السيد العلامة محمد بن علي المروني رحمة الله عليه

نشر بتاريخ: جمعة, 07/07/2017 - 2:09ص

ترجمة للسيد العلامة محمد بن علي المروني رحمة الله عليه

بقلم نجل الفقيد/ الأستاذ العلامة أحمد محمد المروني

 

هو السيد العلامة/ محمد بن علي بن أحمد بن محمد بن محمد بن يحيى بن محمد بن سام بن نوح بن ناصر الدين ينتهي نسبه إلى الإمام الناصر أحمد بن الإمام الهادي يحيى بن الحسين.

لعله من مواليد عام 1953م بقرية هجرة المرون الكائنة في مديرية ضوران آنس محافظة ذمار.

كان جد والده السيد/ محمد من قراء السبعية وحفظة كتاب الله تعالى وممن يستسقى بهم الغيث، وأصحاب الكرامات ، وكان جده مرشداً ومبلغاً وخطيباً، وتنقل بين أكثر من منطقة، وكذا والده.

نشأ في ظل هذه الأسرة الكريمة المتدينة، ورضع لبان التقوى والورع من صغره، وأرسله والده إلى ما يعرف بـ (المكتب) في قريته ليتلقى تعليمه الأولى وهناك استقبله معلم المكتب المرحوم/ محمد بن عبدالرحمن المروني المشهور بالعزي المعلم، وكذلك المرحوم العبادة/ محمد بن عبدالله هادي المروني.

وكان متميزاً بين أقرانه بسرعة الفهم والحفظ وبالجد والاجتهاد والرغبة في التحصيل والحرص على الأخذ لكل مسألة.

وبعد أن أخذ في المكتب ما هو مقرر من القراءة والكتابة والحساب والقرآن الكريم والأخلاق وفقه الصلاة والطهارة وأصول الدين وعلومها.

اتجهت همته إلى أكابر العلماء في القرية والتي كانت تغص بالعلماء والفقهاء والعباد والزهاد والخطباء والمنشدين، واختار لنفسه أن يتتلمذ على يد أكبرهم ويلازمه ملازمة الظل للجسم وهو السيد العلامة/ عبدالرحمن بن محمد بن حسن المروني العالم العابد المشهور صاحب الكرامات؛ والذي كان له شهرة كبيرة وعرف بالزهد والورع والسخاء، حتى أنه كان يَعُوْلُ كلَّ فقراءِ ومساكين القرية، وعُيِّن على القضاة على مستوى اليمن فترك ذلك وتفرغ للعبادة والدعوة إلى الله ونشر الفضيلة وتعليم العلم الشرعي.

 

هذا العالم الجليل الكبير كان هو معلم صاحب الترجمة ومربيه، بل لقد كان له بمثابة الوالد، وكان صاحب الترجمة له بمثابة الولد، قبل أن يكون طالباً لعلمه ولأخلاقه، وقد تركت هذه الشخصية أثرها في صاحب الترجمة وتعلق تعلقاً كبيراً بشيخه وصاحبه في حله وترحاله غالباً، فعندما انتقل السيد العلامة عبدالرحمن بن محمد بن حسن المروني إلى قرية تعرف باسم (أسلع) انتقل معه ولازمه فترة بقائه حتى عاد.

ورأى صاحب الترجمة رأي العين ما يفعل الله لأوليائه، وكان يقص الكثير من القصص التي شاهدها وعايشها: من سوق رزق، وشفاء أمراض، واستجابة دعاء، وثقة بالله، وتوكل عليه، وعناية، وألطاف، وغيرها وغيرها حتى أن هذا العالم كان يخص تلميذه هذا؛ لما رأى فيه من النباهة، والنبوغ، ولما توسم فيه من الصلاح، بمزيد من العناية، والرعاية العلمية والخُلقية والتربوية.

وزوجه بابنة أخيه محمد والذي كان من العلماء الفضلاء، حفظة كتاب الله، والذي كان يعلم ويفتي ويرشد ويبلغ في بني فضل، بلاد القضاة آل الفضلي، من بلاد آنس.

وكان السيد العلامة/ عبدالرحمن رحمه الله تعالى يتعهدهما، ويتعامل معهما كالولدين، وحتى في ندائه لهما، يا ولد محمد وهكذا، وكانا يسكنان في منزل مقابل منزل السيد رحمه الله تعالى، وكثيراً ما كان يدعوهما لتناول الطعام لديه.

وعندما اطمئن السيد عبدالرحمن لعلم وسلوك صاحب الترجمة، وألم به المرض، وكان تلميذه قد انتقل إلى صنعاء لطلب العلم والعمل كما سنذكر لاحقاً، أرسل إليه رسالة سنورد جزءً منها لأهميتها ولنتعرف على الشيخ وتلميذه. يأمره بالعودة إلى المرون ليخلفه، وكفى بهذه الشهادة فهي من أهلها وفي محلها، وأما شيخه الثاني فهو السيد العلامة/ غالب بن نوح المروني وحيد عصره، وفريد دهره، وهو حقاً من العلماء المحققين، والفقهاء المدققين، والفلكيين المبرزين، واللغويين النحويين الصرفيين البلاغيين، والذي تولى القضاء أيام الإمام في أكثر من منطقة، فكان الشجاع الذي لا تأخذه في الله لومة لائم، وهو نظير الفخري السرحي وأمثاله، درس في شهارة وغيرها تقريباً.

كان لصاحب الترجمة من هذا العالم الحظ الأوفر، والنصيب الأكبر، وقد استفاد منه، في اللغة، والفقه، والفلك، والشوارد، والقضاء، والممارسة العملية كمعرفة الجنايات، وقسمة التركات، وحل النزاعات، استفاد منه الشيء الكثير وكان يحظى بمحبة هذا العالم له، ويكلفه بالكثير من الأمور ثقة به، وتدريباً له ، وتحت إشرافه.

وهو مع هذا كله، يقف إلى جانب والده ووالدته وأعمامه، معيناً ومساعداً خاصة وأن والده كان فقيراً، لا يملك من الدنيا إلا ما ورثه عن أبيه، وهو شيء لا يذكر، فعاش شظف العيش، وجشوبة المأكل، وخشونة الملبس، في رضاً عجيب، وعزة نفسٍ، واعتزاز بالإيمان والأخلاق والعمل الصالح.

وكابد ما كابد، وسعى ما سعى ليخفف عن أسرته والده ووالدته وأخيه الوحيد، الذي يصغر عنه بعشر سنوات تقريباً، وكان لأخيه كالأب يهتم بتعليمه وتربيته وإعاشته، وكان المرحوم  أيام دراسته الأولى لا يجد الدفتر ولا الكتاب، ويوم أن أهداه شيخه السيد/ غالب بن نوح المروني رحمه الله كتاب شرح الأزهار المسمى »مدرس« ، طار به فرحاً وكأنه ملك الدنيا، وكان يكتب درسه على اللوح ، ويضطر لحفظه في نفس اليوم؛ لأنه ليس له إلا هذا اللوح، وفي اليوم الثاني يمحو الدرس الأول، ويكتب الدرس الجديد، وهكذا ولم يكن معه كتاب يراجع منه. !

وكان مشائخه يستعينون به في تعليم بقية الطلاب لما كان عليه من الذكاء الوقاد والفهم السريع والسلوك الحسن.

فكانت أوقاته مستغلة إما في التعلم أو في مساعدة أسرته، بعدها هاجر رحمه الله تعالى إلى صنعاء إلى الجامع الكبير، والتحق بالمدرسة التي كانت فيه، المعروفة بدار العلوم، ودرس فترة وكان من المتفوقين، فتم تعيينه مراقباً فيها، وما هي إلا فترة وجيزة حتى وصلت إليه رسالة من شيخه السيد العلامة التقي العابد/ عبدالرحمن بن محمد بن حسن المروني، يشرح فيها خوفه على ضياع أولاد هجرة المرون، ويعتذر للقائمين على المكتب »المدرسة« ويشهد لصاحب الترجمة :بالذكاء، والنشاط ، والهمة ،  والفضل،  والاقتدار على التعليم كما يليق، ويأمره بأن يتفرغ للقيام بهذا الواجب، وينصحه بالإخلاص لله تعالى، وطلب الأجر منه، لا من غيره، ويرسم له سياسة تعليمية، ويضع له برنامجاً لليوم الدراسي، ويحثه على الاهتمام بالقرآن الكريم خصوصاً، ويحدد له الأوقات، ويوصيه بتعليم الطلاب التجويد إذا بلغوا مرتبته على صوت واحد مع المطابقة، وتعليمهم الأدب اللائق للمعلم والمكتب والمسجد والشوارع والوالدين وجميع الأخلاق حسب الاستطاعة، وتعليمهم الطهارة والصلاة والأذكار.

وفيها يقول: (وقد عينا له مكيناً من فضل ربنا في كل شهر مائتي ريال جمهوري منها مائة ريال معونة له على هذه الفضيلة ليشركنا ربنا في فضله وأجره، ومنها مائة ريال نسوقها إليه من مصارف الدرس الجارية من فضل الله على أيدينا).

ويقول فيها أيضاً: (هذا وعليه أن لا يحتسب بغيره بل يجعل المكتب »المدرسة« منه وإليه فمن حضر منهم »بقية المعلمين« أعانه بما استطاع ... ) الخ.

وفيها يقول: (هذا وإن وفق الله الحكومة والأهالي بالوفاء بحقه فذلك من واجبهم والله الموفق).

وهذه الرسالة تحريراً بخط السيد العلامة التقي الزاهد عبدالرحمن محمد حسن المروني.

بتاريخ شعبان 1396هـ

وهي وثيقة مهمة تفيد في إعطاء صورة عما كان عليه الحال في تلك المرحلة في الناحية التعليمية.

امتثل أمر شيخه ووالده وعاد إلى قريته المرون، وقام بالمهمة التي كلفه بها واستعان بالله فوفقه الله، وتعلم على يديه العشرات بل المئات من أبناء القرية، وتحول بعدها المكتب إلى مدرسة ضمت الصفوف الأولية من الأول ابتدائي إلى الخامس، فكان يدرس فيها مع زميل له وهو السيد العلامة/ علي محمد غالب عبده المروني، ومدرس يأتي من الأخوة الأشقاء السودانيين أو المصريين، وكان إلى جانب ذلك هو المدير والمشرف والحارس وكان يذهب إلى مركز المديرية ضوران لغرض الحصول على الكتب والشهائد والطباشير وغيرها، وكان يحمل أحياناً كثيرة كمية كبيرة من الكتب على ظهره من رأس الجبل إلى أن يصل إلى القرية، وكان يعفي الفقراء والأيتام من الرسوم ومن قيمة الكتب والشهائد وغير ذلك.

وإلى جانب هذا اشترى له أرضاً وكان يحييها ويزرعها بنفسه مع الاستعانة أحياناً بعمال فهو فلاح متفوق أيضاً.

ولم يقتصر نشاطه خلال حياته في المرون على التعليم والزراعة فحسب، بل لقد كان إماماً للمسجد وخطيباً لعزلة بني الشيعي وهي عزلة مجاورة لقريته، وأميناً شرعياً، وقاضياً يفصل بين المتنازعين، وعرف عنه العدل والجرأة في قول الحق والنزاهة، وقد عرضت عليه الرشوة مراراً وحاول بعض أهل الدنيا إغراءه ليحيف عن الحق والعدل فأبى إلا الحق والعدل.

وكان كفوءاً في قسمة التركات وحل المشكلات، وذاع صيته وانتشر عدله حتى رضيه المتخاصمون، وكانت المحكمة في ضوران وإدارة الأمن تحيل إليه الكثير من القضايا فيمضي فيها حكم الله لا تأخذه في الله لومة لائم.

كما كان له علاقة أخوة إيمانية مع أهل قرن عرة في مديرية جبل الشرق وبالذات مع أسرة بيت الفقيه وهم من الشيعة المحبين وكذا أسرة بيت عاطف وأسرة آل الحماطي ولا سيما العلامة المرحوم/ عبد الملك بن علي الحماطي الذي كثيراً ما كانا يتذاكران المسائل العلمية ويراجعان ويتحاوران حولها، وأولاده وأنسابهم، والقضاة آل الجبر والمرحوم علي الخولاني والد الأستاذ صالح بن علي الخولاني وكيل وزارة الأوقاف لقطاع القرآن الكريم، وكذا المرحوم العالم الزاهد/ المعروف بالمهاجر، وكذلك مع أهل محلة بيت القاري وهي من القرى التي استوطنها مع والده في صغره، ومع أهل ستران من آل جعبة، ومع مخلاف بيت العنسي ولا سيما المرحوم العلامة/ فرحان العنسي ومع بيت الهندي ولا سيما الشيخ المرحوم/ فرحان الهندي والذي كان يثني على كرمه ورجاحة عقله.

 

وله حضور بارز في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقف في وجوه الظالمين وكان شوكة في حلوقهم، يخافونه ويهابونه، وتعرض في أكثر من مرة لأذاهم ومكرهم واعتدائهم، فكان الله له ومعه وأيده، وصدق فيه قول الله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللهَ﴾ إذا انتهكت محارم الله يكون هو أول من يغضب لله ويحول دون وقوعها أو استمرارها، نصيراً للضعفاء والمساكين، وعندما هز زلزال الثمانينات قريته كان هو رئيس فريق عمل الإنقاذ والحريص على تفقد الجميع والتخفيف عليهم، وعندما تم بناء مجموعة من البيوت من قبل إحدى الدول كمساعدة للقرية المنكوبة وحصل خلاف كبير على توزيعها وأراد البعض أن يحرموا المساكين المتضررين كان هو المحامي دونهم والمدافع عنهم، واستعصت المشكلة على الحل إلى أن توصل مع هؤلاء البعض ومع الجهات الرسمية إلى أن يعطي الضعفاء ويعوضوا  ويتم التقسيم بالعدل فكان ما سعى إليه من إنصاف الضعفاء.

ومن الجوانب المهمة في حياته أنه كان يسعى في المصالح العامة جهده فببركة جهوده كان مشروع المياه الذي يغذي كل القرية، وبجهوده ومتابعته كانت المدرسة التي تم بناؤها وتشييدها والتي أراد بعض النافذين في الدولة تحويلها إلى مكان آخر.

وبسعيه وجهوده عمل صرحاً للمسجد الكبير وكان يسعى في إصلاح طريق النقيل ويستأجر من يصلحها.

ولأنه هاجر في ريعان شبابه إلى صنعاء للدراسة عرف مشقة الهجرة وعناء الغربة فكان يستعين بالله في أن يوفر سكناً بسيطاً في صنعاء لأولاده ليكملوا تعليمهم فأخذته الأقدار إلى رجلٍ من أهل الفضل والإحسان والعلم والتقوى وهو الحاج/ محمد بن عبدالرحمن العابدي والذي كان يعمل في المقاولات ووكيلاً لبعض مالكي الأراضي فطرح عليه ما يرغب فيه فأبدى له استعداده في الوقوف إلى جانبه وإعانته على ذلك، وفعلاً باع له أرضية واستلم منه ما كان معه وأنظره في الباقي وكان يسدد بحسب اليسار، وبعدها بدأ هذا الرجل الفاضل ببناء المنزل للسيد العلامة/ محمد بن علي المروني واعتنى ببنائه وكان السيد في قريته لا يعرف، وعندما وصل إلى صنعاء ورأى البناء قال للحاج/ محمد عبدالرحمن العابدي حفظكم الله وعافاكم هذا ما لا طاقة لنا به ولكن البيت بيتك وما قدمته لكم اعتبروه لديكم دين.

فما كان من المقاول الفاضل إلا أن ضحك وقال: لا يا سيدي البيت بيتك وسوف نؤجره ونحتسب ذلك من الغرامة وأنتم ما يسر الله لكم توصلوه إلى أن نستوفي، فكان حريصاً على الوفاء مع هذا المحسن الكبير إلى درجة أن يقتر على نفسه أحياناً ليقضي دينه رغم سماحة الحاج/ محمد عبدالرحمن العابدي رحمه الله تعالى.

ولعله في عام 93م انتقل مع أولاده إلى صنعاء وسكن منزله الكائن في الجراف جوار وزارة الكهرباء ليكون أولاده بالقرب من المدارس والجامعات والعلماء والمشائخ يتابع دراستهم النظامية والشرعية ويدفع بهم إلى التعلم وإلى حضور الدورات الصيفية في الجامع الكبير وإلى حضور حلقات العلم بين يدي أكثر من عالم.

مستمراً في دوره وعطائه رغم حالته الصحية متجملاً بثوب القناعة ومتوشحاً وشاح الرضا، بسيطاً في مأكله وملبسه ومعشره، قريباً من الخاصة والعامة، ودوداً، محباً، مخلصاً، صادقاً، متواضعاً، عابداً، ذاكراً، تكاد مسبحته لا تفارقه ولا يفارقها، وكان يصلي صلواته في مسجد القبة إماماً ولا يترك تعقيب الصلوات، ويقيم الدروس بين المغرب والعشاء ويدرس في منزله من وفد عليه القرآن والفقه واللغة والأصول ويعلم بحاله قبل مقاله.

ويتسع صدره للكبير والصغير ويجد كل واحد ووارد عنده ما يطلب، فمن يَرِدُهُ ليسمع تلاوته يسمع القرآن غضاً طرياً مفسراً، ومن يرده ليعلم حكم الله في مسألة ما يعلمه ويوضح له الحكم ويجليه، ومن يرده ليتعلم منه الخطابة وكيف تكون يجد مدرباً محترفاً، ومن يرده سائلاً عن معنى آية يرى الآية حية بعد أن يسمع منه معناها، لا ينسى المؤمنين والمؤمنات، والآباء والأمهات، والأبناء والبنات، عقب كل صلاة يدعو لهم ويستغفر.

منحه الله صوتاً عذباً وقفه على كتاب الله وعلى الخير، فكان المقرئ الذي يجبرك على الخشوع، ويفسر لك الآية وهو يقرأها على حد تعبير بعض من عرفوه.

ومنحه الله قدرة خطابية فهو يهز القلوب وينفذ إليها عندما يرتقي المنبر، ويبكي العيون ويقرب الناس إلى الله ويبعدهم عن النار. 

وكان مولعاً بالمطالعة طوال حياته، فلا يقع كتاب في يده إلا ويقرأه من أوله إلى آخره، حتى قبيل وفاته كان يطالع في كتابين مرة واحدة كتاب خزينة الأسرار والذي أهداه له السيد العلامة/ عبد الكريم بن عبد الله اللاحجي وكتاب في التاريخ.

وإذا أثير بحث أو وردت مسألة لا يقر له قرار حتى يراجعها ويظفر بها حتى لقد كنت أشفق عليه أحياناً وأترك سؤاله لما أعرفه من حاله.

وعندما أهديته كتاب »السيرة العلوية« قرأه من أوله إلى آخره وأبدى إعجابه به، وكذلك »حياة الزهراء عليها السلام«، وكذا »السيرة النبوية«، وهذه جميعاً كتب خرجت حديثاً وهو في حال المرض فقرأها واستوعبها.

ولقد سعى سعيه واجتهد جهده ووفقه الله وأجرى على يديه محسنة كبيرة وهي مسجد القبتين والذي لولا سعيه وهمته وأسلوبه لما كان، فلقد كان له قبول لدى أهل الخير ممن ساهموا في الأرض والبناء والحديد والإسمنت والأحجار وأدوات الكهرباء والطلاء والفرش وغير ذلك.

وقبل أن يكتمل البناء جلس في هذا المسجد إماماً ومعلماً ومفقهاً وآمراً بالمعروف وناهياً عن المنكر، ومرشداً إلى الخير، وعلم من علم القرآن، وعلم من علم الفقه، وعلم من علم الخطابة، وعلم من علم التفسير، وعلم من علم اللغة.

كانت له دروس في القرآن، ودروس في »الأحكام«، وفي »الأزهار« الذي كان يحفظه تقريبا عن ظهر قلب، وفي »شرح التجريد« وفي »تفسير الميزان« و »الأعقم« وغيرها، وفي المسجد كثيرا ما يرجع إلى كتاب مفتاح السعادة للسيد العلامة/ علي العجري رحمه الله تعالى ويقتنص الفوائد ويسجلها على أوراق لدي بعض من ذلك.

وعندما أسست مدرسة البدر للعلوم الشرعية كان واحداً من أبرز أعضاء هيئة التدريس فيها حيث عهد إليه بتدريس الفقه كتاب »الأحكام« للإمام الهادي عليه السلام.

وكان مثالاً للعالم الحريص على تعليم الناس أمور دينهم الذي يعطي العلم والوقت قداسة لا يتأخر عن محاضرته ولا يضيق بكثرة أسئلة الطلبة، ولا يعنف ولا يضجر؛ بل لقد كان يسر أيما سرور، ويحضر لإلقاء الدروس ولو على حساب صحته.

السيد القائد والمجاهدون لا يغيبون عن ذهنه فهو يدعو لهم في كل أوقاته ولا سيما بعد الصلوات.

إن أذيعت كلمة أو محاضرة حرص على استماعها من أولها إلى آخرها استماع مهتدٍ مهتم على أن يزداد إيمانه ووعيه، وما إن تكتمل الكلمة أو المحاضرة حتى يلخصها ويذكر أبرز النقاط فيها ويثني عليها ويؤكد أن هذا من توفيق الله وهدايته وتأييده وتسديده.

ينظر إلى السيد القائد على أنه علم من أعلام الهداية يهتدى به وبقوله.

يحضر المسيرات والمناسبات ولكن ليس في المنصة ولا في الصفوف الأولى، يحضر كواحد من الناس ولا ينصرف إلا بعد التمام والكمال، وأذكر أنني حضرت وإياه في ذكرى المولد النبوي لعله عام 1434هـ على صاحبه وآله أفضل  الصلاة والتسليم في صعدة في مطرة، ومع كثرة الحشود ضيعنا موقف السيرة الذين كنا معهم، وبقينا ندور في المواقف بحثاً عن السيرة الذين كنا معهم فلم نعثر على أحد ولحقتني مشقة كبيرة، وبدأت أتضجر فكان رغم صحته ومشاركته لي في البحث هو الذي يصبرني

 كان رحمه الله تعالى منذ عرفته،  وكأن المرض ألفه فكان يزوره بين الفترة والأخرى فلا تكاد تمر سنة إلا ويأخذ حظه من التطهير.

ولقد أصيب بجلطة في القلب، وبعدها بسنوات أصيب بتموت في الأمعاء، وبعدها أصيب بجلطة دماغية، وبعدها أجريت له عمليتان وهو هو الصابر المحتسب، وقد لمست ورأيت ما يلزمني عليه الحمد والشكر من الألطاف والعناية الإلهية التي كانت تحصل له في حال مرضه وكذا في حال صحته.

وقد جعل الله له مخرجاً من كثير من المضائق وما هذا إلا ثمرة التقوى، يحافظ على صلاة الجماعة ويحث على المحافظة عليها، ويحث على العمل والجهاد في سبيل الله، ويتابع الأحداث ويهتم بأمر المسلمين أينما كانوا ويدعوا لهم، ويؤلمه انحراف المنحرفين وعصيان العصاة، وفسق الفاسقين، وتكبر المتجبرين، وتسلط الأشرار، ويعشق الفضيلة والفضلاء ، تبكيه آيات الله.

ويعلوه الحزن والأسى إذا لحق بالمؤمنين ضرر، ويفرح ويبتهج عندما يحققون الانتصارات.

عندما وضعت عبوات ناسفة في طريق عودته من المسجد وفي باب منزله وانفجرت إحداها ما وهن ولا ضعف ولا ترك الخروج إلى المسجد والجأر بالحق .. كلا.

وفي مرضه الأخير منعه الغثيان من الأكل وكان يردد ﴿وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِين﴾ ويردد ﴿وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَاد﴾ وعندما زاره بعض دكاترة المعهد العالي للتوجيه والإرشاد تلى قوله تعالى: ﴿ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ﴾ وجعلها محور حديثه معهم.

وكان يراقب الأوقات في أثناء مرضه ويحرس الشمس من أجل الصلاة، ويصر على الوضوء رغم أن في ذلك مشقة كبيرة عليه، ويغير ملابسه حرصاً على الطهارة.

وفي اليوم الذي قبضت فيه روحه كان يردد من بعد الفجر ﴿وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى﴾ اللهم اجعلنا لك من الشاكرين.

يروي أحدهم أنه جاء إلى مسجده ليسأله في مسألة كان قد كتبها في ورقة وذلك في صلاة العشاء قال فقام يصلي وأنا منتظر حتى أكمل فسجد سجدة انتظرته لينتهي من سجدته فلم يقم فانصرفت بعد انتظار طويل وهو على سجدته.

ويقول البعض: خرجت لأداء صلاة الفجر في مسجدنا فسمعت تلاوته فأخذت استمع وأتذوق ولم أستطع مواصلة الطريق حتى أنهى صلاته وتلاوته.

ويقول البعض: سمعته يقول في مرضه (والله للقاء الله أحب إليَّ من لقاء أولادي).

إذا سافرتَ معه أو عشت لا تشعر به لقلة طلباته ولهدوئه وانشغاله بنفسه وبالذكر.

لا يتأفف  ولا يستنكف من العمل الصالح مهما كن، فكان يكنس صوح المسجد بنفسه ويغسل الحوض، وينظف الحمامات بنفسه.

وكان أحياناً يقوم بغسل ثياب والده ووالدته في مرضهما بيديه تقرباً إلى الله تعالى بذلك.

يذهب مع أصحاب الحاجات إلى حيث يريدون، ورغم محاولتنا أحياناً ثنيه خوفاً عليه يهون ذلك علينا ويقول ليس هناك ما يقلق أو يخيف.

يأنس به الأطفال من أحفاده أكثر من أنسهم بآبائهم، فهو يلاعبهم ويتصارع معهم ويدللهم.

لا ينسى والديه في أدبار صلواته وفي خلواته ومناجاته، وكان يتعهدهما بالزيارة كل جمعة، حتى في أيام مرضه، يذهب مشيا تحت أشعة الشمس ويزورهما ومن بجانبهما من المؤمنين ولا يكتفي بتلاوة الفاتحة والإخلاص بل ويقرأ يس وتوابعها ويختم بالدعاء حتى لقد كنت أتعب إذا شاركته في الزيارة.

وبعد إجراء العملية التي هي استئصال الأمعاء التي تموتت ذهب لأداء فريضة الحج عن والدته رغم أن صحته لم تكن تسمح له بذلك ورافقه في هذه الرحلة الأخ المجاهد/ أحمد المزيجي وأسرته والذي كان كلما ذكرهم دعا لهم وشكر لهم صنيعهم وإحسانهم، وكذا الأخ الدكتور/ خالد القروطي والأستاذ أحمد محمد الديلمي والذين كانا يعملان له أكثر مما يعمل الولد لوالده فجزاهما الله خيراً.

له خطبته المميزة في عقود النكاح وطريقته التعليمية الخاصة، يحث على النثار ويشارك في انتهابه.

وله راتبه الخاص في العزاء و الذي لم أسمعه من غيره، الراتب الذي رأيت وسمعت الكثير يتأثر ويبكي عند سماعه ويطلب تسجيلاً له، ومن أدعيته التي كان يرددها في أعقاب بعض الصلوات:

" اللهم تقبل منا ما كان صالحا، وتجاوز عنا ما كان سيئاً، واجعل أعمالنا خالصة لوجهك الكريم ومزحزحة لنا عن درك الجحيم"

" اللهم انصر المجاهدين في سبيلك نصراً عزيزاً وافتح لهم الثغور فتحاً مبينا، وكن لهم ومعهم حافظاً وناصراً ومثبتاً ومؤيداً ومسدداً ومعيناً"

" اللهم أهلك الكفرة والفسقة والظلمة وأعوانهم واقطع دابرهم، وزلزل أقدامهم واكفنا والمؤمنين والمؤمنات شرورهم"

" اللهم اجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع شريعتك المطهرة وقصد رضاك"

وكانت هناك سور ومقاطع اعتاد على تلاوتها في صلواته منها سورة الإنسان وسورة البينة، ومن قوله تعالى:" إن الذي سبقت لهم منا الحسنى.... إلخ ، ومن قوله تعالى:" يأيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة الآية، ومن قوله تعالى:" يا نساء النبي لستن كأحد من النساء  الآية، ومن قوله تعالى:" أقم الصلاة لدلوك الشمس الآية، ومن قوله تعالى:" يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كيراً الآية ، ومن قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً  الآية وغيرها.

في الفقه غالباً كان مقدساً لأقوال أهل المذهب لا يتعداها في فتوى ولا في عمل. يحافظ على مكملات الخمسين ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وقد رأيته أسيفاً حزيناً وهو يقول وبحرقة في آخر أيامه ما عدت أصلي إلا الفرائض.

يَخِفُّ إلى الصلوات قبل وقتها بوقت فيتطهر ويؤدي التحية ثم يجلس للتلاوة، وفي رمضان يخرج من المنزل الساعة الثامنة وأحيانا التاسعة ويتجه إلى المسجد ولا يعود إلا بعد صلاة العصر وأحيانا لا يرجع إلا بعد المغرب  ويقضي وقته في المسجد مصلياً تالياً ذاكرا معلماً.

في مرضه قدمني لصلاة الجمعة بالناس وبعدها وبطريقة راقية فهمت منه بأنني لم أؤد حق الصلاة كما يجب من الاطمئنان في الاعتدال بعد الركوع والانتظار بعد إكمال القراءة وغيرها من دقائق المسائل وهيئات الصلاة حتى شعرت بأني لم أعرف الصلاة القيمة بعد.

وعندما أثنى بعض الإخوة على خطبة بعض الخطباء وقد سمعها بجوار الوالد أثناء مرافقته له في المستشفى وهو يظن أن الوالد نائم، قال الوالد منتقداً أين الصلاة على رسول الله وآله وهي ركن من أركان الخطبة.

يهتم بمتابعة الأخبار ويحرص على معرفة الأحداث ويتفاعل إيجابياً مع كل حدث.

يتفرغ للتدريس ولو لطالب واحد.

ممن أخذوا عنه وتتلمذوا على يديه:

الشهيد المهندس/ قاسم قباص، والشيد الدكتور/ أحمد علي حمود عباس المؤيد والذي كان الوالد معجباً بفطنته وأدبه وهمته.

والشهداء من آل المروني، والشهداء من آل الضاعني، والشهداء من طلاب مدرسة البدر ومنهم الشهيد/ محمد محمد الشعباني و الشهيد/ عبد الله الوادعي والشهيد/ علي النجار و الشهيد/ أحمد سعد الحاضري و الشهيد/  سلمان حسين العجمي و الشهيد/  عبده طامش و الشهيد/  أحمد محمد غالب المروني و الشهيد/  عبد الإله الشرفي و الشهيد/  فايز ناجي و الشهيد/  محمد حزام الشامي. ومن طلابه أيضاً السيد العلامة خالد ين يحيى المداني والدكتور العلامة/ خالد بن علي القروطي والمفتقر إلى الله أحمد محمد علي المروني والقاضي ماجد يحيى الأمير وصنو المرحوم السيد العلامة/ علي بن علي المروني وغيرهم والأستاذ العلامة/ خالد موسى و غيرهم الكثير.

جزاه الله عن الجميع خير الجزاء، ورضي عنه أحسن الرضا

ورحمه الله رحمة الأبرار، وأسكنه برحمته جناتٍ تجري من تحتها الأنهار، وسلك بنا نهج وطريق أوليائه والصالحين من عباده....