مسؤولية القيادة في تقوية مبدأ الرقابة وتفعيل قانون المحاسبة

نشر بتاريخ: اثنين, 19/02/2018 - 9:02م
الكاتب: 

أولاً: أثر العبادات في تعزيز الرقابة

 الإنسان السوي في فطرته وعقله ونفسه وروحه يعي تمام الوعي أن الله خلقه في هذه الحياة لغاية نبيلة وهدف عظيم يتمثل في العبودية الكاملة لله رب العالمين, والعبودية الكاملة لله تعني أن يكون الإنسان في كل شؤون حياته مراقبا لله تعالى على مستوى العبادات والمعاملات,  ومعنى المراقبة في العبادات أن تؤدى بتقوى لكي يقبلها الله قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ﴾ والمتقون هم المراقبون لله الحذرون منه الحريصون على أن تكون أعمالهم ووظائفهم ومهماتهم وفق المسار الذي يحبه الله ويرضاه ,لأن العبادات في الإسلام ليست عبادات مفرغة من المعاني والحكم والمقاصد الروحية التي تجعل الإنسان مرهف الشعور  لها آثارها الروحية وإشراقاتها التربوية في حياة الناس عندما تؤدى بوعي وإخلاص وحب وشوق وبدافع الشعور بالحاجة إليها كعبادات تكليفية تعبدية أمر الله الناس بأن يقوموا بها ويحافظوا عليها ويعطوها حقها من الاهتمام والإقبال بناء على أن فيها المصلحة لهم أنفسهم أما الله فغني عن طاعة الخلائق كلهم كما أخبر هو سبحانه ووجه باستيعاب هذه المسألة بقوله: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ وقال سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ *  وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ﴾ ويشير الإمام علي إلى أن طاعة الطائعين واستقامة المستقيمين ورقابة المراقبين لله كل ذلك إنما يعود بالخير والمنفعة على بني الإنسان أما الله, فلا منفعة له ممن أطاع واستقام وراقب ولا مضرة عليه ممن عصى وانحرف واتبع هواه قال عليه السلام:: فإنّ اللّه سبحانه و تعالى خلق الخلق حين خلقهم غنيّا عن طاعتهم ، آمنا من معصيتهم ، لأنّه لا تضرّه معصية من عصاه و لا تنفعه طاعة من أطاعه, والإنسان المسلم على يقين تام برقابة الله عليه وعلى كل شيئ في هذا الكون قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ وقال عزو جل: ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا﴾ ويوصل الله رسالة قرآنية إلى كل مسلم ومسلمة عبر مخاطبة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم  وكل المؤمنين قال تعالى: ﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾  فالعبادة برهان على التزام الإنسان واستقامته وفقره إلى الله وهي في نفس الوقت تعزز حال التقوى والرقابة وتجعل الحس الإنساني حسا مرهفا ومستشعرا لمعية الله في كل عمل ووظيفة ومهمة قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾. فالعبادة تبعث على الرقابة الذاتية إلا أن الارتقاء الروحي والبناء الإيماني والتاهيل التربوي والتهذيب النفسي يتفاوت بين المسلمين والمسلمات وقليل هم المؤمنون وقلة هم أولئك المراقبون لله الورعون عن محارم الله قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: »إنكَم لو صليتم حتى تكونوا كالحنايا، وصمتم حتى تكونوا كالأوتار، مانفعكم ذلك إلا بورع« فلا خير في عبادة أو تعبد ولا تهجد أو قيام ولا صيام إذا لم يصاحب ذلك مراقبة لله واستفادة من التشريعات والتكاليف العبادية الباعثة على الارتباط بالله والداعية لليقين العميق باليوم الآخر وقد حذر النبي من تلك العبادات السطحية التي لا تنفع أصحابها ولا تهذب طباعهم ولا تكبح جماحهم وتقمع هوى النفس وسقوطها في الامتحان أمام محارم الله المتمثلة في الأموال والأعراض والدماء والفروج قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم  »لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا، قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ، وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ، قَالَ: أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا« فلا بد أن يكون كل مسلم على وعي بأن العبادات لها دور روحي وتربوي في تعميق وغرس الرقابة الذاتية في ضمير ووجدان الإنسان كونها تعزز في الفرد المسلم روحية الشعور الإيجابي باليوم الآخر ولقاء الله مما يسهم في تزكية النفس ومقاومة أطماعها وأهواءها وهذا ما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حين قال لأحد أصحابه: » صل صلاة مودع ترى أنك لا تصلى بعدها أبداً، واضرب ببصرك موضع سجودك حتى لا تعرف من عن يمينك ولا من عن يسارك، واعلم أنك بين يدي من يراك ولا تراه« فالوقوف بتذلل وتضرع وتهيب لله والتوجه إليه بحياء وحب كل يوم خمس مرات يذكر كل مسلم بيوم الوقوف الأكبر للحساب والجزاء على مثقال الذرة وهذا هو ما نقصد به المنطلق الروحي للعبادة والبناء الرقابي الذاتي من خلال أداء العبادات. ونورد هنا نصا عظيما فيما يتعلق بهذا الشأن والذي يتضح من خلاله الترابط الوثيق والتلازم العميق بين العبادة وخدمة الناس والتواضع لهم وقضاء حوائجهم والسعي للقرب منهم وتلمس همومهم وتيسير أمورهم. قَالَ رَسُول اللهِ صَلَّى الله عَلَيه وعلى آله وَسَلَّم: »قَالَ الله تَعَالَى إِنِّي لا أَتَقَبَّلُ الصَّلاةَ إلاَّ مِمَّنْ تَوَاضَعَ بِهَا لِعَظَمَتِي وَلَمْ يَسْتَطِلْ عَلَى خَلْقِي وَلَمْ يَبِتْ مُصِرًّا عَلَى مَعْصِيَتِي وَقَطَعَ نَهَارَهُ فِي ذِكْرِي وَرَحِمَ الْمِسْكِينَ، وَابن السَّبِيلِ وَالأَرْمَلَةَ وَرَحِمَ الْمُصَابَ ذَلِكَ نُورُهُ كَنُورِ الشَّمْسِ أَكْلَؤُهُ بِعِزَّتِي وَأَسْتَحْفِظُهُ مَلائِكَتِي وَأَجْعَلُ لَهُ فِي الظُّلْمَةِ نُورًا وَفِي الْجَهَالَةِ حِلْمًا وَمَثَلُهُ فِي خَلْقِي كَمَثَلِ الْفِرْدَوْسِ فِي الْجَنَّةِ«. (حديث قدسي)

 فمن الأهمية بمكان أن يكون هناك برنامج توعوي وتربوي ودورات روحية للموظفين تساعدهم على مقاومة هوى النفس ومواجهة أطماعها وأنانيتها وغفلتها وطبعها الأمّار بالسوء الميال لنيل الشهوات

ثانياً: مسؤولية القيادة في تقوية مبدأ الرقابة وتفعيل قانون المحاسبة

القيادة العادلة والإيمانية المرتبطة بالقرآن الارتباط الواعي والعملي تتعامل مع عمالها وموظفيها وأركان دولتها وحتى المقربين منها التعامل المرتكز على القيم والقوانين وتجعل من القانون حاميا للقيم الإسلامية ومن القانون العادل عونا للمجتمع على الاستقامة والرقي وعمارة الحياة وحفظ الحقوق وأداء الأمانات وفهم سر الوجود وطبيعة الاستخلاف في الحياة وفق هذه القيم والقوانين الحاكمة.

إن القيادة العادلة والحكيمة هي التي تأسر العقول بصفاتها القيادية وعطاءها التنويري والتربوي والروحي ومع هذا العطاء القيمي للقيادة تكون الرقابة والتقييم والمتابعة المسؤولة والجادة, وتترافق مع التوعية والبناء الروحي للعمال أو الموظفين إجراءات زاجرة ورادعة تكون عونا للموظف والعامل على الانضباط وتقديم الخدمة للمجتمع بوازع ديني أو قيمي أو بدافع من الشعور بالمسؤولية والوعي بخطورة التقصير أمام الله وكذلك حذرا من مساءلة ومحاسبة القيادة المعنية والمسؤولة أمام الله وأمام الشعب بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإعانة المحسن ومواجهة تجاوزات المسيئين وعبث الفاسدين قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: »لا قدست أمةٌ لا تأمر بمعروفٍ، ولا تنهى عن منكرٍ، ولا تأخذ على يد الظالم، ولا تعين المحسن، ولا ترد المسيء عن إساءته«. فكل مسيئ ومفسد يجب أن يرتدع ويؤدب ويشعر بإساءته وجرمه  وفساده وتلاعبه إن سولت له نفسه التلاعب أو التحايل على مال الأمة العام أو الخاص بعيدا عن المحاباة والمداهنة وإلا فلا قداسة ولا هيبة لهذه الأمة ولن يكون لوجود القيادة أي قيمة وأثر إذا لم يصاحب التوعية والتنوير التعامل العادل والرادع لكل من لم يؤثر فيه التذكير والتنوير والتحذير ولكل من تسول له نفسه الإساءة أو الفساد ومن النماذج والتجارب التاريخية في التاريخ الإسلامي تجربة الإمام علي عليه السلام في الحكم الذي صحح ما فسد وعدل ما اعوج وأعاد الحق والحقوق إلى نصابها ووزن الأمور بميزان الله  وسنذكر بعضا من تعامله السياسي والإداري العادل والحازم والصارم و الفريد مع عمال دولته هذا التعامل الذي يعتبر دستورا فريدا للحياة ومنهجا لإصلاحها ومصدرا للنهوض بها ومعالجة اختلالاتها وسنذكر صورا راقية ونماذج عظيمة يمكن لكل قيادة ونظام أن يستفيد منها ويسقطها على نظامه الإداري ويجعلها قانونا حاكما لإصلاح الاختلالات والفساد المستشري في مرافق الدولة ومؤسساتها  ومن التجارب السياسية القابلة للتطبيق في الرقابة والضبط والمساءلة ما يلي:

التحذير ثم العزل وسحب الصلاحيات

نجد الإمام عليا عليه السلام مثالا عظيما للقيادة والقدوة و التعامل الرقابي والإداري فبعد أن يستخدم أسلوب النصح والتحذير المسبق لعماله ينتقل إلى التعامل بشدة مع أي خيانة أو ظلم قد يصدر من عماله ومن صور الإجراءات الشديدة هذا الرسالة التي أسلها إلى أحد عماله قائلاً: »وَ إِنِّي أُقْسِمُ بِاللَّهِ قَسَماً صَادِقاً لَئِنْ بَلَغَنِي أَنَّكَ خُنْتَ مِنْ فَيْ ءِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئاً صَغِيراً أَوْ كَبِيراً لَأَشُدَّنَّ عَلَيْكَ شَدَّةً تَدَعُكَ قَلِيلَ الْوَفْرِ ثَقِيلَ الظَّهْرِ ضَئِيلَ الْأَمْرِ وَالسَّلَامُ«.

إن المتأمل لهذا النص العلوي يجده متضمنا للكثير من الضوابط الحازمة لتجاوزات العمال والولاة وفسادهم الذي قد يحصل فيشعر هذا العامل بخطورة وفداحة ما قد ارتكبه وإعلامه بأنه لن يتهاون مع أي خيانة قام بها من خلال استهلاله بالقسم ومن خلال التهديد والوعيد على جريمة الخيانة على مستوى الدنيا والآخرة إلا أن العقاب الإلهي للخيانة وإن كان هو الأشد والأبقى فلا يسقط  الإجراء العقابي والتأديبي لأي خائن يجب أن يكون له حضور وفاعلية في الدنيا للحفاظ على مصالح العباد والبلاد وتحصين الأمة من خلال إنزال الإجراءات العقابية وتفعيلها.

ومن هذه الإجراءات العملية الكفيلة بزجر ذوي الأهواء ما يلي:-

إنذار العامل أو الموظف وإشعاره بأنه تحت عين الوالي ومتابعته الدائمة وأن أي خيانة صغيرة كانت أو كبيرة للشعب فهي مسجلة ومحسوبة ولن تمر مرور الكرام بل سيترتب عليها بعد الإنذار والإعذار إجراء عملي يحد من هذه التجاوزات ويوقف مثل هكذا خيانة للأمة.
إذا لم يعتدل العامل ويصحح أخطاءه ويقمع هواه ويعدل من سلوكه فسيكون التعامل الشديد مع الموظف أو العامل من خلال سلب الصلاحية ومصادرة الأموال التي حصل عليها وإسقاط منزلته أمام الرعية والتي حصل عليها عبر الوظيفة العامة فهذا الأسلوب العلوي هو أحد ركائز الدولة العادلة وهو الذي لم يبق للإمام صاحبا وهكذا هو حال من يريد إقامة العدل وإعادة الاعتبار للإسلام والقوانين والقيم وتصحيح صورته الراقية والعادلة.

تحذير العمال من المال الحرام

وصل إلى الإمام علي خبر مفاده أن أحد قضاته واسمه شريح بن الحارث اشترى دارا فأرسل إليه خطابا شفافا وشديد اللهجة قائلاً له: »يَا شُرَيْحُ : أَمَا إِنَّهُ سَيَأْتِيكَ مَنْ لَا يَنْظُرُ فِي كِتَابِكَ وَلَا يَسْأَلُكَ عَنْ بَيِّنَتِكَ حَتَّى يُخْرِجَكَ مِنْهَا شَاخِصاً وَيُسْلِمَكَ إِلَى قَبْرِكَ خَالِصاً فَانْظُرْ يَا شُرَيْحُ لَا تَكُونُ ابْتَعْتَ هَذِهِ الدَّارَ مِنْ غَيْرِ مَالِكَ أَوْ نَقَدْتَ الثَّمَنَ مِنْ غَيْرِ حَلَالِكَ فَإِذَا أَنْتَ قَدْ خَسِرْتَ دَارَ الدُّنْيَا. وَ دَارَ الْآخِرَةِ«.

يمكن لكل حاكم ووال وإمام من أئمة المسلمين أن يستفيد من هذا النص والذي قبله في تفعيل مبدأ الرقابة والمحاسبة معا الرقابة على العاملين في السلك الإداري أو القضائي والتعامل مع أي مستجد من قبلهم التعامل الواعي والعادل والحازم وفي هذه النص العلوي عدة إشارات هامة منها:

الرقابة العلوية الدائمة والمستمرة التي يمكن من خلالها تقييم حركة العمال وطبيعة عملهم
يتميز الحاكم العادل بالمتابعة والاطلاع على أداء كل موظف قدر المستطاع وأي حركة مريبة يقع فيها الموظف فإنه سيجد الحاكم يحاسبه عليها
الحاكم العادل يشعر الموظف بالسخط الشديد عند احتمال تناول الموظف للمال الحرام فكيف لو كان الأمر يقينا فمن تمتد يده للمال العام يجب أن يؤدب ويزجر هكذا تكون السياسة العادلة والحازمة للوالي يغضب لله لا لنفسه وهذا ما يجب أن تكون عليه كل قيادة.
المال الحرام سبب مباشر لسقوط الإنسان في الدنيا وخسرانه في الآخرة فمهما حاول ذلك الموظف الناهب أ السالب والمحتال على مال الأمة أن يظهر بمظهر الورع والزهد والصلاح فإن أمره سينكشف وخيانته ستفضحه وتلاحقه إلى يوم القيامة كما أشار الإمام إلى هذه الحقيقة بقوله لشريح: (فَانْظُرْ يَا شُرَيْحُ لَا تَكُونُ ابْتَعْتَ هَذِهِ الدَّارَ مِنْ غَيْرِ مَالِكَ أَوْ نَقَدْتَ الثَّمَنَ مِنْ غَيْرِ حَلَالِكَ فَإِذَا أَنْتَ قَدْ خَسِرْتَ دَارَ الدُّنْيَا وَ دَارَ الْآخِرَةِ).

 

الرقابة على ولائم الولاة

لم يكتف الإمام علي بالرقابة المالية والرقابة القضائية بل وصل الاهتمام الرقابي على عمال دولته والموظفين تحت ولايته وقيادته إلى مراقبة مأكلهم وولائمهم فحين وصله تقرير مفاده أن عامله على البصرة عثمان بن حنيف الأنصاري قد دعي إلى وليمة قوم فكتب إليه قائلاً: (أَمَّا بَعْدُ يَا ابْنَ حُنَيْفٍ فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ رَجُلًا مِنْ فِتْيَةِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ دَعَاكَ إِلَى مَأْدُبَةٍ فَأَسْرَعْتَ إِلَيْهَا تُسْتَطَابُ لَكَ الْأَلْوَانُ وَتُنْقَلُ إِلَيْكَ الْجِفَانُ وَمَا ظَنَنْتُ أَنَّكَ تُجِيبُ إِلَى طَعَامِ قَوْمٍ عَائِلُهُمْ مَجْفُوٌّ وَغَنِيُّهُمْ مَدْعُوٌّ فَانْظُرْ إِلَى مَا تَقْضَمُهُ مِنْ هَذَا الْمَقْضَمِ فَمَا اشْتَبَهَ عَلَيْكَ عِلْمُهُ فَالْفِظْهُ وَمَا أَيْقَنْتَ بِطِيبِ وُجُوهِهِ فَنَلْ مِنْهُ). يمكن من خلال هذا النص العلوي استخراج عدة أمور هامة فيما يجب أن يكون عليه الموظف لا سيما ذلك الموظف الذي تبوأ وظيفة حساسة كوزير أو نائب أو كيل أو محافظ أو مدير أو مشرف فكل من تقلد وظيفة من هذه الوظائف وتسمى باسم من هذه المسميات يرشده الإمام علي إلى عدة أمور وضوابط منها

1-الإرشاد إلى عدم الإسراع لتلبية أي دعوة لأصحاب الموائد المغرية والولائم اللذيذة إلا بعد  السؤال عن حالها، والمعرفة بحقيقتها، وطيب مكسبها
2-التحذير من التشبه بالسباع النهمة والتطبع بطباعها عند الأكل والولائم كما قال الإمام عليه السلام (وأكلت أكل ذئب نَهِمٍ أو ضيغم قَرِمٍ) قال الإمام يحى بن حمزة في الديباج: الضيغم: اسم من أسماء الأسد، وسمي بذلك لشدة ضغمه لما يفترسه من الحيوانات، والقرم: شدة شهوة اللحم، وإنما شبهه بهذين الحيوانين؛ لكثرة ولوعهما بأكل اللحوم.
3-يرشد الإمام علي عليه السلام ذوي المراتب العليا في السلم الوظيفي إلى عدم التعاطي الإيجابي والتفاعل مع دعوات الأثرياء الذين يهتمون بتوجيه الدعوة للكبار ويتجاهلون الصغار أو ضعفة الخلق من الفقراء والمساكين يقول الإمام يحى بن حمزة في الديباج الوضي في شرح هذه النص: (وما ظننت أنك تجيب إلى طعام قوم، غنيهم مدعوّ، وفقيرهم مجفوّ): فيه وجهان:

أحدهما: أن يريد أو لم تعلم أنهم في ولائمهم هذه يدعون الأغنياء ويتركون الفقراء، ومن هذه حاله فإن إجابته مكروهة من أجل ذلك.

وثانيهما: أن يكون مراده أنه لا غرض لهم في هذه الولائم إلا الرياء والسمعة والذكر، ومن هذه حاله فإنه لا يجب إجابة دعوته، ولا ينبغي لأحد من أهل الدين حضورها، ولهذا فإنهم يتركون الفقراء ويدعون الأغنياء من أجل ذلك.

4-يدعو الإمام علي العمال الذين قد يضطرون لتلبية دعوة أحد الرعية سواء كان فقيرا أم غنيا إلى الورع و التحري والنظر إلى مال الداعي فإن كان مال الداعي أقرب إلى الحلال فلا مانع من تلبية الدعوة وإن كان العكس فمن اللازم على كل موظف الاعتذار والرفض.

وختاما:علينا جميعا أن نتعامل بورع وترشيد وتقشف في ظل هكذا عدوان وحصار وأن نجعل رقابة الله علينا هي الأولى والأهم وأن نعتبر كل صلاة نتوجه ونتقرب بها إلى الله زادا حقيقيا لتعزيز الرقابة الإلهية وطاقة روحية لليقين باليوم الآخر وأن نحاسب أنفسنا على المستوى الفردي أو الجماعي قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: لا يكون العبد مؤمناً حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة الشريك شريكه، والسيد عبده، ويعلم ما مطعمه، وما مشربه، وما ملبسه أَمِن حلالٍ ذلك أو من حرام، وقال، قال إبليس: ابن آدم إذا نلت منك ثلاثاً فلا أبالي كيف كان حالك: إذا اكتسبت المال من غير حله، وأنفقته في غير حله، أو منعت منه حقه.

وأما الرسالة والبلاغ إلى كل قائد وقيادة وصاحب مسؤولية ومنصب نرسل إلى الجميع هذا النص العلوي الذي يخاطب به كل قائد ومسؤول يقول عليه السلام: (أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَأْمُومٍ إِمَاماً يَقْتَدِي بِهِ وَيَسْتَضِيءُ بِنُورِ عِلْمِهِ أَلَا وَإِنَّ إِمَامَكُمْ قَدِ اكْتَفَى مِنْ دُنْيَاهُ بِطِمْرَيْهِ وَمِنْ طُعْمِهِ بِقُرْصَيْهِ أَلَا وَإِنَّكُمْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ وَلَكِنْ أَعِينُونِي بِوَرَعٍ وَاجْتِهَادٍ وَعِفَّةٍ وَسَدَادٍ فَوَاللَّهِ مَا كَنَزْتُ مِنْ دُنْيَاكُمْ تِبْراً وَلَا ادَّخَرْتُ مِنْ غَنَائِمِهَا وَفْراً وَلَا أَعْدَدْتُ لِبَالِي ثَوْبِي طِمْراً وَلَا حُزْتُ مِنْ أَرْضِهَا شِبْراً وَلَا أَخَذْتُ مِنْهُ إِلَّا كَقُوتِ أَتَانٍ دَبِرَةٍ وَلَهِيَ فِي عَيْنِي أَوْهَى وَأَوْهَنُ مِنْ عَفْصَةٍ مَقِرَةٍ بَلَى كَانَتْ فِي أَيْدِينَا فَدَكٌ مِنْ كُلِّ مَا أَظَلَّتْهُ السَّمَاءُ فَشَحَّتْ عَلَيْهَا نُفُوسُ قَوْمٍ وَسَخَتْ عَنْهَا نُفُوسُ قَوْمٍ آخَرِينَ وَنِعْمَ الْحَكَمُ الله) ويقول عليه السلام لأحد رعيته وقد رأى سعة داره: (مَا كُنْتَ تَصْنَعُ بِسِعَةِ هَذِهِ الدَّارِ فِي الدُّنْيَا وَأَنْتَ إِلَيْهَا فِي الْآخِرَةِ كُنْتَ أَحْوَجَ وَبَلَى إِنْ شِئْتَ بَلَغْتَ بِهَا الْآخِرَةَ تَقْرِي فِيهَا الضَّيْفَ وَتَصِلُ فِيهَا الرَّحِمَ وَتُطْلِعُ مِنْهَا الْحُقُوقَ مَطَالِعَهَا فَإِذاً أَنْتَ قَدْ بَلَغْتَ بِهَا الْآخِرَةَ فَقَالَ لَهُ الْعَلَاءُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَشْكُو إِلَيْكَ أَخِي عَاصِمَ بْنَ زِيَادٍ قَالَ وَمَا لَهُ قَالَ لَبِسَ الْعَبَاءَةَ وَتَخَلَّى عَنِ الدُّنْيَا قَالَ عَلَيَّ بِهِ فَلَمَّا جَاءَ قَالَ يَا عُدَيَّ نَفْسِهِ لَقَدِ اسْتَهَامَ بِكَ الْخَبِيثُ أَ مَا رَحِمْتَ أَهْلَكَ وَ وَلَدَكَ أَ تَرَى اللَّهَ أَحَلَّ لَكَ الطَّيِّبَاتِ وَهُوَ يَكْرَهُ أَنْ تَأْخُذَهَا أَنْتَ أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ قَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَذَا أَنْتَ فِي خُشُونَةِ مَلْبَسِكَ وَجُشُوبَةِ مَأْكَلِكَ قَالَ وَيْحَكَ إِنِّي لَسْتُ كَأَنْتَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَى أَئِمَّةِ الْعَدْلِ أَنْ يُقَدِّرُوا أَنْفُسَهُمْ بِضَعَفَةِ النَّاسِ كَيْلَا يَتَبَيَّغَ بِالْفَقِيرِ فَقْرُهُ) فمن الأهمية بمكان أن يرى الناس ويلمسوا ورع وزهد وقناة الولاة والمسؤولين حتى تكون العلاقة بين الرعية والراعي والرعية وولاة الراعي علاقة إيجابية لا يشعرون بغبن ولا طبقية وازدواجية في مال الله قال الإمام يحي بن حمزة في الديباج: (بضعفة الناس): أهل الفاقة والمسكنة، ويكون في ذلك غرضان:

أحدهما: أن يكون ذلك طريقاً للخلق إلى ترك الدنيا والزهد فيها.

وثانيهما: تهوين الحال على الضعفاء وأهل المسكنة، في التأسي بالأفاضل من الخلق؛ لأن ذلك يهوِّن ما في نفوسهم من الفقر والحاجة، فإذا ضاقت عليه المسالك كان له أن يقول: هذا الإمام على عظم قدره، وارتفاع خطره عند الله على مثل حالتي، فيسكن عند ذلك جزعه وتطمئن نفس.

فلا بد من تحويل هذه النصوص العلوية إلى سلوك عملي وقانون يتربى عليه كل مسؤول وقائد ومدير حتى يكون للولاء العلوي حضوره الفعلي والمثمر في ميدان الحياة لا أن نكون مجرد منظرين ومتغنين بالنصوص العلوية ومستعرضين لدلالاتها البلاغية والبيانية وواقفين عندها كنصوص جامدة لا فاعلية لها في النهوض بالأمة في شؤون حياتها السياسية والقضائية والإدارية وإلا كان الولاء حجة علينا لا لنا.

 

الدلالات: