الحج ودوره في إحياء قيم الوحدة الإسلامية

نشر بتاريخ: أربعاء, 22/08/2018 - 4:29م

لعل من أهم مقاصد التشريع الإلهي هو تكوين أمة واحدة موحدة، ترتبط فيما بينها برباط الأخوة الإيمانية، باعتبار أنه لا يمكن أن يكون هناك عامل من العوامل الدنيوية من الممكن أن يجمع الناس في بوتقة واحدة تنصهر فيه كل الاختلافات والتمايزات، كما هو الحال في اجتماع الناس تحت مظلة الدين الواحد القائم على الإيمان بالله والاتباع لشرعه، إذ لا مجال للتفرق والشتات، ولا للتنازع والاختلاف، في أمة تجمعها الكثير من الروابط والقواسم المشتركة، إلههم واحد، ودينهم واحد، ورسولهم واحد، وكتابهم واحد، وقبلتهم واحدة، وشعائرهم واحدة، قال تعالى: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾[الأنبياء: 92].

ولتحقيق هذه الأخوة الإيمانية، والحفاظ على تلك الرابطة الربانية، افترض الحق تبارك وتعالى على عباده جملة من الفرائض والعبادات والشعائر الجامعة، ومنها فريضة الحج، هذه الفريضة التي تعتبر الفريضة الأهم، والتي تمثل الوحدة الإسلامية، وبها يتحقّق مبدأ الأُخوّة الإيمانية بين أبناء الإسلام على اختلاف أجناسهم وألوانهم،  يوم أن يلتقي الحجيج من بقاع شتى، مختلطة أجناسهم وألوانهم ولغاتهم، بلباس واحد، في مكان واحد، يؤدون مناسك واحدة، وشعائر واحدة، غايتهم واحدة، وهمومهم مشتركة، قد نسوا كل الهتافات، وخلفّوا وراءهم كل الشعارات، ونكّسوا كل الرايات، وهتفوا بشعار واحد هو شعار (لبيك اللهم لبيك)، ورفعوا راية واحدة هي راية التوحيد والبراءة من الشرك.

لذلك تعتبر رحلة الحج فُرصة لتكوين العلاقات الإيجابية بين أبناء الإسلام في مختلف المجالات والميادين الحياتية حتى يكونوا أمة واحدة متعاونة متناصرة متآلفة متكاتفة، كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى..

كذلك فإنّ موسم الحج فرصة عظيمة لبث روح الجماعة بين جموع الحجيج، وتأكيد أهميتها عمليّاً، فالحج بمثابة مؤتمر عام يمكن أن يتداول فيه المسلمون بشكل جماعي أوضاعهم العامّة وشؤونهم الخاصة بصراحة وجدية ونقد بنّاء، وأن يتداولوا الرأي كذلك في مشاكل وهموم وآمال وآلام الأمة الإسلامية، ويقرروا ما ينبغي عليهم فعله تجاه ما يحاك ضد الأمة من مؤامرات، وما يجري في البلاد الإسلامية من اعتداءات، وما يحصل فيها من اختلالات، والإسهام في تفادي المشكلات، وتخطّي المحن والأزمات، وترسيخ جذور وحدة المسلمين بروابط الأخوة السامية المخلصة، والمحبة الصادقة، والإيثار والتضحية، والصدق في القول والعمل .

إلى جانب ذلك فإن الحج مظهر من مظاهر العدل والمساواة بين جميع المسلمين، فهم لا يأتون إلى الحج إلاّ وقد ذابت فيهم كل الفوارق العرقية والطبقية، واختلطوا رغم تفاوت لغاتهم القومية وطبقاتهم الاجتماعية التي ينتمون إليها، واستبدلوا بزيهم الوطني زيَّ الحج الموحّد المعروف بلباس الإحرام، وصاروا في هيئة واحدة، ومظهر واحد، يطوفون حول بيت واحد، ويؤدون نسكاً واحداً، في مكان واحد، وفي هيئة واحدة، لا يتميّز شرقيهم عن غربيهم، ولا عربيهم عن عجميهم، وبذلك تتحطم الحواجز والحدود المصطنعة التي وضعها الاستعمار والتي فصلت الدول العربية والإسلامية عن بعضها، وتذوب في الحج كل تلك الانتماءات الضيقة للقوميات والمذاهب والطوائف والأحزاب وما إلى ذلك من المسميات التي مزقت أوصال الأمة، وفرقتهم شيعاً وأحزاباً .

وفي ذلك تأكيد على أن رجوع هذه الأمة إلى دينها، وتمسكها بإسلامها، هو الضمانة الوحيدة للاتحاد والقوة، فهذه الأمة لا يوحد صفّها إلا الإسلام، ولا يجمع شتاتها إلا الإيمان، قال تعالى: ﴿وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [الأنفال:63].

وما نراه اليوم في أمة الإسلام من تنازع واختلاف ليس سببه دين الإسلام، فالدين بلا شك يوحد ولا يفرق، ويجمع ولا يشتت، وإنما سببه الرئيسي هو السياسات الخبيثة التي عملت على تفريق الأمة وتشتيت شملها، بدليل حصول التعايش بين أبناء المذاهب المتعددة الفقهية والفكرية، في مراحل كثيرة من مراحل التاريخ القديم والمعاصر، دون حدوث أي نزاعات أو حروب يمكن وصفها بالمذهبية إلا في فترات الانحطاط، بسبب فساد الولاة أو مؤامرات الأعداء وسياساتهم الاستعمارية البغيضة، التي لم تكن لتتحقق أهدافهم القذرة لولا ما أوجدوه في الأمة من تفرق وتمزق، عن طريق إذكاء الخلافات المذهبية، وزرع بذور العصبية العرقية والطائفية والمناطقية، وواقعنا اليوم أكبر شاهد على ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

الدلالات: