معركة بدر الدّوافع والغايات

نشر بتاريخ: ثلاثاء, 07/07/2015 - 5:35م

اتّخذت المواجهات في المراحل الأولى من الدعوة إلى الإسلام طابعاً سلمياً، بالرغم من المضايقات وحملات التشكيك والضغوط التي مورست على المسلمين من قبل مشركي قريش. ولكن الصراع بدأ يأخذ منحى مختلفاً بعد هجرة المسلمين إلى المدينة، حيث أضحى لديهم مجال لحرية الحركة، واتسع هامش مناورتهم، فسعوا إلى الإمساك بزمام المبادرة، والعمل على مراقبة تحركات قريش، ورصد تجارتها، بقصد إيجاد حالة من القلق والخوف على المصير، ما أنبأ بقرب حصول المواجهة العسكرية الأولى في "بدر"، والتي كشفت بروز المسلمين كقوة، مع ما يحمل ذلك من مضامين سياحية وفكرية واقتصادية، دفع بالمؤرخين والباحثين إلى تبني وجهات نظر مختلفة في تحديد أهدافها وغاياتها والعوامل المحركة لها، وسوف نعالج هذه المسألة ضمن نقاط:

هل كانت بدر من أجل الغنيمة؟

النقطة الأولى: إنّ مؤرخي السيرة يتحدثون عن قصة بدر، بأن بدايتها لم تكن إلا محاولةً للاستيلاء على القافلة التجارية لقريش، من أجل الحصول على ما فيها من بضاعةٍ ومال، وبذلك، يحاول البعض أن يجعل منها امتداداً لأسلوب الغزو العربي في الاستيلاء على أموال الآخرين. ويحاول هؤلاء أن يوجّهوا النقد من خلال ذلك للنبّي(ص)، وللإسلام كذلك، بإعطائه الوجه العدواني الذي يعمل على اتباع سياسة الغزو من أجل الغنيمة، لا من أجل الوصول إلى الأهداف الكبيرة التي تتمثل فيها قيم الحياة، وهذا ما تعبّر عنه الرواية التي رواها صاحب الطبقات، أن النبي(ص) قد ندب المسلمين للخروج معه، وقال: هذه عير قريش، فيها أموالهم، لعلّ الله أن يغنمكموها، فأسرع من أسرع إلى ذلك، وأبطأ عنه بشر كثير، وكان من تخلّف لم يُلم، لأنهم لم يخرجوا على قتال إنما خرجوا للعير[1].

فكيف نواجه هذا الاتجاه في تفسير المعركة؟ هذا ما نحاول أن نتحدث عنه في هذه النقطة ضمن عدة جوانب:

1ـ لعلَّ من أفضل الوسائل للوصول إلى طبيعة هذا الحدث، هو استنطاق الآيات القرآنية التي تحدثت عن ظروف خروج المسلمين، ودعوة الرسول لهم، ونوعيّة الأهداف المطروحة في الساحة في تلك الأجواء التي رافقت الدعوة، فإنها المصدر المعصوم الصادق في ما نريد أن نستوحيه من أحداث المعركة.

قال تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ* يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ * وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ* لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}[2].

نستوحي من هذه الآيات، أنّ القضية كانت منذ بدايتها خاضعةً لاحتمالات المعركة، وذلك من خلال الإشارة إلى ما وعدهم الله من إحدى الطائفتين أنّها لهم؛ إمّا الغنيمة، وإمّا القتال، وكان التقاعس والتخوّف لدى المؤمنين منطلقاً من طبيعة الخطورة الناشئة من الدعوة، ، من خلال شعورهم بالرهبة من قوّة قريش، هو ما جعلهم يتمثّلون الخطر كما لو كان ماثلاً أمامهم.

وعندما تهيّأت ظروف المعركة وأجواؤها، لم تكن المواجهة للقافلة إلا وسيلةً من وسائل إيصال الموقف إلى مستوى التحدي الذي يدعو قريش إلى القيام بردّ فعلٍ عنيف، من أجل المحافظة على أموالها وعلى طريقها التجاري الحيوي، لئلا يسيطر المسلمون عليه. أمّا الغاية من ذلك كله، فهو أنّ الساعة قد حانت لابتداء الصراع المسلّح بين الشرك والإسلام، بعد أن كان الصراع فكرياً يتحرك من خلال أساليب الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة من جانب رسول الله(ص) والمسلمين معه، ولكنه كان يجابه من جانب المشركين بالضغط المادّي والمعنوي والإرهاب والتعذيب الجسدي، من أجل فتنتهم عن دينهم، وإخراجهم من بلادهم بغير حق، لا لشيء إلا لأنهم كانوا يقولون ربنا الله، واستضعافاً منهم للمسلمين، فأراد الله للحق أن ينتقل إلى جانب القوّة، وذلك بقهر سيطرة المشركين على مقدّرات الأمور، لتستقيم للإسلام حريته في الدعوة، من دون أي خوفٍ أو ضعف، فيحق الله الحقّ في الحياة في جانبها الفكري والعملي بكلماته، ويقطع دابر الكافرين الذين يقفون حاجزاً بين الإسلام والناس في سائر بقاع الأرض.

فليست القضية قضية أموالٍ يُراد للمسلمين أن يغنموها، كما توحي كتب السيرة، بل القضية قضية حقّ يُراد أن يحقّ من خلال كلمات الله في وحيه، وقضية باطل يُراد له أن يُبطل من خلال كلمات الله، وذلك بمختلف وسائل الضغط المتاحة لأهل الحقّ، بالرغم من كراهة المجرمين الذين عاشوا الجريمة كأبشع ما تكون عندما صدّوا عن سبيل الله من آمن بالله، ووقفوا ضد مصلحة الإنسان في السير على دين الله وشريعته.

إنّ هذه الآيات توحي بوجود مخطّط سابق في ما أطلع الله عليه نبيّه(ص)، وفي ما دبّره له من وسائل الصراع، وليس مجرد حادثةٍ طارئةٍ لم تكن مقصودةً للنبيّ(ص) وللمسلمين... وهذا هو ما ينبغي لنا التدقيق فيه عند دراسة المعارك الإسلامية التي حدّثنا عنها القرآن وأفاضت فيها كتب السيرة، وذلك بالدخول في مقارنة واعيةٍ موحية، للوصول إلى نتيجة حاسمةٍ في استيحاء الطبيعة التفصيلية للجوّ الذي يسود هذه المعارك من ناحية مادية أو روحيّة.

2ـ إن قضيَّة الغنائم، وإن كانت واردةً، إلا أنها لم تكن هدفاً ذاتياً للرسول(ص)، بل كانت وسيلةً من وسائل الضغط على قوّة قريش التجارية، التي كانت أساساً لقوّتها العسكرية والسياسيّة، وذلك بالسيطرة على الطريق الحيوي لتجارتها. وفي ضوء ذلك، فإن الموقف لم يكن منسجماً مع الأسلوب العربي الجاهلي للغزو، الذي كان يستهدف الحصول على المال من أجل الحاجة إلى المال، وربما أمكننا استيحاء ذلك من خلال الأجواء الروحية التي حشدتها الآيات في أجواء المعركة، إلى جانب الأساليب النفسية التي ساهمت في إعطاء المسلمين الشعور الذاتي بالقوّة في مجابهة المشركين، الأمر الذي كان يوحي بالحاجة إلى أجواء القوّة، من أجل ربح الموقف لمصلحة الإسلام والمسلمين.

3ـ إن الموقف ـ في ما نفهمه ـ هو موقف تحديد حجم الدعوة الجديدة في ميزان القوى الموجودة على ساحة الجزيرة العربية آنذاك، من أجل تخفيف الضغط على الفئات الضعيفة المسحوقة الخاضعة لسيطرة القوة المالية والعسكرية الغاشمة المتمثلة بقريش، وذلك بالإيحاء لهم بأن قريش ليست مركز القوّة الوحيد في الجزيرة، ليخضعوا لسلطانها، فيبتعدوا عن الدخول في الدين الجديد خوفاً منها... وبذلك، كان لا بدّ من معركة حاسمةٍ فاصلةٍ تفرض الموقف الجديد الذي يملك الناس معه حرية الاختيار بين الكفر والإيمان، وبين الحق والباطل، وكان لا بدّ من اللجوء إلى كل الأساليب الموجودة على الساحة للوصول إلى هذا الهدف الكبير... وهكذا انطلق الهدف من خلال معركة بدر، في منطقة لا تدين إلا للقوة في ما تؤمن به وفي ما لا تؤمن به، الأمر الذي فرض على الإسلام أن يأخذ بأسباب القوّة.

الروح المعنويّة في معركة بدر

النقطة الثانية: إن الآيات الكريمة استخدمت الأساليب النفسية في تقوية الروح المعنوية للمسلمين، الذين كانوا لا يملكون أي مستوى للقوّة المادية في المعركة، فقد تحدث الله إليهم في البداية في عمليّة إيحاء بالقوّة، من خلال الاستناد إلى ملكة الصبر التي تشد من عزيمة الإنسان في مواجهة التحديات الصعبة والعقبات الخطيرة، فيتحوّل إلى قوة عشرة رجال، لأن قضية القوّة ليست خاضعة للكمّ في ضخامة الجسد وقوّة العضلات، بل هي خاضعة لقوّة الإرادة، والقدرة على التحمّل في ما يفرضه الصراع من آلامٍ ومشاكل وتحديات، فإذا ارتفع الإنسان بإيمانه وصبره إلى هذا المستوى، أمكنه أن يجابه عشرة أضعاف قوّته.. وهذا ما عبّرت عنه الآية الكريمة: {إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ}[3].

وإذا كان هذا المستوى صعب المرتقى بالنسبة إليهم، لأنهم لم يخوضوا تجربة الصراع بعد، ولم يستطيعوا مواجهة موقف بهذا الحجم الكبير، فقد أراد الله لهم وهم في موقع الضعف أن يستنفروا طاقاتهم كلها، لتتضاعف القوة في المواقع الحاسمة الصعبة، وذلك حتى يمكن الاستجابة للتحدّي بحجم أكبر منه، ما يجعلها تشعر بالارتفاع والعلوّ عليه، وذلك قوله تعالى: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}[4].

وفي ضوء ذلك، نفهم أنّ المطلوب هو مضاعفة الشعور بالقوّة، ومع الإيحاء بضرورة التصاعد بها، ليشعر المؤمن دائماً بالتفوّق على أعداء الله في مواقفه الحاسمة في معارك الجهاد في سبيل الله، فلا يخضع لضغوطات حركة الكافرين التي تستعرض القوة كأسلوب من أساليب الحرب النفسيّة...

وهذا ما يحتاجه المؤمنون في ما يواجهونه من الضغوط النفسية التي يمارسها أعداء الله، من خلال الأجهزة الإعلامية التي تحاول تضخيم القوّة الضاربة للأعداء، الصغار والكبار، في محاولةٍ لإيجاد حالةٍ من الشّلل الداخلي في التحرك المضاد، من أجل الحؤول دون أيّة معركة ضد الأعداء يمكن أن يثيرها المؤمنون، لتبقى للأعداء سيطرتهم على الموقف، بحيث يقود ذلك المؤمنين إلى تنازلاتٍ دائمةٍ على أيِّ مستوى من المستويات السياسية والعسكرية والاقتصادية والفكرية...

بدر والغيب

معركة بدر عاشت جواً من أجواء الغيب الذي أراده الله أن يكون عنصراً نفسياً للمقاتلين المؤمنين، يوحي لهم بالسكينة والقوّة، فنلاحظ أن الآيات القرآنية ركّزت في هذا المجال، على أنّ الله قد غشاهم بالنعاس، الذي يوحي لهم بالأمن والاسترخاء والراحة، وأرسل إليهم المطر الخفيف الذي يلبّد لهم الأرض، ويذهب عنهم رجز الشيطان المفسّر بحالات الاحتلام التي تعرض لهم، فيحتاجون معها إلى الغسل، ليذهب من داخلهم الأثر النفسي السلبي الذي تحدثه هذه الحالات. ثم كانت قصّة إثارة الملائكة في أجواء المعركة، بحيث إن الله سبحانه أراد للمقاتلين القليلي العدد والعدّة، أن يعيشوا الشعور العميق بأنّهم ليسوا وحدهم في المعركة، فالله معهم يؤيّدهم بالنصر، والملائكة معهم، هذه المخلوقات العجيبة غير المنظورة. وبذلك، يتصاعد الجو النفسي الإيجابي في اتجاه الحصول على النصر. وقد أرادت الآيات الإيحاء بأنّ الملائكة موجودون في الجوّ، ولم تصرِّح في ممارستهم للقتال. وقد اختلفت وجوه التفسير في ذلك، لأنّ المقصود الأساس هو البشارة بالمدد، والتثبيت في المواقف، أمَّا النصر، فهو من عند الله.

وكان الرعب الذي أثاره الله في نفوس المشركين، هو أحد العناصر التي ساهمت في توجيه المعركة لمصلحة المسلمين في ما يحدّثنا القرآن عنه. وهكذا عاش المقاتلون المسلمون جوّاً من الإمداد الروحي والغيـبي الذي خلق لديهم حالةً متقدمة من الشعور بالتوازن، بل بالتفوق أمام قوّة الأعداء العددية والمادّية، ما أتاح لهم الدخول في المعركة بقوّة جديدة لم يشعروا بها من ذي قبل.

وقد كان ذلك ضرورياً لنجاح المعركة وانتصار الإسلام في أوّل مجابهة مسلَّحة مع المشركين، وهذا من خصائص معركة بدر. أمّا المعارك الأخرى، لا سيما معركة أحد، فقد ترك الله للمسلمين خوض التجربة الذاتية بوسائلهم الخاصة في المعركة، لأن الفشل لا يمثل عنصر الخطورة الكبير في الموقف. وفي ضوء هذا، نفهم أن الغيب في حركة الجهاد لا يمثّل قاعدةً في حساب النصر في الإسلام، بل يمثل وضعاً خاصاً في بعض المراحل الصعبة من التاريخ، لئلا يعتمد المؤمنون على ذلك، فيتركوا الاستعداد للمعارك المتنوعة التي يضطرون إلى خوضها مع الأعداء.

إنّ هناك غيباً مطلقاً يعيش في وعي المؤمنين وحياتهم من خلال الله، أمَّا الغيب الخاص، فهو رحمة من الله يغدقها عليهم في حالات الضرورة القصوى، من أجل حفظ الموقف من الانهيار في لحظات التحدي.

وهذه هي بعض الآيات التي أثارت الحديث حول جوانب الغيب في المعركة: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ * إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[5].

وهكذا نخرج بفكرة محدّدة، وهي أن الله قد يتدخَّل في الأمور الحاسمة بطريقة غيبية غير عادية في المواقف الصعبة جداً، كما تدخَّل في بدر. أمَّا في الحالات العادية، فإنه يترك لقوانينه الطبيعية للأشياء، أن تتحرك من أجل الوصول إلى أهدافها بطريقة عادية.

بدر.. والإيمان

النقطة الرابعة: أثار الكثير من الباحثين الّذين تعرّضوا للحديث عن بدر، قضية الإيمان، وكيف يدخل في المعركة كعنصر حيويّ من عناصر ربح المعركة، وربّما حاول البعض منهم أن يعتبر الإيمان بديلاً عن أي عنصر آخر من عناصر القوّة المادية، فهو الأساس في النصر، ولا قيمة لأيّ شيء آخر... وتطرّف آخرون في الاتجاه المعاكس، فلم يعتبروا الإيمان شيئاً في مواجهة العناصر المادية، التي رأوا فيها كل شيء في عملية ربح المعركة والحصول على النصر.

ولكننا لا نوافق على أيّ من هذين الاتجاهين، لأنّ للإيمان دوره الكبير في الحصول على القوّة الروحيّة والمعنوية، لما يوحيه للإنسان من الارتباط بالله، والاعتماد عليه، والثقة به، واللجوء إليه في حالات الشدّة، ما يبعد الإنسان عن الشعور بالقلق والخوف والضياع أمام مواقف التحدي، وهو ما يساهم في تأكيد التوازن الداخلي الدقيق للشخصية المقاتلة، وتوفير مقوّمات الثبات للموقف الصعب. أمّا العناصر المادية الأخرى، من سلاحٍ ومالٍ وظروفٍ سياسية ملائمة، ومواقع عسكرية متقدّمة، وخبرة في المجالات التي تتحرّك فيها المعركة، أمّا هذه، فإنها تمثل العنصر الضروري للانتصار، لأن الله جعل عمليّة النصر والهزيمة خاضعة للوسائل الطبيعية المحكومة للأسباب المادية، إلى جانب الأسباب الروحية... ولهذا، أكّد في كتابه المجيد ضرورة الإعداد العسكري، من أجل تحصيل القدرة على المجابهة من جهة، وتحطيم القوّة المعنوية للعدو من جهة ثانية، وهذا هو قوله تعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ}[6].

وفي ضوء ذلك، ينبغي للمؤمنين أن يرتفعوا بإيمانهم إلى المستوى الذي يمنحهم الثبات في المعركة، من خلال الاعتماد على الله، عندما يشعرون أن الله معهم، فلا يحزنون ولا يخافون، انطلاقاً من القرآن الكريم، الذي ينهى المؤمنين عن الوهن والحزن، وذلك قوله تعالى: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}[7]. وقوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}[8].

إنَّ الإيمان ضروريّ من أجل أن يتحوّل القتال إلى حركةٍ للرسالة وموقف للحق، وانطلاقاً مع الله وقوة في موقع الشهادة، ولكن الحصول على القوّة المادية ضروري أيضاً، من أجل أن تكون للقوّة الروحية يدٌ تقاتل، وفكر يخطّط، ومواقع تتحرك، وساحة ملائمة توحي للمقاتلين بحرِّية الحركة وحيويّة الانطلاق.

وبهذا يتأكد الأسلوب الواقعي للروحيّة الإسلاميّة الذي يدفع الإنسان باتجاه المطلق، ولكن لا ليطير به في السماء، بل ليبتعد به عن الاستسلام لحاجات الأرض بالإخلاد إليها، لتتحرَّك أرضه بروحية السماء، وتعيش سماؤه في الحركة الواقعية لإمكانات الأرض، وبذلك، يظلُّ المسلم متقدّماً في التعامل مع حركة التطور في الحياة، ويبقى له أن يدفع هذا التطور في اتجاه مصلحة الإنسان التي تتجاوز حياته إلى ما بعد هذه الحياة.

وتقف النتائج العملية في الملتقى الإنساني، لتتحدّث عن "النوعية" بدلاً من "الكميّة"، لأن الكمّ لا يمثل قيمة في المواقف إذا لم ترافقه الكيفيّة التي تجعل منه قوةً في العمق والامتداد، لا مجرّد رقمٍ يلهو به الحاسبون ويزهو به اللاعبون.

وتلك هي قصة بدر التي نصر الله فيها عباده وهم أذلّة، وتلك هي قصة النصر في كل زمانٍ ومكان؛ أن تستنفر الطاقة في فكرك وفي روحك وفي خطواتك العملية، وتواجه التحدي بعد ذلك من موقع الإيمان الذي يرتفع بك في اتجاه الهدف الكبير مع الله، ومن موقع القوّة التي تتحرك بك في الساحة في مواقع الصراع المتقدّمة، لتواجه الباطل بقوّة الحق التي تتحدى، وتضرب وتقاتل، وتنتصر في نهاية المطاف.