الصلاة ذكر الله الأكبر الركن الرابع مكانة القرأن الكريم

نشر بتاريخ: خميس, 17/08/2017 - 9:56م

لا زلنا في الحديث والكتابة حول الركن الرابع في الصلاة ( قرآة الفاتحة وبضع آيات ) ولكن من زوايا متصلة بهذا الركن فنحن خلال الصلاة المفروضة وسننها نقرأ سورة الفاتحة ذات السبع الأيات اربع وثلاثون مرة في اليوم والليلة غير الأيات التي نقرأها بعد الفاتحة ولاشك ان الله عز وجل عندما فرض علينا العودةالى كتابه وكلامه اثناء الصلاة وأمرنا بتلاوته ونحن بين يديه و في حالة العبادة له والثناء عليه أراد ان يجعلنا على اتصال دائماً بكتابه وهداه في كل أحوالنا المختلفة من الليل والنهار ولنعرف عظمة القرآن الكريم من خلال ذلك التدبر الدائم والخاشع. 

إن الحق جل وعلا أراد ونحن نقرأ كلامه في الصلاة ونحن بين يديه أن نعظم كتابه الذي أنزله إلينا، وأن تستوعب عقولنا وقلوبنا مكانة آياته وكلماته وألفاظه وحروفه التي جاءت إلينا من لدن عليم حكيم، وأن تملأ حياتنا النظرة الإلهية لهذا الكتاب العزيز وأن تستحوذ على كل لحظة نتعامل فيها مع كلامه جل وعلا.

ولكي تتحقق عظمة القرآن ومكانته في قلوبنا كان لابد لنا من الحديث عن هذه المكانة من خلال القرآن نفسه.

عظمة القرآن

لأن الباري عز وجل يعلم مدى الغفلة التي تصيب عباده في عدم إستحضار تعظيم كتابه الكريم  ومعرفة منزلته عنده ومكانته لديه في كثير من أوقات حياتهم  فقد جاءت كثير من الإشارات الربانية في القرآن الكريم التي تهدف إلى صياغة هذه الحقيقة في إيمان المؤمنين وغرسها في قلوبهم وعقولهم بحيث لم تخلو منها سورة، بل إن الحق جل وعلا قد ذكرّ المؤمنين  بعظمة كتابه وصفات كلامه وما أنزله عليهم  في ثنايا أيات القرآن وبالذات في أوائل معظم سورة التي   تحدثت عن عظمة القرآن أو أقسم الله فيها ببعض صفاته  فلا يبدأ العبد بقراءة سورة من سور القرآن الكريم إلا وقد علم ووقر وترسخ في قلبه عظمة القرآن وعظمة وصفات من أنزله.

ويكفي المؤمن أن يقرأ أوائل سور القرآن الكريم الآيات الأولى والثانية .. من كل سورة ليعرف عظمة صفات الكتاب الذي بين يديه وعظمة الذي أنزله الله عليه وجعله في متناوله.

 وسأكتفي هنا بذكر بعض أوائل السور وليس كلها وبعض الآيات التي تضمنتها بعض السور المتصلة بمكانة القرآن الكريم وعظمته وأترك الباقي لتدبركم في هذا الشهر الكريم شهر القرآن فلعل قلوبنا تستشعر تلك العظمة الإلهية لكلامه جل وعلا وتلتفت أنظارنا إلى بعض أسرار كتابه الكريم الذي أمرنا الله بتلاوة الفاتحة منه وبعض أياته في الصلاة ونحن وقوفاً بين يديه وحال عبادتنا له  والثناء عليه فقد نصل الى حالة التعظيم تلك.

هدى للمتقين

في أول سورة البقرة التي هي أطول سور القرآن يقول الله تعالى: ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم ، آلم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِين﴾ ثم ذكر صفات المتقين الذين ينتفعون بهدي  القرآن وختم الآيات بقوله: (أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون) فوصف الباري عز وجل القرآن في هذه السورة بأنه لا ريب فيه وأنه هدى للمتقين ثم عدد صفات المتقين الذين يفتح القرآن لهم أسراره ليعلم الناس بها فيحرصوا أن يكونوا من أهلها فيكونوا محل هداية القرآن ومن ألمهتدين به ذلك الهدى الذي نسبه الحق جل وعلا إلى نفسه بقوله: ﴿ أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون﴾.

بالحق

وفي سورة آل عمران قال تعالى في بدايتها: ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم ، آلم ، اللهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّوم ، نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيل﴾ إلى آخر الآيات.

فقد وصف الحق جل وعلا نفسه في بداية هذه السورة بأنه  لا إله إلا هو وأنه الحي القيوم ليخبر عباده أنه هو الحي القيوم الذي أنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالحروف التي يعرفونها حتى يعرفون عظمة القرآن وعظمة هديه ومدى حاجتهم اليه في حياتهم التي أوجدها والقيوم عليها (الحي الْقَيُّوم ) ثم يصف نزول  القرآن على رسول الله بانه الحق في ذاته وعند نزوله وعند التحاكم إليه والأهتداء به لكي يدرك المؤمنون أن مافي القرآن هو الحق وأن إتباعهم  وعملهم بالقرآن في الدنياء هو إتباع وعمل بالحق وأنه تصديق لكل حق قد سبقه وإمتداد له .

ذكرى للمؤمنين

وفي بداية سورة الأعراف قال الله تعالى: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم ﴿آلمص، كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِين﴾، ففي هذه السورة أخبر الباري عز وجل رسوله بحقيقة كتابه الكريم وقدسيته وأنه هو الذي أنزله عليه فلا يكن في صدر المصطفى حرج من تبليغه والإنذار به لأن وظيفة كتابه الكريم هو إنذار الناس من كل ما يمكن أن يلحق بهم من ضرر وأذى  في حاضرهم ومستقبلهم الدنيوي والأخروي، وهو ذكرى للمؤمنين عما غفلوا عنه أو نسوه سواء عن حقيقة الحق جل وعلا أو حقيقة الوجود وحقيقة أنفسهم ومصيرهم، ومانزل فيه من الهدى كون الإنذار والتذكير من تجليات رحمة الله على عباده التي تضمنهاكتابه الكريم.

 الحكيم

وفي أول سورة يونس قال الله تعالى: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم  ﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيم﴾ وفي هذه السورة خاطب الحق جل وعلا عباده موضحاً لهم صفة وخاصية من خصائص الكتاب الذي أنزله عليهم  بل خاصية كل آية من آياته، فيصف القرآن بالحكيم لتنتصب أمام كل مؤمن ومؤمنة الحقيقة الإلهية التي تقول إن كل آية بين أيديهم من كتابه الكريم تتصف بما وصف الله به كتابه جملة بقوله (الحكيم)، بل ويشهد كل حرف وكلمة وآية بأنها تتصف بالحكمة التي هي من حكمة الله جل ّوعلا

 المحكم والمفصل

وفي سورة هود قال تعالى في بداية هذه السورة: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم  ﴿الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِير﴾ فقد  جاء مطلع هذه السورة ليؤكد من جديد ما أجمله مطلع سورة يونس من أن القرآن الكريم كله قد أحكمت آياته ثم أحكمت عند تفصيلها مؤكداً لخلقه وعباده وهو الغني عنهم أنه مصدر ذلك الإحكام، عندما وصف نفسه بما وصف به كلامه "الحكيم" وأضاف صفة الخبير حتى يجمع الناس بين صفاته وصفات كلامه وبين تقديسه وتعظيمه وتقديس وتعظيم ما يتلونه من آياته في كتابه الكريم وليعلموا أن القرآن الكريم حكيم وخبير في هديه ومعالجته لكل شؤن حياتهم .

 المبين

وفي أول سورة يوسف يصف الحق جل وعلا كتابه الذي أنزله على عباده بقوله: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم  ﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِين، إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُون﴾.

وهكذا يتعدد الخطاب الإلهي لعباده في كل سورة معظماً لكتابه الذي أنزله عليهم ومبينا لهم خصائصه وصفاته مع بداية كل سورة، ففي هذه الآيات يضيف الحق جل وعلا صفة أخرى إلى كتابه الكريم وهي المبين الذي لايحتاجون الى غيره  فبعد أن وصفه بالحكيم فإنه يؤكد على مصدره الإلهي بقوله (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ) ليتجدد تأكيد الحق جل وعلا على عظمة كتابه الكريم من جوانبه المتعددة، وكيف لا يكون كلامه مبيناً واضحاً في ذاته وفي هداه وتأثيره وموضحاً لغيره  وهو صادر عن الكمال المطلق العالم بكل شيء والقادر على كل شيء جلت عظمته.

 الحق

وفي أول سورة الرعد يصف الحق جل وعلا كتابه الكريم بالحق الذي لا ريب فيه وإن كان أكثر الناس لايؤمنون بأنه الحق فيقول: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم  ﴿المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُون﴾.

وهكذا ظل الحق جلّ وعلا في كتابه الكريم وفي بداية السور التي بعد الرعد كسورة إبراهيم وكذا سورة الحجر والكهف وطه  يبين للناس فيها صفات وخصائص ومكانة كتابه الكريم ووظائفه الربانية من إخراجه للناس من الظلمات إلى النور.. وأنه المبين ولا عوج فيه قيّماً ، ينذر عباده من بأسه الشديد ويبشر المؤمنين بأن لهم أجر حسنا. ثم يستمر الحق جل وعلا في وصف كتابه الكريم في أوائل السور الأخرى التي تبدأ ببعض الحروف (كطسم) و(حم) مؤكداً الحقائق السابقة.

أما في سورة (يس) و(ص) و(ق) فالباري عز وجل أقسم فيها بالقرآن وببعض صفاته ليدرك الناس عظيم صفات ما يُقسم به وأهميته وحاجتهم إليه وليدركوا عظمة كتابه ومنزلته لديه وذلك بعد أن بيّن لهم صفاته في السور السابقة.

فيقول جلت عظمته: ﴿يس، وَالْقُرْآنِ الْحَكِيم﴾، ﴿ ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْر﴾، ﴿ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيد﴾، لتصبح حقيقة تلك الصفات في وجدان المؤمن وقلبه مرتبطة بقسم الله وصفات القرأن التي أقسم بهاحتى تصاحبه تلك الحقيقة في كل سورة وآية في كتابه حين يقرأها المؤمن أو يتلوها أو يرتلها أو يعمل بها.

إلا أن هناك سورتان (الواقعة والحآقة ) في القرآن الكريم أقسم الله فيهما بالقرآن وصفاته قسمين  عظيمين لهما خصوصيتهما ودلالاتهما وتميزهما وكان لابد من التعرض لهما  ونحن نتحدث عن عظمة القرآن الكريم ومكانته .

القسم العظيم

في سورة الواقعة بيَّن الحق جل وعلا فيها لعباده عظمة القرآن الكريم ومكانته وبعض صفاته عندما أقسم على ذالك قسماً سماه عظيماً.

 وفي هذه السورة نلاحظ أنها تطرقت في بدايتهاإلى مجموعة من الحقائق المتصلة بالحياة المستقبلية في الآخرة ويوم القيامة ﴿ وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاَثَة﴾ أو بالحياة الدنيا المشهودة أفرأيتم ماتمنون ، ماتحرثون،، ماتشربون ،، ماتورون ثم جاء القسم العظيم بعظمة القرآن في أخرها ﴿ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيم﴾.

وكان حديث الحق جل وعلا عن يوم القيامة إذا وقعت الواقعة أو عن الأصناف الثلاثة (السابقون، أصحاب اليمين ومسكنهم الجنة، أو أصحاب المشئمة الذين سيكون منزلهم هو نار جهنم)  داخلاً في دائرة المستقبل الذي كشف الحق جل وعلا عنه لعباده كأحد مظاهر وتجليات رحمته، وهو جزء من عالم الغيب الخارج عن إدراك البشر ومعرفتهم.

وقد انتقلت السورة بعد الحديث عن الحياة الأخرى إلى مخاطبة الناس حول مجموعة الحقائق الكبرى المتصلة بالحياة الدنيا المشهودة التي يعيشها كل إنسان ويلمس آثارها وبدأت بتوجيه التساؤل بقول الحق ﴿نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلاَ تُصَدِّقُون﴾.

ليعلم الإنسان أن تلك الحقائق والتي أولها مصدر وجوده ونشأته ( ذلك المني) الذي يتخلق داخل جسده أن لا علاقة له به لا من قريب أو بعيد وإنما هو آلة ينفذ أمر ربه وخالقه فيه، وثانيها أن مصدر غذائه في الدنياءلا يتجاوز دوره فيه غير حرث الأرض ووضع البذور فيها، أما بقية ما يحدث فبأمر ربه القادر على كل شيء وهكذا هو حال الماء الذي يشربه والطاقة التي يستخدمها.

ليصل الإنسان من خلال عالمه المشهود إلى حق اليقين في معرفته بمن وراء حقائق وجوده الدنيوي إلى  حق اليقين  بحقائق الحياة الأخرى قبل انتقاله إليها وليصل الى نفس الدرجة من المعرفة  أي حق اليقين الى أن القرآن الذي بين يديه وفي متناوله ويحمل الهداية له في جميع شئون حياته ويفسر له حقائق الوجود من حوله  تنزيل من رب العالمين ،وأنه قرآن كريم ،في كتاب مكنون ،لا يمسه إلا المطهرون،

يقول تعالى  في سورة الواقعة في قسمه بالقرآن ﴿فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُوم،  وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيم، إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيم، فِي كِتَابٍ مَّكْنُون، لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُون، تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِين﴾ صدق الله العظيم.

ودلالة هذا القسم الألهي العظيم في قوله تعالى  ﴿فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُوم،  وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيم﴾ أن مواقع النجوم هي منازلها التي تسير وتدور فيها والمسافات التي بينها في هذا الكون فإذا كانت النجوم التي يتكون منها هذا الكون لايمكن للعقل البشري أن يتخيل أويتصور عددها وأحجامها فهي بمئات وآلاف المليارات فما بالك بالكون الذي تسبح به والمسافات التي بينها فلا يستطيع أحد إدراكه ومعرفته لان إدراك ذلك فوق قدرة البشر وتصورهم، وهذا ماأقسم الله به في هذه السورة وقال عنه  ﴿وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيم﴾ لعلمه أن ذلك لا يدخل تحت قدرة الإنسان العلمية أو إدراكه البشري أو عقله المحدود الممنوح له من خالقه جل وعلا.

 فلماذا يا ترى أقسم الحق جل وعلا بهذا القسم العظيم؟ وعلى ماذا أقسم؟

فالقسم من الله العلي العظيم والمقسوم به هي مواقع النجوم العظيمة، والمقسوم عليه هو كتاب الله الكريم ومعجزته الخالدة وصراطه المستقيم الذي هدى به الناس أجمعين، من يوم نزوله إلى يوم الدين، والمخاطب بهذا القَسْم هم الناس عباده وخلقه وأفقر الفقراء إليه، فما هي الحقيقة التي أراد لنا الله نحن البشر أن نؤمن بها ونوقن بألوهية مصدرها؟ إنه القرآن الكريم الذي أقسم جل وعلا على : إنه لقرآن كريم، في كتاب مكنون، لا يمسه إلا المطهرون، تنزيل من رب العالمين.

إذن أقسم الله على القرآن بأنه كريم في مكانته ومنزلته وكريم في عطائه وخيره وهداه وكريم في ذاته وكريم في مصدره.

وأقسم أنه كتاب مكنون أي محفوظ بالإرادة الإلهية من كل تحريف أو تأويل أو زيادة أو نقص.

وأقسم أنه لا يمسه إلا المطهرون ولا يصل إلى مراد الحق جل وعلا وأسراره فيه إلا المطهرون باطناً وظاهراً، فأما غيرهم فإنهم يدركون منه ما يكون عليهم حجة، والمؤمنون يدركون منه ما يصلح حياتهم ومعادهم، أما أسراره الإلهية وفيضه الواسع فيه فهو للخلص من عباده ممن يفتح الله لهم أبواب علمه من خلال كتابه وكلماته.

الحاقة

في سورة الحاقة جاء أعظم قسم في القرآن من الحق جل وعلا فيما يخص كتابه الكريم، فقد قال تعالى في ذلك القسم: ﴿فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُون، وَمَا لاَ تُبْصِرُون، إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيم، وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُون، وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُون، تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِين، وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيل، لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِين، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِين، فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِين، وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِين، وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِين، وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِين، وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِين، فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيم﴾ صدق الله العظيم.

نحن نعلم أن الحق جل وعلا قد أقسم في كتابه الكريم بكثير من مخلوقاته على اختلاف أنواعها فأقسم بيوم القيامة وأقسم بالخنس الجوار الكنس، وأقسم بهذا البلد، كما أقسم بالشمس، والطارق، والضحى، والليل، والعصر، والتين، والعاديات، والفجر.. وكلها خلق من خلقه في هذا الكون الفسيح، كما أقسم الحق جل وعلا بالقرآن وصفاته ﴿يس، وَالْقُرْآنِ الْحَكِيم﴾، ﴿ ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْر﴾، ﴿ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيد﴾، ﴿حم، وَالْكِتَابِ الْمُبِين﴾، وجاء قسمه بمواقع النجوم من أعظم ما أقسم به ﴿وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيم﴾..

ثم جاء قسم الحق جل وعلا في هذه السورة ليكون هو أعظم ما أقسم به جل وعلا في القرآن كله، إذ أقسم بكل الوجود وبكل خلقه ما نعرفه وما لا نعرفه، فكل ما يقع تحت بصرنا من صغير وكبير فهو داخل في هذا القسم  وكل ما لم يقع عليه بصرنا وهو في علم الغيب ولا يمكن أن نراه فقد دخل أيضاً في هذا القسم.

فإذا كان المولى عز وجل قد أقسم بكل خلقه ومخلوقاته في هذه السورة فعلى ماذا أقسم؟ وما الحقيقة التي أراد لنا أن نفهمها ونضعها في مكانها وننظر إليها بهذه القيمة ونتعامل معها على أساس هذه العظمة؟ وأي قضية هذه التي يقسم الحق جل وعلا بكل مخلوقاته عليها التي تتجلى فيها جميع أسمائه وصفاته التي أخبرنا بها؟

لقد أقسم الله على هذه الحقائق ﴿ فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُون، وَمَا لاَ تُبْصِرُون﴾: إنه لقول رسول كريم، تنزيل من رب العالمين، وإنه لتذكرة للمتقين، وإنه لحسرة على الكافرين، وإنه لحق اليقين.

خمس حقائق أقسم بها الحق جل وعلا كلها متصلة بكتابه الكريم ومتعلقة بصفات القرآن الكريم:

الأولى: أن الله أقسم بأن القرآن الذي أنزل على قلب خير الخلق وسمعه نقل إليه من رب العالمين بواسطة رسول كريم، أي ذو مكانة رفيعة عند الله جل وعلا.

ثم أقسم على أن القرآن تنزيل من رب العالمين على ذلك الرسول الكريم ومن ثم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين.

وأقسم أنه –أي القرآن- تذكرة للمتقين من حيث أثره ودوره.

والرابعة أقسم الحق جل وعلا على أن القرآن حسرة على الكافرين من حيث إعجازه وحجته.

والخامسة أقسم الباري عز وجل على أن القرآن الكريم هو حق اليقين من حيث حقيقة وجوده ومصدره وألوهيته.

ولذلك كله نقول (سبحان الله العظيم) كما أمرنا في آخر جواب قسمه: ﴿فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيم﴾.