أوقاف العلماء والمتعلمين بالجامع الكبير

نشر بتاريخ: اثنين, 17/04/2017 - 9:30م

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين.

شرع الله سبحانه وتعالى الصدقة وخص منها الصدقة الجارية التي تحبس أصلها وينتفع بها مصارفها جيلاً بعد جيل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو الوقف ، وهو الصدقة الجارية يجري نفعها للواقف بالثواب والأجر مستمراً إلى قيام الساعة وينتفع بها الموقوف عليه واحداً تلو الآخر لا ينقطع إلى أن تقوم القيامة؛ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إذا مات العبد انقطع عمله فلم يتبعه إلا ثلاثة: صدقة جارية، أو ولد صالح يستغفر له بعده، أو علم عمل به بعده فهو يكتب له» وفي رواية «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: ولد صالح يدعو له، أو صدقة جارية، أو علم ينتفع به» وقد جاءت الروايات في مشروعية الوقف منها: أنه صلى الله عليه وآله وسلم وقف، ومنها عن زيد بن علي عليهما السلام عن أبيه عن جده عليهم السلام: أنه كتب في صدقته: هذا ما أوصى به علي بن أبي طالب وقضى به في ماله أني تصدقت بينبع([1])، ووادي القرى([2])، والأذنية، وراعة، في سبيل الله ووجهه ابتغي بها مرضاة الله؛ ينفق منها في كل نفقة في سبيل الله ووجهه في الحرب والسلم والجنود وذوي الرحم والقريب والبعيد لا تباع ولا توهب ولا تورث حيًّا أنا أو ميْتًا أبتغي بذلك وجه الله والدار الآخرة لا أبتغي إلا الله تعالى بأن يقبلها وهو يرثها وهو خير الوارثين...الخ.

وحرصاً من المؤمنين الصالحين في كسب الأجر الكثير كان الوقف على العلماء والمتعلمين لينالوا أجرين اثنين في آن واحد وبفعل واحد؛ أجر الصدقة الجارية، وأجر العلم الذي ينتفع به ومما حرصوا عليه أن يكون وقفهم في مكان يؤمن فيه من خلو المصرف فكانت الأوقاف على العلماء والمتعلمين في جامع صنعاء الجامع الكبير؛ فعلى سبيل المثال كنموذج واحد وقفية الأمير عبد الله بن يحيى بن الحسن الحسني في القرن الثامن الهجري وخلاصة الوقفية كما جاء في وثيقة قضائية هي كالآتي: الأرض الموقوفة: جميع القرية الخراب يومئذ المعروفة بقرية عَصُر وجميع غيلها الأعلى المعروف بغيل عصر والأسفل المعروف بغيل سبأ اسمًا وجميع آبارها الثلاث وجميع الضياع والأطيان المزروعة اللاتي بضيعة ما ذكر وغير ذلك من العقار وجميع حرث ذلك متصل بعضه ببعض مشهور فيما تقدم بالنسبة الشاذروان الوقف المذكور الآن وذلك بجبل عصر ومساقطه بناحية السنينات والسواد وكل ذلك غربي مدينة صنعاء، وحدود الأرض الموقوفة: قال في الوثيقة القضائية كما يحكي قال: حدود ذلك كله على اتصاله من قبليه: أوطان السنينات ومن شرقيه: أرض تعرف باخور والجبايب المهريقة في ذلك وما يتصل بذلك من غول الربيعي ومن أرض تعرف بالسراقات ومن عدنيه: بأيدي الأمراء عيال حمير والجبال المهريقة في ذلك ومن غربيه: بأيدي عيال حمير وخلطائهم ومقالب السيل من مقربة عصر والعوارض المهريقة في ذلك وما يتصل به من محجر الغرس بأيدي ورثة السيد العالم الإمام يحيى بن محمد السراجي  والموقوف عليهم ( مصارف الوقف) كما نصت عليه الوثيقة السابقة: غلاتها تصرف أثلاثًا:

  1. الثلث الأول لضعفاء الأشراف الفاطميين
  2. الثلثان الآخران طعمًا في المسجد الجامع بمدينة صنعاء أحد هذين الثلثين للواقفين في الجامع المذكور من العلماء والمتعلمين والمفيدين والمستفيدين بالإقراء والقراءة في الجامع المذكور
  3. والثلث الباقي للواردين إلى الجامع الكبير من أبناء السبيل لكل وارد عشاء أو غداء ومما فضل من هذا الثلث الأخير صرف على المحتاجين بالمدينة المذكورة وإلى الواردين إلى قرية عصر من أهل العلم للإقراء والقراءة على حسب ما يراه المتولي

وعن تاريخ الوقف نصت الوثيقة بالنص الآتي: أنه كان في القرن السابع الهجري وصدر حكم شرعي بثبوته سنة 766هجرية من علامة اليمن الحسن النحوي صاحب كتاب التذكرة الفاخرة في فقه العترة الطاهرة

وتنص الوثيقة  على صدور الحكم في هذه الوقفية من القاضي عبد الله الوريث بثبوت الوقف في رجب 1407هـ الموافق مارس 1987م بسبب دعوى ملكية لبيت المهدي حيث أبطل ثبوت الملك لبيت المهدي وثبوت الملك للوقف المذكور

وما هي إلا مثل واحد كيف ستسهم في دعم العلماء والمتعلمين وتكون رادفًا كبيرًا لإخراج العلماء والخطباء والوعاظ والأدباء والقراء وأئمة المساجد، وهذا الرافد الكبير والمفترض أنه مؤسسة علمية خيرية كبيرة تنافس غيرها من المؤسسات العلمية كمصر والمغرب وغيرهما،

 

والمطلوب اليوم تزامنًا مع ثورة المستضعفين 21 سبتمبر 2015م والانتصارات المستمرة على تحالف قوى الشر الغازية هو العمل الجاد على النهوض بالعملية التعليمية الدينية الوسطية التي تميز بها هذا البلد منذ بزوغ الإسلام حتى اليوم، ومن خلال ريع هذا الأوقاف الضخمة على العلماء والمتعلمين في الجامع الكبير وتسليمه للهيئة العلمية تحت رقابة من كبار علماء اليمن بنظام محاسبي متخصص دقيق من خلاله يصل كل حق إلى صاحبه وقد يتساءل البعض من صعوبة إرجاع الأوقاف على ما وقفت عليه لأسباب كثيرة منها: أن أغلب عائدات الأوقاف التي تورد إلى الوزارة أكثر مصروفاتها  للوزارة كمرتبات الموظفين ونفقات وغيرها وهي بحد ذاتها تعتبر مخالفة شرعية وقانونية لأنه لا يجوز للمتولي على الأوقاف أن يجعل معظم ريع وإيرادات الوقف لصالح الوزارة وميزانيتها حيث حرم الموقوف عليهم وأخرج الوقف عما أوقف عليه، ومثل هذه المشكلة قد تحل بضم كل موظفي وزارة الأوقاف إلى الخدمة المدنية ويضمون كبقية موظفي الدولة كالتربية والتعليم والصحة والجيش وغيرها، وبهذا توفر مبالغ طائلة تعين الدولة في التخفيف من أعبائها حيث سيوظف منها في الجانب التعليمي الشرعي والجانب الاجتماعي الإنساني.

ومن المشاكل أيضًا عدم وجود توثيق حقيقي وظاهر للعام والخاص لمسودات وأصول الوقف والاستثمارات الوقفية ويجد الباحث عن معرفة ذلك صعوبة كبيرة جدا جدا ومن المشاكل التي يجب الاهتمام بحلها من الجهات الرقابية العليا للحكومة هو الحالة المعتمة وفير الواضحة بما يتعلق بحسابات التوريد والمصارف والمعايير المتخذة في هذا الإطار مما يبعث القلق في أوساط المجتمع والمهتمين بهذا الجانب وما يتيح للمتنفذين والمفسدين العبث بأموال الوقف الذي يعد سببا يجلب على الأمة سخط الله وغصبه والعياذ بالله تعالى من ذلك.

صرف ريع الوقف  كل ما هو متعلق بالوارد والاستثمارات لكي لا تستطيع الجهات الرقابية من معرفة ذلك والمفترض أن الرقابة والتفتيش تعمل جادة في هذا المرفق  الوقفي بحيث يصلح الفساد ويعاقب المفسد ويعزل غير الكفئ وغير المؤهل.

ومن المشاكل عقود الإيجارات القديمة والحديثة والتي كانت على مبالغ زهيدة جدًّا وتجد المسؤول في وزارة الأوقاف يتعلل ويتعذر من صعبة معالجة الوضع إلا بالتدرج وهي مشكلة في ذاتها فمع التدرج سيبقى فارق السعر لاختلاف الزمان والمكان وستظل المشكلة كما هي، والحل لها في هذا أن أغلب المستأجرين مؤجرون لما استأجروه وفيها مخالفة قانونية وشرعية وقد زادوا وحسنوا فيما أجروه من أموال الأوقاف ليدر عليهم إيجارات كبيرة والحل لها في ذلك عقد الإيجار بسعر الزمان والمكان ويسلم المستأجر من الأوقاف نصف الإيجار نقداً والنصف الآخر يخصم من تكلفة الزيادة والتحسين الذي فعله المستأجر وبهذا تبرئ ذمة المستأجر للوقف وذمة المسؤول عن الوقف، وإذا كان هذا الْمُستَغل للوقف قد استأجر وقفاً بمبلغ زهيد في السنة وقام بتأجيره بأضعاف مضاعفة قد لا يتخيلها الإنسان، ألا يعد هذا من أنكر المنكرات ومن الواجب توعية هذا المستغل وأنه يقترف جرماً كبيراً بظلمه للواقف والموقوف عليهم وأنه يعتبر في دائرة الاكتساب غير الشرعي، فتوعية هؤلاء توعية دينية وتوعية قانونية يخفف مما تعلل به مسؤولو الأوقاف، ومن الحلول أيضاً تحديد الوقف كوقف في السجل العقاري وعلى المباني وفي كل العقود وسواء كانت استثمارية أو إيجار أو صيانة أو غيرها، وتوثيق كل ما هو وقف وفيما وقفت فيه وحصرها في سجل ينشر كبقية المنشورات مثل فهارس المكاتب العامة وغيرها ويباع في الأسواق ليعرف كل قاص ودان بالوقف،

ومن المعول عليه اليوم إرجاع كل وقف أُخذ من قبل المتنفذين وتسوية الحلول العادلة في المستهلك منها، وإرجاع ما في يد القطاع الحكومي إرجاعًا مباشراً أو غير مباشر بغرض الإيجار العادل  لما تم استغلاله في السنوات السابقة وإبرام عقود جديدة بسعر الزمان والمكان.

وللعلم أن المرافق التابعة للجامع الكبير من بيوت مجاورة ومنازل لطلاب العلم المهاجرين والوافدين للجامع الكبير في حالة يرثى لها فمنها المغيب، ومنها المستغل، ومنها المغتصب، وبذلك قل دور العلماء والمتعلمين لعدم توفر المساكن التي تأويهم والوفرة المادية التي تسد احتياجاتهم، فالجامع الكبير بصنعاء بحاجة لرعاية شعبية وعلمائية ورسمية، المفترض إعادة إعمار مساكن العلماء والمتعلمين التي توفر للعلماء والمتعلمين وبها يستطيع العالم أداء رسالته ويستطيع طالب العم دراسة العلوم الشرعية وقد وفر له كل مقومات التعليم الشرعي من قاعات دراسية ومكتبات بحثية متخصصة المصاحبة للتطور التكنولوجي المعاصر ولابد لمخرجاته من اعتبار رسمي يماثل غيره من المدارس والجامعات، ويجب البحث عن كيفية توسعة أداء الجامع الكبير التنويري والإرشادي والعلمي وتنظيم ذلك عبر وسائل وطرق حديثة وناجحة ونافعة ليستعيد مكانته وتجنى ثمرته.

 


([1]) ينبع كان حصناً له نخيل وعيون وزروع وهو بطريق حاج مصر.

([2]) موضع بين مكة وواسط.