انتفاضة القدس - ارتباك العدو وعجز السلطة

نشر بتاريخ: ثلاثاء, 19/01/2016 - 11:43ص

لم يعد خافياً على جميع المراقبين للمشهد الفلسطيني أن الانتفاضة التي انطلقت في الأراضي الفلسطينية المحتلة بداية شهر أكتوبر الماضي قد أدخلت حكومة الاحتلال الصهيوني حالة من الارتباك والإحباط..

ذلك لأن هذه الانتفاضة التي تحمل اسم «انتفاضة القدس» هي انتفاضة شبابية لا يقف وراءها أي فصيل أو حركة من فصائل وحركات المقاومة الفلسطينية المعروفة.. وهو الأمر الذي وجدت حكومة الاحتلال نفسها أمامه عاجزة عن اتخاذ إجراءات من تلك التي اعتادت على اتخاذها تجاه الفصائل والحركات الفلسطينية كالقيام باعتقال قادتها ونشطائها أو القيام بممارسة الضغوط عليها سياسياً من خلال بعض الأنظمة العربية وعلى رأسها النظام السعودي الذي اعتادت حكومة الاحتلال الصهيوني استخدامه في الضغط على محمود عباس وبعض قادة «فتح» والسلطة الفلسطينية..والنظام القطري الذي اعتادت حكومة الاحتلال استخدامه في الضغط على خالد مشعل وبعض قادة «حماس»..

وهذا من وجهة نظر العديد من المراقبين السياسيين هو السبب الأبرز لحالة الارتباك والإحباط التي دخلتها سلطات الاحتلال وعلى رأسها السلطات الأمنية والعسكرية الصهيونية التي تقوم بالتنسيق الأمني مع سلطة رام الله في إطار اتفاق أوسلو الذي تنصلت منه الحكومات الصهيونية المتعاقبة باستثناء الجانب الأمني منه الذي تتمسك به سلطات الاحتلال وتتعامل بموجبه مع السلطة الوطنية الفلسطينية برئاسة محمود عباس وكأنها قسم شرطة مهمتها الرئيسة ممارسة القمع على أبناء الشعب الفلسطيني وحماية أمن الكيان الصهيوني من أي تحرك من قبل أي فصيل من فصائل المقاومة، ومنع أي تحرك شعبي فلسطيني بما في ذلك القيام بالمظاهرات الجماهيرية احتجاجاً على سياسات وممارسات سلطات الاحتلال الصهيوني..

ويقابل حالة الارتباط والإحباط الصهيونية حالة عجز واضح لدى سلطة محمود عباس عن عمل أي شيء من شأنه وقف الانتفاضة في ظل ضغوط أمريكية وسعودية غير معلنة عليها..

ووفقاً لعدد من المراقبين فإن أجهزة أمن السلطة وعلى الرغم من استمرار التنسيق مع أجهزة الأمن الصهيونية لن تتمكن من وقف انتفاضة القدس..

وقد تحدثت مصادر صحفية فلسطينية عن قيام النظام السعودي بقيادة «مجموعة الضغط» على رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس وهي مجموعة ذات ارتباط كبير مع سلطات الاحتلال الصهيوني وتقوم بهذا الدور لخدمة أهداف مشتركة مع تل أبيب على حساب الشعب الفلسطيني وقضيته وفقاً لما ذكرت صحيفة «المنار» الفلسطينية نقلاً عن مصدر وصفته بالمطلع..

وقالت الصحيفة أن المصدر «كشف عن اتهام النظام السعودي القيادة الفلسطينية بمحاولة عرقلة مخططاتها في المنطقة من خلال رفض استئناف المفاوضات مع «إسرائيل» وعدم القيام بمحاولات جادة لاحتواء انتفاضة القدس ووقفها).. وأضافت «المنار»:

(ويقول المصدر أن النظام الوهابي أبلغ بصلف وصفاقة القيادة الفلسطينية بأن قضايا المنطقة وما يجري في الساحة العربية أهم بكثير من القضية الفلسطينية)..

ويعكس ما نشرته صحيفة «المنار» الفلسطينية حالة الارتباط والإحباط التي امتدت لتطال النظام السعودي نتيجة انتفاضة القدس إلى الحد الذي أصبح هذا النظام يعتبر عدوانه العسكري الهمجي الجبان والغاشم على اليمن أهم بكثير من القضية الفلسطينية.. فعندما يبلغ نظام آل سعود محمود عباس بأن قضايا المنطقة وما يجري في الساحة العربية أهم بكثير من القضية الفلسطينية فإنه يعني بكل تأكيد ما يجري من أحداث ساخنة، وكما هو معروف فإن الساحة العربية لا تشهد أحداثاً أكثر سخونة من العدوان العسكري الذي يشنه النظام السعودي بمشاركة الولايات المتحدة الأمريكية والكيان الصهيوني على اليمن، وما تشهده سوريا من حرب عدوانية تدميرية للعام الخامس على أيدي عصابات داعش والقاعدة وجبهة النصرة وغيرها من العصابات الإرهابية التي يحركها ويقوم بتمويلها وتقديم كل أشكال الدعم والمساندة لها النظام السعودي ومن وراءه الولايات المتحدة والكيان الصهيوني.. وكذا ما يشهده العراق من محاولات محمومة من جانب الولايات المتحدة لتقسيمه وتفتيته إلى ثلاث دويلات شيعية وسنية وكردية خدمة وتنفيذاً للمشروع الصهو- أمريكي..

وهذا يعني بوضوح أن قتل أبناء الأمة العربية وتدمير وتفتيت بلدانها ودعم العصابات الإرهابية أهم بكثير بالنسبة للنظام السعودي من القضية الفلسطينية التي يعد إنقاذ المسجد الأقصى المبارك وتحريره من دنس الصهاينة جوهرها.. كما يعني أيضاً أن هذا النظام لا يتحرك إلا في إطار الأجندة الصهيو - أمريكية وأن قضايا الأمة العربية وفي مقدمتها القضية الفلسطينية وتحرير أولى القبلتين وثالث الحرمين من دنس الاحتلال لا تعنيه من قريب أو بعيد..

ويشير عدد من المحللين السياسيين إلى أن ما يدفع سلطات الاحتلال الصهيوني ومعها النظام السعودي والولايات المتحدة إلى التخوف من انتفاضة القدس بهذه الصورة ما تحدثت عنه تقارير استخبارية نشرتها بعض وسائل الإعلام في إطار تغطيتها للانتفاضة ومتابعة تطوراتها حول قيام جيل الانتفاضة بالبدء في تشكيل قيادات له بعيداً عن أية ارتباطات أو علاقات فصائلية ، واصفة هذه القيادات بالواعية التي تدرك ماذا تريد وإلى أين هي متجهة.. وأن إشارات تظهر من خلال يوميات الانتفاضة تؤكد أنها ستدخل مراحل جديدة قد تصل إلى حد تنفيذ عمليات صعبة ونوعية ضد الاحتلال بما في ذلك العمليات الاستشهادية..

وهذا التخوف هو ما دفع نظام آل سعود بإيعاز أمريكي إلى التحرك السريع باتجاه عقد لقاءات مع مسؤولين صهاينة من المستويين السياسي والعسكري وفقاً لماذكرته مصادر فلسطينية أشارت إلى أن هذه اللقاءات تهدف إلى صياغة ما يسمى بـ «حل انتقالي» للقضية الفلسطينية وفرضه على الشعب الفلسطيني بوسائل مختلفة..

ووفقاً لهذه المصادر فإن النظام السعودي أبلغ قيادة السلطة الفلسطينية بلهجة تهديد بضرورة العمل سريعاً لوقف الانتفاضة تمهيداً لحل قادم تشارك في صياغته «السعودية» مع «إسرائيل»، وأن النظام السعودي سيضمن إسناداً ودعماً عربياً له..

ومايسمى بـ «الحل الانتقالي» ليس سوى خطوة سعودية نحو تصفية القضية الفلسطينية وإنقاذ الكيان الصهيوني وتعيد إلى الأذهان ما سمى بـ «مبادرة السلام العربية» التي تم إقرارها في قمة بيروت عام 2002م والتي هي في الأساس مبادرة سعودية أطلقها الأمير فهد بن عبدالعزيز في أغسطس عام 1981م عندما كان ولياً للعهد وقبل أن يصبح فيما بعد ملكاً للسعودية وعرفت باسم «مبادرة الأمير فهد».. ثم عاد طرحها الأمير عبدالله عبدالعزيز في فبراير عام 2002م عندما كان ولياً للعهد وقبل أن يصبح ملكاً أيضاً..

مبـــادرة فهـــد

تتكون مبادرة فهد بن عبد العزيز الذي من ثماني نقاط تتضمن اعترافا ضمنيا بوجود إسرائيل حيث أقرت المبادرة بحق كافة دول المنطقة في العيش بسلام.

ودعت مبادرة فهد -التي اعتمدت بشكل كبير على قرار مجلس الأمن رقم 242- إلى إقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية التي ضمتها إسرائيل رسميا بعدها بعام إلى أراضيها.

وقد اصطدمت المبادرة عندما طرحت على قمة فاس الأولى في نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 1981 بالخلافات العربية حيث استمرت القمة لمدة أربع ساعات فقط لتنتهي بفشل كبير كان مرده إصرار دول مثل سوريا والجزائر وليبيا والعراق إضافة إلى منظمة التحرير الفلسطينية على حذف البند السابع من الخطة الذي يتحدث عن اعتراف ضمني بإسرائيل.

لكن المبادرة أعيد طرحها من جديد على قمة عربية ثانية عقدت في فاس أيضا بعد ذلك بعدة أشهر في عام 1982. حيث تم إقرارها رسميا من قبل القمة بعد أن رأى المشاركون في القمة خصوصا سوريا أنها لا تتضمن أي تنازل عن الحقوق العربية وأنها تتفق مع قرار مجلس الأمن 242.

 

مبادرة عبد الله

دعت المبادرة في بادئ الأمر إلى الانسحاب الإسرائيلي الكامل من الأراضي العربية التي تحتلها عام 1967 بما فيها القدس الشرقية, وفق قرارات الأمم المتحدة, مقابل «التطبيع الكامل» للعلاقات بين العرب وإسرائيل.

ولقيت المبادرة استحسان الولايات المتحدة وتأييد غالبية الدول العربية وأصبح من الضروري أن تقرها قمة عربية كي تصبح خطة سلام عربية قابلة للتطبيق. ورغم أن الصورة النهائية للمبادرة لم تتبلور نهائيا إلا أن الأفكار التي تتضمنها تذكر بمبادرة فهد للسلام.

ولتفادي تكرار السيناريو الذي حدث في قمة فاس الأولى، فإن خطة السلام السعودية لعام 2002 تمت مناقشتها أولا خلال اجتماعات وزراء الخارجية العرب التي عقدت بين الثامن والعاشر من شهر مارس/ آذار من ذلك العام في القاهرة.

وقد أخذت السعودية خلال تلك الاجتماعات في الاعتبار موقف سوريا الداعي إلى استبدال تعبير «التطبيع الكامل» بـ «السلام الشامل» باعتبار أن الصيغة الأخيرة تتعلق بالعلاقات الدبلوماسية بين الحكومات في حين أن التعبير الأول يخص العلاقات بين الشعوب.

وقد اتفق على استخدام تعبير «الانسحاب الكامل مقابل السلام الشامل» باعتبار مسألة التطبيع تعود في نهاية الأمر إلى القرارات السيادية لكل دولة.

وباستثناء ليبيا التي أبدت تحفظها على أفكار الأمير عبد الله فإن المبادرة السعودية حظيت بموافقة جماعية من باقي الدول العربية. في حين قرر  العراق  أن يأخذ موقفا حياديا من المبادرة على أمل الحصول في المقابل من قمة بيروت على إدانة للتهديدات الأميركية ضد العراق.

وهنا نجد من المفيد الإشارة إلى أنه بعد مبادرة الأمير فهد قام الكيان الصهيوني باجتياح لبنان وصولاً إلى العاصمة بيروت التي حاصرها الاحتلال وحاصر التيارات الفلسطينية داخلها وانتهت عملية الاجتياح والحصار بخروج القيادات والقوات الفلسطينية من لبنان إلى اليمن والسودان وتونس واحتلال الجنوب اللبناني وارتكاب مجزرة «صبرا وشاتيلا» الشهيرة بحق اللاجئين الفلسطينيين في لبنان ، وبعد عامين من إجبار قوات الاحتلال الصهيوني على الانسحاب من الجنوب اللبناني عام 2000م على يد أبطال المقاومة اللبنانية جاء طرح ولي العهد السعودي حينذاك الأمير عبدالله بن عبد العزيز لمبادرته على قمة بيروت عام 2002م ومثلما قابل كيان الاحتلال مبادرة الأمير فهد باجتياح لبنان وحصار بيورت فقد قابل مبادرة الأمير عبدالله بمحاصرة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات في مقره بالمقاطعة بمدينة رام الله والهجوم المسلح عليه ولم يخرج من ذلك الحصار إلا بين الحياة والموت بعد أن تم تسميمه حيث جرى إسعافه إلى أحد المستشفيات الفرنسية وتوفي هناك..

وهاهو النظام السعودي يصيغ مبادرة جديدة تحت اسم «الحل الانتقالي» معيداً إلى الأذهان ما قام بصياغته وطرحه في الماضي من «مؤامرات» أسماها «مبادرات» ومارس الضغوط من أجل إسنادها ودعمها وإقرارها عربياً..

وهاهو اليوم يقول إنه سيضمن إسناداً ودعماً عربياً للمبادرة التي يقوم هذه المرة بصياغتها مع «إسرائيل» ؛ ليفتح من خلالها الطريق أمام كيان الاحتلال للقيام بعمل ما ربما لن يختلف كثيراً عن اجتياح لبنان عام 1982م ومهاجمة ياسر عرفات وحصاره وقتله مسموماً عام 2002م..

وعندما يقول النظام السعودي أنه يقوم مع «إسرائيل» بصياغة «الحل الانتقالي» فإنه يحاول الإيحاء بأن الكيان الصهيوني سيوافق على هذا الحل أو هذه المبادرة ولن يرفضها كما رفض مبادرة قمة فاس ومبادرة قمة بيروت من قبل.. ويعرف كل السياسيين والمراقبين للشأن الفلسطيني أن المبادرة السعودية التي طرحها الأمير فهد وبعده الأمير عبدالله هي في الأساس «مبادرة» قامت الدوائر الصهيو- أمريكية بصياغتها وقام النظام السعودي بطرحها والضغط على العرب بقبولها موحياً إليهم أنها ستحظى بقبول الكيان الصهيوني..

 

ومن خلال هذا كله يمكن بسهوله استنتاج أن التحرك السعودي في اتجاه صياغة المبادرات والحديث عن ما يسميه «الحل الانتقالي» جاء بدافع إخراج الكيان الصهيوني من حالة الارتباك والإحباط التي يعيشها بفعل تصاعد انتفاضة القدس..

لكن يبدو من خلال المعطيات على الأرض وفي مقدمتها عدم وقوف أي فصيل أو حركة من فصائل وحركات المقاومة وراء الانتفاضة إضافة إلى عجز السلطة الفلسطينية الواضح عن عمل أي شيء من شأنه وقفها حتى الآن، يبدو أن التحرك السعودي سيبوء بالفشل وأن الانتفاضة ستدخل مراحل جديدة تزيد من ارتباك العدو الصهيوني وتجبره على الرضوخ للمطالب المشروعة للشعب الفلسطيني وفي مقدمتها حقه في تقرير مصيره وإقامته دولته المستقلة طال الزمن  أو قصر..