النفس الزكية الإمام محمد بن عبدالله

نشر بتاريخ: أربعاء, 11/07/2018 - 10:15م

    متى يرى للعدل نورٌ وقـد         أسلمني ظلمٌ إلى ظلمِ  

أمنيةٌ طــــال عداتي بهـــا        كأنني فيها أخو حلمِ
 

 هذان البيتان الشعريان للإمام محمد بن عبدالله (النفس الزكية) تلخصان تأريخاً طويلاً من غياب العدل وانحراف الدولة الإسلامية عن الحكم بما أنزل الله، وانحراف القوم عن آل بيت نبيهم عليهم السلام، وعن تلك المبادئ والقيم التي حملوها وتمثلوها..

فبعد مقتل أمير المؤمنين عليه السلام ووثوب معاوية على الحكم انحرفت الخلافة الإسلامية أكثر؛ بل انتهت وتحولت إلى ملكٍ عضوض، قائمٍ على الجور، والطغيان، واستعباد عباد الله، واتخاذ مال الله دولا، وعباده خولا، فكان ما كان مما جرى على آل البيت وأولهم الإمام الحسن عليه السلام الذي خذله أصحاب الدنيا ممن حوله وكادوا أن يفتكوا به ميلاً  إلى إغراء المال ودخلاً ونفاقاً في قلوبهم، انتهى أمره بعد الخذلان إلى الصلح مع معاوية على شروط كثيرة تضمنتها اتفاقية وعهد الصلح التي جعلها معاوية تحت قدميه، فلاحق شيعة آل البيت وخيار المؤمنين من الصحابة والتابعين قتلاً وتشريداً وغدراً وإرصاداً ومحاربةً حتى الإمام الحسن عليه السلام ترصد له يريد أن يفتك به وانتهى الأمر باستشهاده عليه السلام بالسم على يد زوجته التي أغراها معاوية بالمال، وما أن استكان لمعاوية الأمر حتى بغى وطغى وانحرف عن مبادئ الدين والقرآن  وجعلها ملكاً عضوضاً مستأثراً، ظالماً، متجبراً، عانى فيه المؤمنون أشد المعاناة، وفقد العدل والتوحيد، وانتشرت الخرافات والانحرافات، وشاع الظلم والجور حتى أصبح المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، ولُعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب على سبعين ألف منبر من منابر المسلمين، انتهى الأمر بموت الطاغية معاوية، بعد أن وطد لأسرته أركان الملك بكل أساليب المكر والخداع والتضليل، وأجبر الناس على مبايعة يزيد السكير الخمير الأشد طغياناً وكفراً، واستهتاراً بالدين والقيم والمبادئ، فعاث في الأرض الفساد وانتتهى به الأمر إلى أن يقتل سبط رسول الله الحسين بن علي عليه السلام في حادثة كربلاء المشهورة التي قتل فيها ما يزيد عن ثلاثة وسبعين من أصحابه منهم ثلاثة وعشرون من أهل بيته.

ومضى يزيد في جرائمه التي يندى لها الجبين، وتتابع بعده طغاة بني أمية، وانتقل الحكم من الفرع السفياني إلى الفرع المرواني فتحكم بنو مروان بالأمة الإسلامية وعاثوا في الأرض الفساد، وطمسوا معالم العدل والتوحيد، وساد الجور والطغيان، فقامت ثورة الإمام زيد بن علي عليه السلام الذي نهض لمواجهة الظلم والطغيان، وسار على نهج جده الحسين الذي استشهد وضحى بدمه وأهل بيته في سبيل إعلاء كلمة الله، فلاقى ما لاقاه الحسين وانتهت ثورته باستشهاده، ولكنها خلخلت قواعد حكم البيت المرواني، وذكرت الأمة بما يجب عليها، وكانت ثورة ابنه الإمام يحيى التي سارت في نفس الخط وانتهت باستشهاده، ولكنها رسخت بين أفراد الأمة قواعد الجهاد والتضحية والفداء والثورة، والخروج على الحاكم الجائر، وكان أمل الأمة من البقية الباقية من آل البيت عليهم السلام وكان أبرزهم وأعلمهم، والشخص الذي اجتمعوا عليه هو الإمام محمد بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، فنشر الدعاة إلى كل الأقطار، واكتملت عوامل الثورة، وذلك بعد أن اجتمع آل البيت عليهم السلام على مبايعته، وذهب بنو العباس إلى خُراسان باسم الدعوة إلى الرضا من آل محمد، وكانت هناك المعارك الكبيرة التي انتهت بسقوط الدولة الأموية التي كان آخر ملوكها مروان الحمار.

وبدلاً من أن يتم الأمر لمن ارتضاه آل البيت ومن أملوا فيه إعادة الأمر إلى نصابه وإقامة دولة الحق والعدل، وتخليص الأمة من الظلم والجور والطغيان غدر بنوا العباس بآل البيت واستبدلوا جوراً بجور، ومن خلافةٍ وراثية اتسمت بالجور والطغيان في عهد بني أمية إلى خلافةٍ وراثية انتزاها بنو العباس فعاثوا في الأرض فساداً وجوراً وطغياناً، وأشعلوها حرباً على كل مؤمن تقي، عذبوا أبناء عمومتهم من آل البيت العلوي، فنالوا منهم أي نيل، حتى أن الشاعر ابن الرومي في قصيدته الميمية الشهيرة قال مخاطباً بني العباس في ظلمهم:

ما نال منهم بنو حربٍ وإن عظمت           

                                تلك الجرائر إلا دون نيلكمُ
 

حكم بني العباس

 بدأ بنو العباس حكمهم سنة 132هـ بمبايعة أبي العباس السفاح، الذي ما لبث أن استدعى خيار آل البيت عليهم السلام وضيّق عليهم في المدينة، وبحث عن الإمامين محمد بن عبدالله (النفس الزكية) وأخيه إبراهيم، ورصد عليهم العيون وحاصرهم وأحصى أنفاسهم في المدينة المنورة،  بعد أن حاول الظفر بالإمام محمد بن عبدالله (النفس الزكية) عليه السلام، وأخيه وحاول قتلهما فلم يظفر.

مات السفّاح وقام بعده أبو جعفر المنصور فبعث بالعيون على المدينة يحصي أنفاس آل البيت عليهم السلام ويبحث عن الإمام محمد بن عبدالله (النفس الزكية) وأخيه إبراهيم، الذي كان يخشى ظهورهما، وبعث بعطاء أهل المدينة وكتب إلى عامله أن أعطي الناس في أيديهم ولا تبعث إلى أحدٍ بعطائه، وتفقد بني هاشم ومن تخلف منهم ممن حضر وتحفظ بإبراهيم ومحمد ابني عبدالله، ففعل وكتب إليه لم يتخلف أحدٌ من العطاء إلا محمد وإبراهيم، فإنهما لم يحضرا، فكتب أبو جعفر إلى أبيهما يسأله عنهما ويأمر بإظهارهما، غير أنه لم يسعفه بذلك فقدم أبو جعفر بنفسه في موسم الحج إلى المدينة ليظفر بالإمام محمد بن عبدالله (النفس الزكية) الذي استمات أبو جعفر المنصور في البحث عنه وأخيه ليفتك بهما، بعد أن فتك تحت سطوة الملك وغدر وفجر وأهلك الحرث والنسل، فقد فتكَ في سبيل الملك حتى بأفراد أسرته ممن كان يخشى سطوتهم ومنهم عمه عبدالله بن علي، كما فتك بأبي مسلم الخراساني الذي كان من دعاتهم وممن أسس لهم الدولة.

صور من ظلم بني العباس:

ويروى أنه أحصي من قتله أبو مسلم في حروبه من بني أمية وقوادهم فوجدوا ذلك ألف ألف وستمائة ألف، فقتله أبو جعفر في شعبان سنة 136هـ  بعد ما أعطاه من العهود والأيمان،  وحاول قتل عيسى بن موسى غيلةً، فاعجزت فيه الحيلة فجاهره في خلع نفسه عن ولاية العهد، إلى غير ذلك ممن قتلهم.

ومنهم والد الإمام محمد بن عبدالله ومن معه من أولاد الحسن وهو: عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب المسمى بـ(الكامل) لأنهم كانوا إذا قالوا من أعلم الناس؟ من أفصح الناس؟ من أكرم الناس؟ من كذا .. قيل عبدالله بن الحسن، وهو أبو الأئمة محمد، وإبراهيم، وإدريس، ويحيى، وموسى، وملخص ما جرى كما تحكيه كتب التأريخ.

ورد أبو جعفر إلى المدينة في منصرفه من الحج سنة 144هـ وأرسل إلى بني الحسن وجمعهم وجعل يوبخ عبدالله لكي يظهر ولديه فلم يفعل.

حكى في (الشافي) ما نصه: (وكان سبب هرب محمد بن عبدالله من أبي جعفر أن أبا جعفر كان قد عقد له بمكة مع المعتزلة، وقبض أبو جعفر عبدالله الكامل في اثني عشر رجلاً من بني الحسن، كما رواه ابن عبد ربه في (العقد الفريد) وقـال الحاكم الجشمي: إنهم فوق عشرين نفراً، فحبسهم في المدينة، ثم حدرهم إلى الكوفة فحبسهم بها، ولما خُرِجَ بهم ارتجت المدينة بالبكاء، وجعل جعفر الصادق ينظر إليهم من حيث لا يبصره أحد ودموعه جارية على خديه، ويقول: ما وفت الأنصار ولا أبناء الأنصار لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ بايعهم على أن يمنعوا محمداً وأبناءه وأهله وذريته مما يمنعون منه أنفسهم وأبناءهم وذرياتهم وأهلهم، ولم يفوا. اللهم، اشدد وطأتك على الأنصار.

قـلت: وفي هذا إشارة إلى حديث زيد بن علي عليهما السلام، عن أبيه، عن جده، قال: قال علي عليه السلام: كنت أبايع لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ على السمع والطاعة له في المحبوب والمكروه، فلما عزَّ الإسلام وكثر أهله، قال: «يا علي، زد فيها على الناس: وعلى أن تمنعوا رسول الله وأهل بيته وذريته مما تمنعون منه أنفسكم وذراريكم»، قال: فحملها على ظهور القوم، فوفى بها من وفى، وهلك بها من هلك.

قـال المسعودي في (مروج الذهب): فحملوا من المدينة إلى الرَّبَذة، ومعهم محمد بن عبدالله بن عمرو بن عثمان بن عفان أخو عبدالله بن الحسن بن الحسن لأمه؛ لأن أمه فاطمة ابنة الحسين بن علي، وجدتهما فاطمة بنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ ، فجرَّد المنصور محمد بن عبدالله بن عمرو بن عثمان بالربذة، فضربه مائة سوط، وسأله عن ابني أخيه محمد وإبراهيم فأنكر أن يعرف مكانهما، فسالت حدقة العثماني في ذلك الوقت، ثم ارتحل المنصور، فوصل بهم إلى الكوفة، فخلَّى منهم سليمان وعبدالله ابني داود بن الحسن، وموسى بن عبدالله بن الحسن، والحسن بن جعفر، وحبس الآخرين.

وممن حبس وقتل أو مات في حبس أبي جعفر المنصور من أولاد الحسن عليه السلام. مع والد الإمام محمد بن عبدالله النفس الزكية (عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب السالف الذكر.

الحسن الثالث بن الحسن الرضا بن الحسن السبط، والإمام إبراهيم الشبه بن الحسن بن الحسن، وعلي بن الحسن الثالث ابن الحسن الرضا بن الحسن السبط، وهو والد الحسين بن علي صاحب فخ، وهو الذي قال له عمه عبدالله بن الحسن: يدعو على أبي الدوانيق، فقال: إن لنا منزلة عند الله لا ننالها إلا بهذا، أو أبلغ منه، وإن لأبي الدوانيق موضعاً في النار، لا يبلغه حتى ينال منا هذه البلية، أو ما هو أعظم. توفي عليه السلام في محبسهم بالهاشمية، وهو ساجد، وعمره خمس وأربعون سنة. وممن حبس أيضاً أخوه العباس عليه وأخوهما عبدالله، وإخوته: محمد الديباج الأصغر، ويعقوب، وإسحاق، أبناء إبراهيم بن الحسن بن الحسن عليه السلام. قتل هؤلاء بضروب من القتل، فمنهم: من بني عليه وهو حي، ومنهم: من سمرت يداه في الأرض.

 

دعوته وبيعته:

سلك عليه السلام مسلك الأئمة السابقين من آل البيت وعلى رأسهم الإمام الأعظم زيد بن علي عليه السلام، سيما وهو القائل على  منبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ: (والله لقد أحيا زيد بن علي ما دثر من سنن المرسلين، وأقام عمود الدين إذ اعوج ولن ننحو إلا أثره، ولن نقتبس إلا من نوره، وزيد إمام الأئمة وأولى من دعا إلى الله بعد الحسين بن علي عليهم السلام)، فقرر الخروج والقيام بالأمر.

بعد أن حصل ما حصل من مضايقة لآل البيت وملاحقة واستمرار بني العباس في ظلمهم وجورهم واستئثارهم بأموال الأمة وأخذ الإمام عبدالله بن الحسن ومن معه من آل البيت في سبيل إظهار ولديه محمد وإبراهيم لأبي جعفر المنصور كي يقتلهما، وبعد أن وصلت المئات والآلاف من الرسائل التي تدعوه إلى الخروج وإنقاذ الأمة من ظلم وجور بني العباس، وأجمع على بيعته العلماء من الزيدية والمعتزلة، ومن أهل الفقه والمعرفة، وبايعه أهل بيته، وبايعه جعفر بن محمد الصادق، ثم أكب على رأسه فقبله واستأذنه في الرجوع إلى منزله لسنه وضعفه، وخرج معه ولداه موسى، وعبدالله أبناء جعفر، وأيضاً عيسى، والحسين أبناء زيد بن علي عليه السلام، وبايعه المنذر بن محمد بن عبدالله بن الزبير، وغيره من آل الزبير،  وبايعه أهل المدينة بعد ظهوره عليه السلام وخطبته على منبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ ومنهم من تردد ولجأ إلى  استفتاء مالك بن أنس في بيعته فأفتى الناس في وجوبها، وقال: لا حكم لمبايعتكم أبا جعفر لأنكم بايعتم مكرهين و(ليس على مكرهٍ يمين).

وتوالت مكاتباته ورسائله إلى دعاته  نجد البعض منها في المصادر التي ذكرت سيرته و نكتفي منها بمقطع من إحدى رسائله يبين سبب دعوته يقول فيها بعد الحمد والثناء وذكر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ : (ثم قبضه الله إليه حميداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ ، فخلف كتابه الذي هو هدىً واهتداءً، وأمر بالعمل بمافيه، وقد نجم الجور وخولف الكتاب الذي به هَدَي واهْتداء، وأميتت السنة، وأحييت البدعة، ونحن ندعوكم أيها الناس إلى: الحكم بكتاب الله، وإلى العمل بما فيه، وإلى إنكار المنكر وإلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونستعينكم على ما أمر الله به في كتابه، من  المعاونة على البر والتقوى.

واعلموا  أيها الناس أنكم غير مصيبي الرشد بخلافكم لذرية نبيكم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ ، ووضعكم  الأمر في غير محله، فغارت أجدكم بعد جماحها بعد جماحها  وتفرقت جماعتكم بعد اتساقها، وشاركتم الظالمين في أوزارها  لترككم التغيير على أُمرائها، ودفع الحق من الأمر إلى أوليائه، فلا سَهْمَنَا وُفِينَاهُ، ولا تراثنا أُعْطِينَاه، وما زال يولد مولودنا في الخوف، وينشأ ناشئنا في القهر ويموت ميتنا بالذل والقهر والقتل بمنزلة بني اسرائيل، تذبح أبناؤهم وتستحيا نساؤهم، ويولد مولودهم في المخافة، وينشأ ناشئهم في العبودية، وإنما فخرت قريش على سائر الأحياء بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ  ودانت العجم للعرب بادعائها لحقنا، والفخر بأبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ ثم مُنعنا حقه، ودُفعنا عن مقامه، أما والله لو رجوا التمكين في البلاد والظهور على الأديان، وتناول الملك بخلاف إظهار التوحيد، وبخلاف الدعوة إلى محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ والإذعان منهم بالقرآن، لاتخذوا أساطير مختلقة بأهوائهم، وعبدوا الأوثان بآرائهم، ولاتخذوا من أنفسهم زعيماً.

فاتقوا الله عباد الله، وأجيبوا إلى الحق، وكونوا عليه أعواناً لمن دعاكم إليه، ولا تأخذوا بسنة بني إسرائيل إذ كذبوا أنبياءهم، وقتلوا ذريتهم على أنها سنة كسنة تركبونها، وعروة بعد عروة تنكثونها، وقد قال الله جل ثناؤه في كتابه: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ} الانشقاق:19].

فاعرفوا فضل ما هداكم الله به وتمسكوا بوثائقه، واعتصموا بعروته من قبل هرج الأهواء، واختلاف الأحزاب، وتنكب الصواب، فإن كتابي حجة على من بلغه، ورحمة على من قبله. والسلام).

الخلاصة بعد أحداث كثيرة اضطر  إلى الخروج والثورة، كانت ثورته في المدينة المنورة لليلتين بقيتا من جماد الآخرة سنة خمس وأربعين ومائة.

دخل المسجد النبوي قبل الفجر فخطب الناس من على منبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: (أما بعد يا أهل المدينة فإني والله ما خرجت فيكم وبين أظهركم تَعَزُزَاً،  ولَغَيْرَكُمْ كان أعز لي منكم، ولكني حبوتكم بنفسي مع ما أنه لم يبق مصر من الأمصار يُعبَد الله فيه إلاّ وقد أُخِذَتْ لي فيه البيعة، ولا بقي أحد من شرق مع غرب إلاَّ وقد أتتني بيعته، وإن أحق الناس بالقيام بهذا الأمر لأبناء المهاجرين والأنصار مع ما قد علمتم من سوء مذهب هذا الطاغية الذي قد بلغ في عتوه وطغيانه أن اتخذ لنفسه بيتاً وبوبه بالذهب، معاندة  لله وتصغيراً لبيته الحرام مع ما سفك من الدماء، وتناول من الأخيار يعذبهم بأنواع العذاب.

اللهم إنهم قد أحلوا حرامك وحرموا حلالك وأخافوا من أمَّنت، وأمَّنوا من أخفت، وقصدوا لعترة نبيك اللهم وكما أحصيتهم عدداً فاقتلهم بدداً ولا تغادر منهم أحداً) ثم نزل فصلى وبايعه الناس طوعاً إلا شرذمةٍ واستقام له الأمر في المدينة، وخرج منها إلى مكة فبويع هناك، ثم عاد إلى المدينة، ووجه أخاه إبراهيم إلى البصرة، وبقي على أمره إلى شهر رمضان.

استشهاده عليه السلام:

وفي الأخير انتهى الحال إلى القتال حيث وجه إليه أبو الدوانيق عيسى بن موسى في أربعة آلاف فارس وألفي راجل، وأتبعه حميد بن قحطبة في جيش كثير فأحدقوا بالمدينة من كل جانب، وقاتل معه باستبسال الكثير من أهل المدينة وممن حولها ومن غيرهم، ووقف هو أيضاً وقاتل بكل شجاعة وإقدام، وقد أحيط به وتفرق عنه أصحابه بخديعة أو بحيلة من امرأة عباسية كانت في المدينة أمرت خادماً لها بقناع أسود رفعها في منارة مسجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ وأمرت خادماً لها فصاح في العسكر الهزيمة الهزيمة فإن المسودة قد جاؤوا من خلفكم فدخل المدينة، ولما رأى الكثير من أصحاب محمد بن عبدالله الراية السوداء مرفوعة على المنارة لم يشكوا في دخول بني العباس، فانهزم الناس وبقي وحده يقاتل حتى ضربه رجل على دقنه فسقطت لحيته على صدره، فرفع بيده وشدها، ثم رمي بنشابة في صدره، فحملوا عليه من كل جانب فقتل وتولى الإجهاز عليه حُميد بن قحطبة.

ولما قتل حُمل رأسه إلى أبي الدوانيق، وكان قتله بعد العصر يوم الإثنين لأربع عشر ليلة خلت من شهر رمضان من سنة خمشة وأربعين ومائة.

مضى الإمام محمد بن عبدالله (النفس الزكية) شهيداً ليواصل بعده أخوه الإمام إبراهيم بن عبدالله بن الحسن الثورة فيستشهد هو الآخر، ويستمر طغيان بنو العباس، وبسالة واستشهاد المناهضين لجورهم وظلمهم من آل البيت عليهم السلام، ومنهم: الإمام يحيى بن عبدالله بن الحسن ، الذي غدر به هارون المسمى بالرشيد  في قصة مشهورة، والإمام إدريس بن عبدالله الذي ذهب إلى المغرب وأقام دولة وانتهى أمره بالسم على يد هارون، وغيرهم من قوافل الأئمة الثائرين على الظلم والجور والطغيان.