مقاومة أحرار تهامة للغزاة العثمانيين والبريطانيين في التاريخ الحديث (1)

نشر بتاريخ: خميس, 30/08/2018 - 6:33م

 

تمهيد

عملت أنظمة الطغيان والعمالة والمنتفعون منها - من خلال القنوات والمنابر والمؤسسات الإعلامية والثقافية والدينية – على تفخيخ وعي اليمنيين بأفكارٍ عصبوية، وعنصرية، لا تمت إلى الحقيقة بصلة، لتعمل على كسر روحية الأمة الواحدة، سعيا منها إلى الاستحواذ على القرار السياسي في نخبها الفاسدة والجاهلة والمتعصبة.

ومن تلك الأفكار التي أشاعتها أن المواطن الجبلي (الذي يسكن الجبال) هو الرجل الأقوى مراسا، والأكثر تحمُّلا للشدائد، وشجاعة في المواقف، على خلاف المواطن التهامي الذي يتّصف بالدَّعة والميل إلى المسالمة حتى في حالات استهدافه في دينه، وعِرضه، ووطنه، وكرامته، وعزته، وهو أمر لا يستند إلى دليل، ولا برهان، بل التاريخ شاهد على خلافه تماما.

في هذه المقالة نستعرض صورا من مقاومة أحرار تهامة في التاريخ الحديث، للغزاة والأجانب في التاريخ الحديث، وهم العثمانيون والبريطانيون، والتنكيل بهم، وتحويل منطقة تهامة إلى جحيم لا يطاق، ومستنقع كبير يحوم الموت على دوائره، صباحا ومساء، وليلا ونهارا؛ الأمر الذي جعل الغزاة يقررون الرحيل عن هذه المنطقة وإلى غير رجعة.

والمصدر الرئيس لهذه المقالة هو أستاذ التاريخ الحديث في جامعة الحديدة، الدكتور عبدالودود مقشر في كتابه (حركات المقاومة والمعارضة في تهامة 1918- 1962م).

وقبل الدخول في صلب الموضوع لا بد من التمهيد بذكر أبرز قبائل تهامة.

 
أبرز قبائل تهامة الأبية

في أكتوبر عام 1902م تعرّض كلٌّ من ميناءِ ومدينةِ ميدي لتدميرٍ شبهِ كاملٍ، بسببِ قصفِ البوارجِ الإيطالية، ومن الطرافةِ بمكانٍ ما ذكره بعضُ المؤرِّخين عن أسباب ذلك القصف والتدمير، لقد قالوا: إن رجلا من قبيلة بني مروان (مديرية ميدي) كان أجيرا عند بعض التجار الطليان، فحدث بينهم خلاف، فقتلوه في جزيرة دهلك، فما كان من بني مروان، إلا أن ركب جماعةٌ منهم البحرَ في (سنبوك) إلى تلك الجزيرة، فقتلوا القاتلَ وجماعةً من أولادِه وذويه، واستولوا على مبلغٍ ماليٍّ يُقَدَّر بـ30 ألف ريال ماريا تريزا، وعجزت سلطات الاحتلال التركي أن تسيطر على الموقف؛ الأمر الذي حمل القوات الإيطالية على الانتقام من المدينة ومينائها بذلك الشكل الهستيري.

إن تلك الرواية عن سبب القصف تعبِّر - أكثرَ مِن سواها من الروايات المعلِّلة لذلك الحدث - تعبيرًا حقيقيا عن اليمني الأصيل الذي لا يَتْرُك ثأرَه ولو كان في عمق البحر، وخارج حدود القطر، وعلى قدرته البارعة في نقل المعركة إلى أرض العدو نفسه، كما أنها تعبِّر عن وحشية الغازي الأجنبي في كل وقت وزمان.

جدير بالذكر أنه يتواجد تاريخيا في تهامة قبيلة عك والأشاعرة، وبني الحكم بن سعد العشيرة من مذحِج، أما في التاريخ الحديث، فقد كانت أبرز قبائل تهامة اليمن من الشمال إلى الجنوب، هي بنو مروان، وعبس، وأسلم، والواعظات، وبنو قيس، وبنو محمد، والزعلية، والمنار، وبني صليل، والجرابحة، والحشابرة، والقُحرَى، والعبسي، وزرانيق الشام، وزرانيق اليمن، كما توضِّحه الخريطة المرفقة.

ويمكن القول بأن كل هذه القبائل الأبية كان لها دورٌ مشهود، وحضورٌ محشود في مواجهة الغزاة والمحتلين في التاريخ الحديث.

 

القوى الاستعمارية والبحر الأحمر وتهامة

إذا كنا بحاجة إلى الوقوف مليا عند اليمني الحر من أبناء تهامة للتعرُّف عليه بشكل أعمق من خلال أدواره البطولية، ونضالاته التحررية، وحضوره التاريخي المشرِّف، فإن الغازي الأجنبي هو ذاك الذي لم يتغيّر أبدا، هو ذاك الذي يعرِّف بنفسه في كل مرحلة من مراحل التاريخ، في شكلِ أطماعٍ عنيفةٍ في الجزر اليمنية، والبحر الأحمر، والساحل الغربي والجنوبي، بشكل وقح وسافر، كما هو الحال عليه هذا الغزو الأمريكي الإماراتي السعودي.

لقد تعرَّض البحرُ الأحمر وجزُرُه وسواحلُه الغربية والشرقية لموجات غزوٍ استعمارية من قبل الرومان في فترة ما قبل الإسلام، ثم لموجاتِ الغزو الصليبي في العصور الوسطى، وفي القرن السادس عشر الميلادي (العاشر الهجري) فتح البرتغاليون شهيةَ القوى الاستعمارية الأوربية، التي قفت آثارَهم، وسلكت سبيلهم، وهم الهولنديون، والبريطانيون، والفرنسيون، والإيطاليون، والألمان.

بشكل مستمر قذفت الأطماعُ بموجات القوى الاستعمارية الأوربية إلى هذه المنطقة من العالم، فاشتعل الصراع بين البرتغاليين والمماليك أولا، ثم بين البرتغاليين والعثمانيين ثانيا، وكان هؤلاء الأخيرون قد اعتبروا الجزيرة العربية ومنطقة حوض البحر الأحمر منطقة نفوذ حصرية؛ باعتبارهم (دولة الإسلام)، و (حماة الحرمين الشريفين)، وإذا كانوا قد نجحوا في ذلك في القرن الـ(17م)، فإنهم في بعض فترات ومراحل القرن الـ(18م) كانت سيطرتهم سيطرة اسمية، لا تمس مصالح القوى الاستعمارية الأخرى بأي أذى، حتى إذا جاء القرن الـ(19م) كانت القوى الاستعمارية الأوربية قد أبعدت العثمانيين - الذي أطلقوا عليه وصف (الرجل المريض) - من معادلة التنافس، وحين ذاك أثير بينهم نقع تنافسٍ محمومٍ في هذا البحر وجزره وسواحله.

يعلّق شيخُنا الدكتور سيد مصطفى سالم في كتابه (البحر الأحمر والجزر اليمنية تاريخ وقضية) [ص36- 37] على الشعارات التي قدِم بها البرتغاليون، وكيف جسَّدَتْها في شكل أساليب عنيفة، بقوله: "رفع البرتغاليون في البداية شعارات دينية يباركها (البابا)، وهي محاربة المسلمين ونشر الكاثوليكية، لكن وجدنا أن كلا من البرتغال، والأسبان في العالم الجديد – يأتون بأقسى أنواع التعذيب والقتل والحرق لتحقيق أغراضِهم المادية".

أما العبارة الأكثر سبرا لحركات الاستعمار، والغزو، والتي نراها اليوم ماثلة ومتجسِّدة في هذا الغزو والاحتلال والعدوان القائم على بلدنا، فهي ما قاله شيخنا الدكتور سالم بعد تلك الفقرة مباشرة، حيث قال: "ويبدو أن الشعارات تغطِّي في الغالب الماديات، وأن نشر العقائد يمهِّد دائما للسياسة والحرب، وقد اتَّبعت القوى الأوروبية الأخرى نفسَ الأسلوب، فبثوا المبشرين – الكاثوليك أو البروتستنت – إلى حيث وصلت أيديهم للتغطية ولتمهيد الأرض، كما رفعوا شعارات براقة طوال خطواتهم من أجل السيطرة والاستيلاء، ثم الاستعمار، مثل القضاء على الاضطرابات، ورسالة الرجل الأبيض، ومحاربة تجارة الرقيق، ورعاية حقوق الإنسان، وكانت جميعها غير قابلة للتنفيذ على أيديهم في أرض الواقع".

احتل العثمانيون اليمن عام 944ه‍ / 1538م، ثم غادروه عام 1044ه‍/1635م، بفعل الثورة اليمنية بقيادة الإمام المنصور بالله القاسم بن محمد وابنه المؤيد بالله محمد بن القاسم، ثم عادوا لاحتلاله مرة أخرى، حيث نزلت أول حملة بحرية عثمانية على الحديدة عام 1849م، غير أنهم لم يصلوا صنعاء إلا في عام 1872م، ثم بعد ثوراتٍ عنيفة طُرِدوا من اليمن عام 1918م عقب هزيمتهم في الحرب العالمية الأولى.

وكما سبق فلم تكن القوى الأوربية بعيدة عن هذا الجو الاستعماري المحموم، فعلى سبيل المثال، كانت بريطانيا قد فكرت في احتلال جزيرة كمران منذ عام 1801هـ، وعلى الرغم من احتلالها (عدن) عام 1839م، ولكنها لم تنفّذ أمنيتها في احتلال جزر اليمن في البحر الأحمر، إلا في عام 1915م أثناء الحرب العالمية الأولى، ثم احتلت مدينة الحديدة في عام 1918م، وغادرتها في عام 1921م، بعد أن ضمنت مصالحها، على يد رجلها في الساحل الغربي، وهو الشريف محمد بن علي الإدريسي.

 

أسباب وعوامل مقاومة أحرار تهامة للغزاة الأجانب

واجه الغزاةُ مقاومةً يمنية شرسة وعنيفة لا تلين ولا تستكين، ليس فقط في المنطقة الجبلية من اليمن، بل وحتى في الساحل، وتهامة اليمن بالتحديد، إلى الحد الذي أطلق على اليمن - دون سواه من بلدان هذا العالم - لقب (مقبرة الغزاة)، و (مقبرة الأتراك) أو (مقبرة الأناضول).

يأتي في مقدمة أسباب المقاومة اليمنية للغزاة اعتزازُ اليمني بكرامته، واعتدادُه بعزته، وأنفتُه من أن يُضَام أو يُظْلَم، أو يُهان، أو يُذَل، ولا سيما في أرضه، من قبل غزاةٍ أجانب؛ فالروحُ القبلية الاستقلالية هي المسيطِرة على اليمني، وميَّزَتْهُ طيلة تاريخه، لقد كان يبذل الغالي والرخيص في الذود عن حريته، وكرامته، وعزته، ورفْضِ تسلُّط الآخرين من أبناء.

فهذا - على سبيل المثال - الشيخ أحمد فتيني جنيد، أحد مشائخ الزرانيق، الذي قاد لاحقا تمردا قويا على حكومة الإمام يحيى، إلا أنه - مهما اختلفنا معه في بعض توجهاته – كان يعبِّر في كثير من مواقفه عن ذلك اليمني الذي يأنف من الخضوع للأجانب، والخنوع للغزاة والمحتلين، وينتصف لعزته، وينتصر لكرامته، فقد ورد في حوليات يمانية عن موقف له مع الأتراك، وقد كانوا يحكمون سائر البلاد، وأنه مرة اتصل بالمتصرِّف التركي بقضاء «بيت الفقيه» في بعض أغراضه لديه، ولعل المتصرِّف كان مخموراً، فأغلظ القولَ للشيخ أحمد ولطمه في وجهه، فاستل الشيخُ جنبيتَه، ووضعها في ترقوة المتصرِّف، حتى نفَذِ بها إلى أسفل بطنه، ثم خرج إلى قبيلته يعلن العصيان.

كما يظهر أن الروح الوطنية وإن كانت قد تَظْهر في شكل هُوِيَّات صغيرة على مستوى القبيلة أو الإقليم أو المدينة، هي التي دفعت الثوار في طرد المحتلين والغزاة الأجانب، بسبب كونهم أجانبَ وغزاةً حطّت رحالُهم يوما في بلد ليس هو بلدَهم، وأرضٍ ليست أرضَهم.
ويشير مؤرِّخ تهامة الدكتور عبدالودود مقشر أن من الأسباب التي حرَّكت ثورة أبناء تهامة الأحرار ضد الاحتلال التركي هو سوءُ إدارة السلطة العثمانية في اليمن، وظلمُ الولاة، وانحرافُهم، واستبدادُهم، وقسوتُهم، وتعاليهم، وعجرفتُهم، وممارستُهم لكل أنواع التعذيب والجبروت، والفساد.

لم يكن معظم الموظفين الأتراك يؤمنون بأنهم يقومون بعملٍ وطني لصالح دولتهم، بل كانوا يشعرون أن اليمن منفى وإبعاد لهم؛ لهذا كان تفكيرهم منصَبًّا على كيفية الإثراء سريعا خلال مدةٍ قصيرة قبل أن يُعْزَل، فهُرِعوا إلى اتّباع أساليب متعددة لابتزاز اليمنيين، واختلاس أموالهم بالقوة والإكراه، وإرهاق الأهالي بتحصيل الأموال غير المشروعة، وفي أوقات متكررة، وتحت الضغط والحبس والتنكيل، وبالتكليف بما لا يطاق.

كما لم يكن كثيرٌ منهم ملتزما بالعقيدة والقيم الإيمانية، بل كانوا يسارعون إلى إرضاء شهواتهم باستحلال الحرمات، وتركهم ما أمر الله به من الفروض والواجبات، وانغماسهم في الشرور والمعاصي، وكان ارتكابهم الزنا واللواط والبغي وشربَ المسكرات أمرا فاشيا، وهذا هو دأب كل الغزاة والمحتلين في كل زمان ومكان.
ومن أساليبهم إثارةُ النعرات والحروب القبلية في تهامة، ثم التدخُّل لفَرْضِ أموالٍ جزيلة على المتخاصمين، تسمى الجراد، كما حصل في عهد مصطفى عاصم باشا حيث وقعت حربٌ بين الجرابح وبني البرة من بني صليل في رمضان 1294هـ / سبتمبر 1877م بتحريض من القيادة العثمانية بتهامة، لتتدخّل بعد ذلك عسكريا بقيادة عثمان باشا، ولكن بعد إنهاك الطرفين، ويصل عثمان باشا إلى الزيدية فيفرض أموالا ضخمة سماها بالجراد، وأخذ من كل شخص ريالا، فمن أطاع سلِم، ومن عصى ربطه في المدفع في الشمس حتى يُسلِّم.

هذه الأسباب والظروف والعوامل هي التي دفعت اليمنيين ولا سيما أحرار تهامة للثورة على القوى الاستعمارية عموما، وعلى الأتراك العثمانيين خصوصا، على رغم ادعائهم للخلافة الإسلامية، وتظاهر سلاطينهم بخدمة الإسلام، وإعلانِ أن دولتهم هي (دولة الإسلام) التي تجاهد اليهود والنصارى والمشركين، وتمثل المسلمين وتدافع عن مصالحهم في هذا العالم.

صور من مقاومتهم للعثمانيين

على الرغم من إذكاء العثمانيين للنعرة المذهبية بين الشوافع والزيود في اليمن، ولا سيما في تهامة، وعلى الرغم من استخدام الطائفية والمذهبية لضرب الروح الثورية الوطنية فيهم، إلا أن ذلك في نهاية الأمر لم يُجْدِ نفعا، ولم يُعطِهم الحصانة من ثورات الشوافع في تهامة؛ حيث ظلت ثورات أبناء تهامة الأحرار متوقدة طوال الوجود العثماني في اليمن.

في عددٍ من المرات سعى السلطانُ عبدُالحميد لتهدئة الأوضاع في تهامة بدعوة العلماءِ والمناصب والسادة والقضاة إلى بلاطه السلطاني بالأستانة، وأعفاهم من المطالب المالية، ومنحهم الأموال، ووهبهم الجواري، وحذّرهم ممن سماهم (الزيديين)، وما أسماه (احتلالهم) لتهامة، ونفخ فيهم نار التعصب المذهبي، غير أن ذلك لم يكن سوى مهدِّئات مؤقتة عن الثورة، تناولت بعض آثار الحمى، ولم تأتِ على حقيقة الأمروالعلة، وهو شعورُ اليمنيين بضرورة إخراج المحتل الأجنبي من أرضهم؛ ولهذا سرعان ما كانت تشتعل تلك الثورات بين الفينة والأخرى.

وهذه صور ومظاهر لذلك التوجه التحرري والثوري عند أبناء تهامة الأحرار تجاه العثمانيين:

- كان للجاحيين (أهالي الجاح) دورٌ كبير في الثورة على العثمانيين؛ حيث كانوا يعتمدون دائما على بساتين النخيل للتحصُّن بها، والتخفي وراءها، عند شنهم هجمات ثورية مناهضة لجباية الضرائب العثمانية المرهقة، وفي إحدى المعارك تكبّد أحمد راشد (أحد قادة الأتراك) هزائمَ خطيرة في الجاح، ووقع في فخ الزرانيق، وهو غابات أشجار النخيل ومتاهاته التي لا تنتهي.

- وفي عام 1298م استطاع أحد قادة الأتراك في تهامة، وهو محمد بك المشهور بالكمندار – فرض سطوته العسكرية وقبضته الحديدية على قبائل تهامة وعلى رأسهم الزرانيق، ثم إنه خطر بباله أن يغزوَ قبيلة بني مروان الثائرة في ميدي، وأن يلاحقَهم إلى مساكنهم الكائنة بين أشجارٍ ملتفة تسمى الشعاب، فغزاهم بـ300 مقاتل، لكنهم أحاطوا بالعسكر التركي، وقتلوهم عن آخرهم، وما نجى منهم إلا القليل، وهرب الكمندار على فرسٍ، وما نجى برأسه إلا وقد مُزِّقَتْ ثيابُه؛ الأمر الذي اضطر قادة الأتراك في صنعاء لمحاكمته محاكمة عسكرية، قضت بطرده من وظيفته، وحبسِه حتى الموت، وكان من نتائج تلك الهزيمة المدوِّية كسرُ حاجز الخوف والرهبة لدى بقية أهالي تهامة وقبائلها من سلطات الاحتلال العثماني.

- لما ولِّيَ أحمد فيضي باشا اليمن أول مرة في سنة 1302هـ / 1884م كانت له مواقف عدائية ضد الزرانيق منذ قدومه مع الحملة لاحتلال صنعاء، فاستفزهم بأعماله، فكانت المعارك بين الزرانيق والعثمانيين شبهَ يومية منذ 1304هـ / 1887م.

- وصل إسماعيل الحافظ باشا الحديدة عام 1307هـ / يونيو 1890م وحاول الاحتكاك بالزرانيق من خلال التضييق على أفرادها؛ مما أدى إلى تأجيج الثورة في ذي الحجة 1307هـ/ يوليو 1890م، وعمّت تهامة، وحوصِرَت الحامية العثمانية في بيت الفقيه، ووصلت إلى الحديدة والمراوعة واللحية، وكادت زبيد أن تقع بيد الثوار في 28 صفر 1308هـ/ 12 أكتوبر 1890م.

-وفي ذي الحجة 1308م/ 1891م قدم الوالي حسن أديب باشا وكانت تهامة تفور ضد الوجود العثماني، وقد حوصِرت الحاميات العثمانية في المدن التهامية، وتم قطع الاتصال البرقي والمواصلات، ولما أعادت السلطات العثمانية قبضتها الحديدية على مدن تهامة وفرضت حظر التجوال وبقية القوانين العرفية، اشتدت ضربات الثوار التهاميين أكثر، ونصبوا الكمائن للقوات العثمانية في الطرقات والحارات وأزقة المدن.

- ثم أمام عودة مظاهر الفساد والارتشاء والظلم كان لا بد للثورة التهامية أن تستمر، فاتّبَعَتْ أسلوبَ نسف المساكن العثمانية، والاغتيالات، والكمائن، واشتدَّ أزر هذه الثورة، وصلُب عودُها، بعودة ثورة القبائل عامة بقوة، وقطعِهم الطرقَ وسِلك التلغراف، بل ومهاجمة الدوريات البحرية العثمانية في البحر الأحمر، فأزعجت هذه العمليات القيادة العسكرية العثمانية بقوة، فسارعت إلى تهدئة الأوضاع، وتغيير العمال في تهامة، واستبدال أعمدة التلغراف الخشبية بأخرى من الحديد.

- ومع ذلك فلم يجد ذلك نفعا، بل وجد القائد التركي في بيت الفقيه أدهم أفندي نفسَه محاصَرا من قبل الثوار التهاميين، فهرب إلى الحديدة؛ فرأى أحمد فيضي باشا أن الفرصة مواتية لضرب الثوار وقمعهم، وأعد العدة والمؤن اللازمة لذلك، وقد استطاع قائده أدهم باشا إخضاع القبائل المجاورة للزرانيق، لكنه لما وصل إلى قرية المحوي من بلد الوعارية، وطلب من الزرانيق الحضور، رفضوا خوفا من غدره، فتقدّم لحربهم في قرية الجنبعية، ولكنه منيَ هناك بهزيمة نكراء، وقتِل من جنوده 1500 قتيل، ولا يزال التهاميون يذكرون هذه المعركة، ويسمونها بـ(يوم الجنبعية).

- بعد ذلك أراد خديعة المشايخ بالقبض عليهم، ثم نفيهم إلى إحدى الجزر، فعلمت الجماهير التهامية بذلك، فأحدقت كتائب الثوار منهم ببيت الفقيه وحاصروا الأتراك فيها وقطعوا المدد عنهم، ومنعوا الداخل والخارج، وقطعوا أسلاك السلك السرية للمخابرات، ولم يفكوا الحصار إلا بعد إطلاق مشائخهم، وعودتهم سالمين.

- أثناء ثورة الزرانيق اندلعت ثورةُ قبائلَ أخرى، هي قبائل الجرابح، فاتجهت القبيلة إلى أساليبها وتكتيكاتها المعتادة، فقطعتِ الطرُقَ، ومنعت مرورَ الأتراك، واقتلعت الأخشاب المنصوبة لخيط التلغراف بالبلاد، وصالت وجالت، ولما أرسلت حملة عسكرية سُحِقَتْ؛ قال المؤرخ زبارة: "فجهزت العجم جنودها بقيادة إبراهيم بك، فضربتهم قبائل الجرابح الضربَ البالغ، وشتَّتْ جموعَهم واستولت على بعض أثقالهم..".

- لم يكتف أحرار تهامة باستهداف الاحتلال وجنوده، بل وحاولوا تصفية بعض الخونة والمرتزقة المنافقين المتعاونين مع الغزاة، فقد حاولت قبيلة صليل اغتيال الشيخ عبدالله باشا بن محمد أحد أهم ركائز السيطرة العثمانية في تهامة، وظلّ الشعورُ الشعبي العدائي ضد تلك الطبقة من التجار والمواطنين الذين استطاعوا عن طريق صلاتهم الحسنة بالعثمانيين أن يحصلوا على مركز ممتاز.

وهكذا استمرت ثورة الأحرار من أبناء تهامة ضد الأتراك الغزاة، ولم يشفع لهم أنهم جنود "الخلافة الإسلامية"، ومقاتلو "دولة الإسلام"، كما لم تنطلِ عليهم خدع وتضليلات الباب العالي في الأستانة التي كانوا يُطِلُّون بها من بوابة الاختلاف المذهبي، والتلويح الدائم بـ(بعبع الزيود) الجبليين، فاستمر ذلك الوضع الثوري حتى خروج الأتراك من اليمن.

الدلالات: