دروس من ليلة القدر

نشر بتاريخ: أحد, 26/06/2016 - 12:12ص

إن هذه السورة المباركة بدأت بالحديث عن القرآن الكريم وتحدثت عنه بالإشارة والإضمار باعتباره شيئا مهما ومعروفا وخالدا في نفوس أهله ومتجذرا في أذهانهم ولأنه بهذه الصفة لم تحتاج هذه السورة أن يذكر فيها القرآن صراحة تقديرا له وتعظيما لشأنه، وربنا سبحانه وتعالى لا يعظم شيئا إلَّا وهو يستحق التعظيم  فالقران عظيم لأنه كتاب الله ولأنه أنزل على خير رسل الله ولأنه الكتاب الخالد ولأنه المهيمن على جميع الكتب والناسخ لجميع الكتب السماوية، ولذا عَظُمَتْ أمة هو كتابها، وشَرُفَ شهر أنزل فيه، وقُدرت ليلةٌ أنزل فيها، يقول الله جل جلاله في القران الكريم ﴿وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلا، قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا، وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا، وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا﴾[الإسراء: 105- 109]

هذا هو القرآن كما تحدث عنه الله وهكذا أمر الله رسوله أن يقرأه على الناس، وهكذا هم الناس أمام القرآن، منهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به ولكن وحدهم الذين أوتوا العلم والإيمان من يؤثر القرآن فيهم ﴿إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا﴾ ويسبحون الله عند سماع آياتة وقراءة سوره ويخرون للأذقان يبكون من خشية الله، ومن أثر القران في نفوسهم ويزيدهم خشوعا وخضوعا لربهم سبحانه وتعالى، هذا هو القران وهكذا يعمل بالمؤمنين وهكذا ينبغي ان نتعامل معه من اجل أن يحصل منه الغرض المنشود  ﴿وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون﴾ ويقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم ((القرآن هدى من الضلال، وتبياناً من العمى، واستقالة من العثرة، ونوراً من الظلمة، وضياء من الأ حداث، وعصمة من الهلكة، ورشداً من الغواية ، وبياناً من الفتن، وبلاغاً من الدنيا إلى الأخرة، وفيه كمال دينكم، وما عدل أحد عن القرآن إلا إلى النار)) ويقول أمير المؤمنين  عليه السلام في القران (إن الله تبارك وتعالى لم يجعله لزمان دون زمان ولناس دون ناس فهو في كل جديد وعند كل قوم غض إلى يوم القيامة) وقال عليه السلام فيه أيضاً ((إن القرآن ظاهره أنيق، وباطنه عميق، لا تفنى لا عجائبه، ولا تنقضي غرائبه، ولا تكشف الظلمات إلَّا به))،

هذا هو الكتاب الذي صُدِّرت به هذه السورة المباركة لعظمته وجلالة شأنه، وهكذا يجد المتصفح لسور القرآن  الكريم أن ما من سورة  إلا وذكر فيها القرآن تصريحاً أو تلميحاً ككتاب هداية ونور ورحمة من الله جل شأنه يقول ربنا سبحانه وتعالى ﴿إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا﴾[الإسراء:9] ومن أهم ما بشر به القرآن الكريم المؤمنين ونبههم عليه هو العمل الصالح في هذه الليلة المباركة من أجل نيل الخير الوفير والأجر الكبيرعند سبحانه وتعالى، وهذه الليلة سُميت بليلة القدر يعني ذات القدر والمكانة ، نعم  لأنها ليلة الاتصال المطلق بين السماء والأرض، ليلة بدء نزول القرآن على قلب محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ليلة ذلك الحدث العظيم الذي لم تشهد في عظمته وفي دلالاته العظيمة التي لا يحيط بها الأدراك البشري {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْر، لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْر} هذه الليلة هي تلك التي تحدث الله تعالى عنها في سورة الدخان بقوله {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِين، فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيم، أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِين} هذه الآيات  التي تتحدث عن هذه الليلة تكاد تشع نورا  وهداية  ومعرفة وعلما  أنزلنا  الضمير يعود إلى الله سبحانه وتعالى  الرحيم بعباده اللطيف  بخلقه العالم بما يصلح أمورهم ومن رحمته ولطفه وفضله عليهم أنه جعل لهم ليلة واحدة تعدل عشرات السنين 

جاء في الأثر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عرضت عليه أعمار الأمة فتقاصرها فأعطي ليلة القدر وجعلت خيرُ من ألف شهر وهذا من فضل الله على أمة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم بأن خصها بخصائص لم تكن لمن تقدمها من الأمم السابقة

ومن الدروس أن مسألة التفضيل من السنن الكونية الثابتة  في جميع الأشياء والمختص بها هو الله سبحانه وتعالى هو سبحانه الذي يفضل هذا على هذا حتى في أنبيائه ورسله نص على ذلك القران الكريم في قوله تعالى، ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ وفي آية اخرى يقول الله تعالى ﴿وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا﴾[الإسراء:55] وفضل بعض الشهور على بعض فقال تعالى  إن عدت الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله منها أربعة حرم

وفضل بني آدم على سائر المخلوقات فقال سبحانه ﴿وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا﴾.

وفضل بعض بني آدم على بعض في هذه الحياة الدنيا فقال جل وعلا ﴿انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا﴾[الإسراء:21].

وكذلك فضل هذه الليلة على سائر الليالي واصطفاها من  بين أيام العام  ليلة القدر خير من ألف شهر.

واللازم أن يستغل هذا الفضل في طاعة الله ويستثمر في نيل رضاه وإلا فلا فائدة فيه ولا جدوى منه.


ومن الدروس المستفادة :

إن هذه الليلة  فرصة تساوي نيل الأعمار الطويلة فمن أدرك ليلة القدر وقامها إيمانا واحتسابا  لمدة عشر سنوات، فكأنه قد تعمر ثمانمائة وعشرون عام  وهكذا إلى أن يصل الأنسان المؤمن بعمره القصير الذي لا يتعدى مائة عام في الغالب  قد يصل بعمره باستغلاله لهذه الفرصة إلى آلاف السنين

ومن الدروس المستفادة:

أن العبرة ليست بطول الأعمار وإنما بحسن الأعمال  وفضيلة الزمان تكمن بما يقع فيه من الفضائل وصالحات  الأعمال

ومن الدروس المستفادة:

إن الملائكة تتنزل في هذه الليلة التي أنزل فيها القرآن لتقيم حفلا ملائكيا ومهرجانا عظيما، وينزل معهم أمين الوحي جبرائيل، ويسلمون على كل راكع وساجد من وقت غروب الشمس حتى مطلع الفجر.

 ومن الدروس في قوله تعالى (سلام هي حتى مطلع الفجر) فهذه هي ليلة منسوبة  إلى السلام سبحانه وتعالى فالله هو السلام ويريد للأمة الإسلامية السلام وللعالم السلام والأمان ويريد السلامة للمجتمع من الرذيلة ويريد سلامة القلوب والنفوس من الأحقاد ويريد سلامة العقول من التفكير السيء ويريد سلامة العلاقات من الانحرافات ولا يمكن  أن يتحقق السلام في هذا العالم إذا لم يكن برعاية القرآن الكريم المنزل في ليلة القدر وأهم غاية من أن إنزاله هي ما حكاه الله في قوله ﴿يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم﴾[المائدة:16].

ومن الدروس المستفادة أن هذه الليلة ليلة ولادة الإسلام على وجه هذه الأرض بنزول القرآن وبداية التغيير في هذا الوجود فيجب أن تكون نقطة تحول وبداية تغيير في حياة الأمة الإسلامية على مستوى الأفراد والجماعات لا أن تكون قضية عابرة تؤدى فيها طقوس معينة كما يفهمها البعض وتمر مرور عليهم الكرام.

الدلالات: