليد السموات والأرض وأنه هو المدبر والمساعد والحامي والناصر والمدافع والرازق ، ويجب أن يرضى بما اختار له أوابتلاه به ويعلم أنه يرعاه و يحوطه ويدبر له جميع شئونه ما دام متمسكاً به ومعتمداً عليه ، فلا يجزع لما أصابه من المحن والابتلاء ولا يفرح بما أعطاه من النعم ويركن إليها ولا يقل: لو أني فعلت كذا لما كان كذا ، أو لو أني فعلت كذا لحصلت على كذا ، بل يثق بالخالق الرازق المدبر ..
واعلم أن ( لو) من عمل الشيطان كما جاء عن المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وكما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ ، فمن لم يذق طعم اليقين والتوكل على الله وتسليم الأمور له عاش في حسرة و ندامة و تعاسة ، ومن دخل قلبه برد اليقين و عرف حقيقة التوكل عليه عاش سعيداً راضياً بما قسمه الله له مطمئناً إلى أن خيرة الله له خير من خيرته لنفسه واثقاً أن ما أصابه بعين الله ، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطاه لم يكن ليصيبه فيعيش حالة الرضى والقناعة والتسليم لخالقه جل شأنه فيحوطه الله بلطفه وعنايته و يكفيه كل هم ..

الدلالات: