الصلاة ذكر الله الأكبر: الركن الرابع قراءة فاتحة الكتاب الحلقة ( 10 )

نشر بتاريخ: خميس, 25/01/2018 - 9:44م

 

مقدمة

إن للصلاة غاية إلهية عظيمة وكلما أدركنا تلك الغاية كلما كانت صلاتنا مقبولة ودخلنا في عداد المفلحين والناجين والفائزين من عباده في الدنيا والآخرة ويوم يقوم الحساب.- وكلما أدرك العبد غاية كل ركن بذاته فيها واستشعر أهميته وتفكر في عظمة موقعه ومكانه في هذه العبادة وتنبه لمراد المولى عز وجل منه، وتبين له مظاهر الثناء والعبودية والطاعة فيه وحضر قلبه عند أدائه فتح الله -جلّت عظمته- له باباً من أبواب رحمته وكشف له سراً من أسرار ذلك الركن ورفع عنه حجاب من حجبه وارتقى درجة وقطع في سماء القرب مسافة وكان ذلك الفتح مقدمة وباباً يلج فيه إلى الركن الذي يليه.

 

الركن الرابع

قرأة فاتحة الكتاب

نحن خلال الصلاة المفروضة وسننها نقرأ سورة الفاتحة ذات السبع الأيات أربع وثلاثون مرة في اليوم والليلة غير الآيات التي نقرأها بعد الفاتحة ولاشك ان الله عز وجل عندما فرض عليناالعودة إلى كتابه وكلامه أثناء الصلاة وأمرنا بتلاوته ونحن بين يديه و في حالة العبادة له والثناء عليه أراد أن يجعلنا على اتصال دائمٍ بكتابه وهداه في كل أحوالنا المختلفة من الليل والنهار من خلال ذلك التدبر الدائم والخاشع.

كما أن الحق جل وعلا أراد ونحن نقرأ كلامه في الصلاة ونحن بين يديه أن نعظم كتابه الذي أنزله إلينا، وأن تستوعب عقولنا وقلوبنا مكانة ومعاني وهدى آياته وكلماته وألفاظه وحروفه التي جاءت إلينا من لدن عليم حكيم، وأن تملأ حياتنا النظرة الإلهية لهذا الكتاب العزيز والعمل بمقتضاه وأن تستحوذ على كل لحظة نتعامل فيها مع كلامه جل وعلاقته بحياتنا.

الإرتقاء بين يدي الخالق

الظاهر أن العبد يرتقي مع كل ركن  درجة نحو خالقه وربه وهو في صلاته ثم تضيق المسافة التي تبعده عنه جل وعلا وعن الوصول إلى درجة القرب منه التي يرضى فيها الملك الجليل على عبده ويرضى فيها العبد الفقير (رضي الله عنهم ورضوا عنه) وذلك عند الفراغ من هذه العبادة العظيمة.

في الركن الأول ( النية ) عندما ينوي العبد بلسان قلبه ويناجي ربه بما هو عازم عليه فإنه يتجاوز مخاطبة المخلوقات التي اعتاد مخاطبتها بلسانه وينتقل إلى مخاطبة الغيب بالغيب فيخاطب من لا تراه العيون ولا تدركه الأبصار بحديث لا تسمعه الآذان ولا ينطق به اللسان ولا يطلع عليه أحد فهو بذلك يدخل إلى ساحة الحق جل وعلا ويرتقي إلى درجة الحضور بين يدي عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم.

وعندما ينتقل إلى الركن الثاني (تكبيرة الإحرام) فإنه يعلن بلسانه وصوته إقراره بالحقيقة الكبرى (التي يذعن لها كل الوجود) أن الله أكبر وأعظم من كل شيء في الوجود مهما بلغت عظمته مما يعلمه وما لا يعلم  فتحرم حينها جوارح العبد وحواسه الظاهرة والباطنة لخالقها وبارئها وتعلن الخضوع لعظمة وكبرياء الحق جل وعلا  فتصبح كل ذرة وخلية في جسد العبد معترفة بعظمة خالقها كبقية خلقه في كونه الواسع والفسيح فيرتقي الواقف بين يدي ربه حينها إلى درجة الإقرار بعظمته التي فطرت عليها مخلوقاته.

وبقيام العبد بين يدي بارئه بالكيفية التي أمر بها في الركن الثالث فإنه يدخل ويرتقي إلى درجة الامتثال للخالق وينتقل من دائرة الانقطاع للمخلوقين إلى دائرة الانقطاع للحق جل وعلا ٠ فيتهيأ بذلك للدخول والانتقال إلى الركن الذي يليه وهو مخاطبة الحق جل وعلا بكلامه الذي نحن بصدد الحديث عنه وهكذا يصل العبد إلى درجة مخاطبة ربه ومناجاة مالك أمره وخالقه في الركن الرابع الذي هو قراءة كلام الحق جل وعلا بين يديه للثناء عليه، "الفاتحة وبضع آيات من كتابه الكريم" بعد سلسلة من المراتب التي سلكها العبد وصعد إليها من مرتبة استجابة الأذان وما بعدها من شروط ومقدمات الصلاة إلى الدخول في مراتب ودرجات أركانها.

الحكم والأسرار

وبدخول العبد في الركن الرابع الذي يعد أصل الأذكار وأجلها والجامع لها في هذه العبادة الإلهية العظيمة الذي يأتي متزامناً مع ركن القيام الذي يعد عمود الأفعال وأساسها يتداخل الركن الثالث مع الركن الرابع وكأنهما ركن واحد مع أن الأول من الأفعال والثاني من الأذكار وتختلط في نفس المؤمن مشاعر وقداسة وعظمة القيام بين يدي خالقه ومالك أمره وبين مناجاته بكلامه جل وعلا ومخاطبته فتكتمل صورة القيام الظاهرة والباطنة وحقيقة مناجاة العبد ومخاطبته لربه وتصبح مكتملة العبودية والتذلل والثناء والحمد.

أي أن العبد منا سوف يقرأ الفاتحة التي هي من أعظم سور القرآن الكريم سبعة عشر مرة في صلاته الواجبة وثلاثة عشرة مرة في سننها مع متوسط خمس آيات في الركعتين الأولى والثانية في مجموع الركعات الواجبة والمسنونة، وبهذا تصبح  الآيات التي نقرأها كل يوم من كتابه الكريم في الصلاة تصل إلى أكثر من ثلاثمائة آية، جزأين تقريباً  أما إذا كان الانسان يقوم الليل ويؤدي جميع السنن فإن الأمر يختلف وما سيتلوه من كلام ربه وهو قائم بين يديه سيكون أكثر من ذلك وقد يصل إلى الضعف.

فما الحكمة الربانية وما الأسرار الإلهية من وراء اختيار المولى عز وجل لسورة الفاتحة لتكون هي الكلمات التي يخاطب العبد بها ربه وهو بين  يديه وفي مقام  وساحة قدسه في كل الصلوات وفي كل الأوقات؟

هل يريد الحق جل وعلا من عباده أن يستحضروا كلامه وهم قيامٌ بين يديه في الصلاة وهو الذي يعلم أنه أنزله عليهم ليكون لهم دستوراً وتشريعاً وقانوناً يعملون به في حياتهم ويحتكمون إليه في كل شؤونهم حتى يؤكدوا بذلك عبوديتهم  وعهدهم وميثاقهم بالقرآن الكريم وبالالتزام به وبصدق إيمانهم بما أنزل عليهم عبر صلاتهم كل يوم خمس مرات من خلال هذه العبادة الإلهية العظيمة؟

أم أن الحق جل وعلا أراد أن نتعبده ونثني عليه بكلامه هو لتترسخ وتتجذر في نفوسنا معرفته ومعرفة أسمائه وصفاته فتنمو وتكبر تلك المعرفة مع كل يوم نمضيه في حياتنا ونقف فيه بين يديه حتى إذا جاء وقت لقائه تكون معرفتنا به قد اكتملت وأصبح إيماننا متصفاً باليقين فنعود إليه بقلوب سليمة مطمئنة عارفة؟

أم أن المولى عز وجل أراد من خلال هذا الركن أن نتعرف على حقيقة كتابه الكريم وندرك مكانته ومنزلته وعظمته لديه من خلال الفاتحة والآيات التي بعدها حتى تستقر في قلوبنا هذه المنزلة العالية ونتعامل معه على أساس هذه المكانة الإلهية وننظر إليه بالمنظور الإلهي فيأخذ مكانه في حياتنا وإيماننا؟

أم أن الرحمن الرحيم أراد أن يُشرِّف عبيده حين المثول بين يديه وحال الثناء عليه بمخاطبته بكلامه ( الفاتحة ) لا بكلام أحد سواه فيتقبل طاعتهم وعبادتهم ويستجيب لدعائهم ويغفر ذنوبهم وينشر رحمته عليهم ويرضى عنهم فيرتفعوا إلى منزلة ومقام مخاطبته والحضور بين يديه دون حجاب أو ستر؟

إن مراد الله في ذلك متصل بعلمه المطلق جل وعلا وبرحمته الواسعة التي وسعت كل شيء وبتكريمه للإنسان الذي نفخ فيه من روحه وفضله على كثير من خلقه والذي لا يمكن الوصول إلى حدوده ولا الإشراف على بداياته ، ومع ذلك فليس أمامنا نحن الفقراء إليه المأمورون بالتأمل والتفكر والتدبر في آياته ومنها أوامره، إلا السير في ما أمرنا به مع أن ما أمرنا به ليس  سوى اليسير من بحر أسراره كل ذالك رحمة منه حتى نسبح  في فضاء فضله ومن ثم نعبر من أبواب سماواته التي فتحها لعباده من خلال هذه العبادة الإلهية وأركانها التي من ّ الله علينا بالعيش في رحاب عظمتها ليل ونهار لعلنا نرتشف من فيض ما أطلقه من علمه فيها لعامة عباده وأولياءه.

التسمية والترتيب

نحن نعلم أن الله سبحانه وتعالى قد وضع لكل سورة من سُوَر القرآن الكريم إسماً لها ولاشك أن وراء كل إسم في كل سورة من القرآن الكريم حكمة إلهية وأسرار ودلالات وأبعاد أراد الله سبحانه وتعالى إيصالها إلينا ولاشك أيضاً أن هذا الإسم مرتبط بالسورة وبمضمونها وبمراد الله في هداية العباد بما فيها ومافي غيرها من سُوَر القرآن الكريم

كما نعلم أن  أسماء القرآن الكريم توقيفية كما يقول العلماء أي من الله سبحانه وتعالى أنزلها على رسوله بواسطة جِبْرِيل عليه السلام  كبقية كلامه في القرآن من آيات وألفاظ وكلمات وقد حفظها الله كما حفظ الله القرآن كله ولها نفس أحكامه.

وإذا تأملنا في أسماء سُوَر القرآن الكريم المئة والأربعة عشر سورة سوف  ندرك عظمة الحكمة الإلهية في كل اسم من أسماء تلك السور وسنصل إلى مجموعة من الدلالات والأسرار ربما لم تكن لتخطر على بالنا أو نتصورها وسندرك في تلك الأسماء ونفهم طبيعة العلاقة التي تربط بين اسم كل سورة وبين مضمونها وأهم المواضيع فيها وما مراد الله من وراء إختياره لتُسمى السورة به ولماذا يريد لفت أنظارنا الى ذلك  الموضوع في تلك السورة والذي لايتجاز الحديث عنه في كثير من السور سوى بعض أيات منها٠لن نستطرد في الحديث عن حكمة ودلالات أسماء سُوَر القرآن وانما تناولنا ما تقدم لكي ندخل في الحديث عن فاتحة الكتاب  وفي حكمة ودلالات إسمها.

أول مايلفت نظرنا في سورة الفاتحة هو ترتيبها في القرآن الكريم فبالرغم من أنها تعد من السور القصار التي كان من المفروض أن تكون في الجزء الثلاثين (جزء عمّ) بين السور القصار إلا أن الله جلت عظمته قد وضعها أول سورة في القرآن وجعلها مع أكبر سُوَر القرآن الكريم السبع الطوال ثم سماها ( بالفاتحة )  وإذا تأملنا في آياتها السبع لننظر هل في تلك الآيات وفي معانيها مايدل على اسمها أوبين كلماتها كلمة الفاتحة كما نشاهده في سُوَر القرآن الكريم فلا نجد وهذا من أول خصوصيات اسمها وهذا يعني أن التسمية الإلهية لهذه السورة بالفاتحة لاعلاقة له بموضوع أوقصة داخل هذه السورة وإنما جاء اسمها كما يظهر لأول وهلة من ترتيبها كأول سُوَر القرآن الكريم باعتبارها الفاتحة لكتابه ولبقية سوره ولما تتضمنه وتحويه أياتها السبع من المعاني العظيمة المرتبطة والمتعلقةالتي لها علاقة وارتباط بما في بقية سُوَرالقرآن من هدى وآيات ومعاني.

ولكن إذا تأملنا أكثر في المعاني اللغوية لكلمة ( الفاتحة ) ولمكانة وخصوصيات هذه السورة التي أثنى الله عليها في بقية سُوَر القرآن وعلى لسان رسوله صلوات الله وسلامه عليه وعلى أله فسنجد أنفسنا أمام كثير من المعاني والأسباب لتلك التسمية.

فالفاتحة  والفاتح والمفتاح كلها صيغة مبالغة  فالفتح مثلاً الماء يخرج من عين أوغيرها وفاتحة الشيئ مبتدؤه الذي يصح به مابعده والفَتح والفِتاحة بضم الفاء وكسرها الحكم وأخص منه فتح المستغلق وتدور المادة بشكل عام في معانيها على إزالة الأغلاق من الناحية الحسية والمعنوية  وما يتصل به. وعليه فإسم الفاتحة باعتبار ترتيبها في القرآن الكريم وكونها السورة الوحيدة التي فيها الخطاب موجه من العبد الى ربه وللأمر الألهي لعباده بقراءتها في كل الصلوات  ولتعدد أسمائها من قبل الله : الحمد ،أم الكتاب ، السبع المثاني ، وقرأن عظيم حيث أختصهابأسماء متعدة للدلالة على فضلها وعظمتها بل إن البعض من العلماء يقولون إنها أعظم ما أنزل الله في كتابه الكريم وقد خصها الرسول صلوات عليه وعلى آله وسلم بكثير من الأحاديث التي تبين فضلها ومكانتها وخصوصية أياتها وعظمة معانيها.