العظمة لله تعالى

نشر بتاريخ: سبت, 12/09/2015 - 5:04م

مقاييس العظمة المتعارف عليها عند البشر لا تخلو من النظرة المادية الظاهرية ,فيقال هذا عظيم لأنه يملك مالا كثيرا ,وذاك عظيم لأنه يملك سلطانا وأمرا ونهيا ,وهذا عظيم لأن له وجاهة ما لدى الناس ,وفي القليل والنادر أن يقال هذا عظيم لأنه مؤمن تقي ,وذاك عظيم لأنه يحمل أخلاقا فاضلة وشمائل حسنة ,وهذا عظيم لأنه يحمل علما نافعا ,أو صاحب أمانة ونزاهة ,أو صدوق اللسان أو صاحب وفاء .

لكن حينما نصف الله بالعظمة فنقول الله عظيم كما وصف نفسه بقوله تعالى  ( وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ )  فعظمة الله بخلاف ما ذكر تماما ,وإن كان هناك اشتراك لفظي بينها وبين عظمة المخلوق بالمقاييس التي ذكرنا لكن الفرق في المعنى كبير وكبير جدا .

عظمة المخلوق هي بما يملك من المال أو بما في يده من سلطان أو ما يتحلى به من شمائل حسنة وخصال خير إلا أن كل تلك العظمة التي يدعيها البشر لأنفسهم هي عبارة عن منحة من عظمة الله العظيم ,أما العظمة الحقيقية فهي لمالكها على الحقيقة وهو الله تعالى .

كيف يدعي هذا البشر الضعيف العظمة لنفسه وهو لا يستطيع أن يستقل بنفسه ويؤمّن حاجته للحظة واحدة , ألا يستحيي هذا الإنسان من ادعاء العظمة وهو يحتاج في يومه للقمة الطعام التي خلقها صاحب العظمة الحقيقية , وهو محتاج لشربة الماء التي يروي بها ظمأه ,وهو مضطر إلى نسمة الهواء في كل لحظة ليرى نور الحياة ,وهو محتاج للخيط الواحد الذي ينسج منه ملابسه التي يواري بها عورته ويظهر بها في صورة مقبولة يمشي بها بين الناس .

كيف يتمكن أن يستشعر هذه العظمة الزائفة إذا حبست تلك النعم التي مكَّنتْه من الحياة بداخل جسمه؟! ,كيف تتحول تلك النعم  إلى نقمة وعذاب؟! ,تصوروا كيف إذا استنشق الإنسان الهواء ولم يستطع زفر ما يضر جسمه منه؟! ,كيف إذا أدخل الطعام ولم يستطع إخراج فضلاته؟! ,كيف إذا شرب الماء العذب ولم يستطع التخلص من الماء الضار في أحشاءه وعروقه , كيف إذا حبست هذه الأمور بجسم هذا العظيم وجئته وهو على هذه الحال تعظّمه وتبجّله ألا يصرخ فيك قائلاً: أنا أحقر الناس ,أنا أضعف الخلق ,أنا أهون موجود أنقذوني أنقذوني .

فهذا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو العظيم عند الله بحق ,عظيم بما يحمل من صفات الكمال البشري ,لكنه لا يُشعِر نفسه بالعظمة , فيأتيه صلى الله عليه وآله وسلم رجل فيكلمه وهو يرتعد وكأنه بين يدي سلطان من أهل الجبروت فيقول له صلى الله عليه وآله وسلم (هوّن عليك فإنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد في هذه البطحاء ) .

وهذا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وقد أصبحت بيده مقاليد الحكم والأمر والنهي يقول عليه السلام معلماً  رعيته (فلا تكلموني بما تُكلم به الجبابرة ولا تتحفظوا منى بما يُتحفظ به عند أهل البادرة).

وهو عليه السلام الشجاع القوي الذي يهابه ويرتعد من بأسه الشجعان والفرسان يعظ بني آدم بما يشعرهم أنهم لا شيء في هذا الكون الفسيح قال عليه السلام (مسكين ابن آدم! مكتوم الأجل، مكنون العلل، محفوظ العمل، تؤلمه البقة، وتقتله الشرقة، وتنتنه العرقة ).

  فأنت أنت يا الله وحدك العظيم وأنت أنت الجبار الذي لا يملك مخلوق من جبروتك شيء ,وأنت أنت الذي بيدك ملكوت كل شيء ,وأنت أنت يا الله الذي غناك لا يكون بما تملك ؛ بل أنت الغني من دون حاجة منك إلى شيء من ملكوتك, أنت الله الإله الكامل الكامل.

    فأنت تعالى العظيم في صفاتك لأنك أنت الذي  ({لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ) [الشورى: 11] وأنت تعالى العظيم في أفعالك لأنك أوجد ت كل الأشياء من العدم المحض{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ} [الأنعام: 102]

 وأنت الله العظيم لأنك أنت لا سواك المالك لما في السموات والأرض{وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [المائدة: 17]

وأنت العلي على خلقك لأنك أنت من بيده حياة الخلق وموتهم {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحج: 6

وأنت تعالى العظيم لأن بيدك ما يتعاظم به الخلق من الرزق والعطاء , وأنت الذي بيده البلاء والتمحيص وبيده الصحة والمرض والشفاء ,بيدك يا الله مقاليد الأمر والنهي في سماواتك وأرضك {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [الشورى: 12]

فأنت يا الله العظيم على  الحقيقة لأنك أنت من  بيده أسباب العظمة وأدواتها (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [الشورى : 4]

وأنت الذي عظمتك ,وقبضتك واستيلاؤك على خلقك لا يتعبك ولا يرهقك {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [الأحقاف: 33] {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق: 38].

روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في وصف عظمة الله تعالى  أنه قال: ((إن الله لا مِثل له بوجهٍ من الوجوه في صفةٍ من صفات العظمة)).

فالله هو العظيم في قدرته وخلقه ؛ لأنه هو الذي خلق الخلق كلهم لا غيره على اختلاف مركباتهم ,فهذا بشر وهذا حجر وذاك شجر ,وهنا ماء وهناك هواء , وهنا أرض وهناك سماء ,والعظمة هو أنه خلقها لا لحاجته في أن يستعظم بها ,وعظمة هذا الخالق العظيم أنه خلق هذه المخلوقات من غير أصول أوّلية , والاعظم من هذا كله هو أنه قادر على أن يخلق خلقا أعظم مما قد خلقه وأكثر من غير أن يكون بينها وبين ما قد خلقه أي شبه لا في الأصول ولا في التركيب ولا في الصور ,فهو الخالق العظيم القادر على أن يخلق عوالم كثيرة مختلفة الأصول والتراكيب ,فعظمة هذا العظيم أن قدرته العظيمة لا تقف عند حد أو نهاية (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ) [الواقعة : 74]

فهو العظيم بكل ما تعنيه كلمة عظيم ؛بل وأبلغ من ذلك فهو الذي عجزت عن نعته على الحقيقة أوهام الواصفين , فهو العظيم الذي {خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنعام: 101] عظيم لأنه هو الذي  (يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ) وهو الذي ( يُحْيِ الْمَوْتَى ) .

والأعظم من ذلك كله أن هذا الرب العظيم بيد حياة أخرى سيعيد الخلق فيها لا تساوي هذه الحياة شيئاً عند المقارنة بها (وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ  )[الأنعام : 32] ( فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ) [التوبة : 38] ( وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ ) [الرعد : 26] ( وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ  ) [النحل : 30]

وحينما نذكر عظمة الله تعالى لا شك أنها نظرياً من المسلمات بين أهل الإسلام ,ومسلّم أنه من الواجب على كل مكلف  أن يعظم الله تعالى حق التعظيم ,وأن الله هو العظيم على الحقيقة وأنه لا ينبغي لبشر أو مخلوق أن يدعي العظمة وهو يعلم حقيقة ضعفه وعجزه .

لكن هل نحن فعلا نعظم الله تعالى؟ وكيف نعظمه تعالى ؟ وهل نعي حق الوعي قول الله تعالى حين وصف نفسه في قوله تعالى  ( وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ) وهل نحن نعظم الله تعالى كما ينبغي ؟.

أسئلة ينبغي أن يطرحها المؤمن على نفسه ويجيب عليها بإجابة واضحة ,لا يجيب عليها في كتابات أو مقالات تنشر إنما يجيب عليها في خلوته بربه ,ولينظر إلى نفسه نظر أهل العبودية الخالصة ,فينظر هل هو عبد خالص لله في عبوديته؟ ,وهل هو يعظم الله تعالى تعظيم العبد لسيده ومليكه؟ ,تعظيم المحب لسيد نعمه ومولاها .

 ولينظر الإنسان في خلوته ومحاسبته لنفسه كيف يتعاظم البشر بعضهم بعضا؟ ,فيعظمون مَن بيده المال ,أو يعظّمون مَن بيده السلطان أو غيرها من الأمور الاعتبارية الزائلة, وهو يعلم أن هذا المعظم من صاحب مال أو صاحب سلطان لم ولن يقدر أن يخلق شيئا ولو يسيرا من ماله, ولا شيئا حقيرا من أدوات سلطانه, إذن فهذا الإنسان يتعاظم بشيء ليس له ولا هو الذي أوجده, فهو يدعي العظمة بما هو ملك لغيره إنه ملك لمن بيده ملكوت السماوات والأرض .

فإذا نظرت أيها الإنسان  إلى صفات العظمة والكمال في ربك العظيم  رجع طرفك حسيراً، وعقلك مبهوتاً.

والعظمة هي من الصفات التي لا تليق إلا بالله تعالى ولا يجوز للإنسان أن يدعيها ؛لأن ضعف المدعي لذلك سيجيب عليه ضعفه بأنك ضعيف ،فلا يجتمع الضعف والعظمة .

ورد في الحديث القدسي أن الله تعالى قال : (((الكبر ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني في أحدهما قصمته)).

فالتعظيم لله تعالى أن تستشعر عظمة الله في نفسك أولاً ,فإذا عظم الله في نفسك على الحقيقة فيجب أن يصغر في نفسك كل شيء دون الله ,ولذا يقول أمير العباد والزهاد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في وصف المتقين المعظمين لله تعالى ,قال عليه السلام : (عَظُم الخالق في أنفسهم فصَغُر ما دونه في أعينهم ) وقال عليه السلام :( عِظَمُ الْخَالِقِ عِنْدَكَ يُصَغِّرُ الْمَخْلُوقَ فِي عَيْنِكَ).

فإذا عظم الخالق في نفس المؤمن وصغر غير الله في عينه لا شك أنه لن يبالي بأحد في جنب الله ولن يخاف سطوة غير سطوة الله ,فتراه قويَّ الإيمان ,ثابت الأركان , لا تهزه أعاصير الخوف من بشر مثله ,ولا تأخذه الأوهام والظنون في ذات الله يمنة أو يسره ؛ بل هو على الصراط المستقيم والطريق الواضح .

فمن عظم الخالق في عينه لا شك أن منيته في الحياة إرضاء هذا العظيم الخالق ,يتعبد له برغبة وشوق فتراه في صلاته لا يحب مفارقة مناجاة المحبوب العظيم ,وإذا قرأ كتاب الله أشعر نفسه وكأنه في حديث مباشر مع رب العزة لأنه يقرأ كلامه.

ينطلق في حياته وأعماله ,وهو يرقب العظيم مستشعرا لحضوره معه ,فلا يتكلم إلا بما يرضيه ,ولا يعمل إلا ما يوافق شرعه وقانونه ,علاقته مع غيره من البشر ؛بل مع كل ما خلق الله مرهون برضاء الله العظيم , يحب من أحب العظيم ويبغض من خالف الله العظيم ,يُعد نفسه جنديا من جنود ربه ,يمنح مهجته وفؤاده لله ؛لأنه متجه إلى الله فهو يحب في كل لحظة أن يلقاه وهو راض عنه ؛ليخلد في دار الخلود التي لها سعيه  (مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) [العنكبوت : 5] ( وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) [يونس : 25] مسيرته في الحياة هي هذه ؛لأنه من الذين (عظم الخالق في نفوسهم فصغر ما دونه في أعينهم ) فلم يعد يهمه من يرضى عنه من الناس أو يسخط , أو من يذم أو يمدح ؛لأنه في رضاء العظيم ومن بيده العظمة على الحقيقة .